لقد أنجز أصحاب القرار في إسرائيل صورًا كثيرة للنصر، فقد قتل عشرات آلاف الفلسطينيّين وجرحوا، وسيعيش آلاف منهم مع عاهات مستديمة، ومئات الآلاف قد هجروا من بيوتهم، ونزحوا إلى خيام جديدة، ها هي مئات آلاف المباني السكنيّة والمؤسّسات قد تحوّلت إلى أنقاض، وقد هدمت عشرات المساجد والمدارس والكلّيّات والكنوز الحضاريّة، ها هو أحد الجنود يهدي ابنته في يوم ميلادها الثاني قصف عمارة مأهولة، وآخر يهدي صديقه تدمير مدرسة ممتلئة بالنازحين أطلق عليها قذيفة قتلت وجرحت العشرات، وها هم الجنود يتلهّون بهدم مؤسّسات تعليميّة وقضائيّة وغيرها، وآخرون يتلهون بتحطيم السيّارات الخاصّة والمتاجر بجرّافات أمريكا وألمانيا العملاقة، وها هم الغزيّون يدفنون قتلاهم في مقابر جماعيّة.
وها هو «الجيش العظيم» يستعمل الطائرات المقاتلة أيضًا ضدّ أهداف في مخيّمات الضفّة الغربيّة!
إنّها صورة، بل ألبوم من صور النصر الكبير، كلّ هذا دون أن يمسّ كل ذلك جوهريا العلاقات الإسرائيلية الخارجية مع حلفائها، وما زالت ثابتة على ما كانت عليه، رغم تهويش وتحذير بعضهم، فما هي سوى بضعة أشهر بعد وقف إطلاق النار، حتّى تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب وأفضل.
العالم يصدر قرارات بوقف إطلاق النار، وتتصدّى أمّهم الرؤوم أمريكا بالفيتو.
إنّه انتقام رهيب، لقد أبدنا آلافًا من الأطفال والشبّان، كان يمكن أن يصبحوا مئات الآلاف لو تركناهم يكبرون ويتكاثرون بصورة طبيعيّة بين البحر والنهر!
لقد وضع نتنياهو وحكومته هدفين لهذه الحرب، إعادة المخطوفين والأسرى من غير أيّ صفقة ورغم أنف المقاومة، إنّه يتخيّل الصورة الرائعة للجنود، وهو يسحبون الأسرى في سيّارات الصليب الأحمر، ثمّ الوصول بهم إلى داخل إسرائيل حيث يكون نتنياهو وجالانت رئيس الأركان ووسائل إعلام عبريّة وعربيّة وعالميّة لنقل خطاب النصر.
هذه الصورة لم تحدث بعد، ولكن ممّا لا شكّ فيه، أنّ نتنياهو وجالانت يتخيّلانها في معظم ساعات النهار والليل، ونتنياهو ينتظر الهاتف الخاصّ من وزير الدفاع ليبشّره بالصورة المشتهاة، يحيى السنوار ومحمّد ضيف والملثّم في إحدى غرف الأنفاق وهم يستسلمون وفوقهم رؤوسهم عدد من رجال المهمّات الخاصّة بأسلحتهم، ثمّ الخروج من الأنفاق مع الصيد الثمين ليكون تتويجًا لحرب لم تعرف إسرائيل مثيلة لها منذ تأسيسها.
طبعًا كلّ هذه أحلام، فالأسرى لن يحرّروا إلّا بصفقة وكما تقضي سنّة الحروب، الجميع مقابل الجميع، ولا أحد أفضل من أحد، أمّا السنوار أو الملثّم والضيف، فإنّهم بلا شكّ سيختارون الشهادة على أن يستسلموا.
وما يجري هو المزيد من الوقت، والمزيد من الدماء وإزهاق الأرواح والمزيد من الخراب فوق الخراب ومزيد من المعاناة في هذا الجحيم، والأهمّ هو كما قال وزير الخارجيّة الأردنيّ إنّ ما تصنعه إسرائيل في هذه الحرب سيخلف حقدًا وكراهية لعدّة أجيال، وهذا صحيح، ومهما بدا أنّ العرب مسالمون ومستعدّون للتسامح والنسيان، إلّا أنّ حجم المجازر الّتي ارتكبت وترتكب ضدّ المدنيّين مع سبق الإصرار والترصّد وبأبشع صورها، من تخريب للمؤسّسات الصحّيّة وغارات على سيّارات الإسعاف وقنص للصحفيّين والمؤسّسات العامّة وقتل للنازحين والتخريب المنهجيّ للأملاك الخاصّة وتجويع الناس ، إنّها صور خزي وعار، أيّ مقاتل نخبويّ هذا الستّينيّ المترهّل الجسد!
يجب وقف هذه المحرقة الآن وقبل الآن، فما ألقته هذه العصابة الحاكمة من قنابل على قطاع غزّة يكفي لتدمير قارّة. وعلى هذه العصابة أن تستيقظ من أوهام إنهاء القضيّة الفلسطينيّة، فقد عادت وبقوّة غير مسبوقة منذ بدأ الصراع، ورغم هذا البلاء وهذا الألم، لن يرحل شعب فلسطين، ومن يرفع شعارات «إمّا نحن أو هم»، فهو يعني تأبيد الصراع والقتل، أمّا من يرفعون شعار «نحن وهم» فيعملون لأجل هذا، وإن كانوا قلّة، فقد اختاروا الطريق القويم الّذي لا طريق للشعبين سواه، ومن يحاول تجاهل الآخرين أو التخلّص منهم، فإنّما يكون مجرمًا سفّاحًا ومصيره مثل أمثاله ممّن سبقوه إلى القائمة السوداء من تاريخ البشريّة.
{ كاتب من فلسطين
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك