اجتماعات التغير المناخي، والتي تُعرف رسميا باجتماعات الأمم المتحدة للدول الأطراف في «الاتفاقية الإطارية بشأن التغير المناخي» أصبحت الآن مُكررة في كثير من بنودها الأساسية والتي مازالت تراوح في مكانها دون حلٍ جذري دائم.
فقمة الأرض التاريخية في عام 1992 في مدينة ريو دي جانيروا وضعتْ القاعدة الرئيسة وخارطة طريق لدول العالم للتفاوض حول صيغة معاهدة دولية مشتركة ملزمة ينفذها الجميع سواسية، ويعمل بمقتضاها على خفض انبعاثاتها بمستويات محددة من الغازات المتهمة بإحداث التغير المناخي وتداعياته الكثيرة كارتفاع درجة حرارة الأرض، وبالتحديد العمل على خفض انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث من أية عملية احتراق للوقود الأحفوري في السيارات، أو محطات توليد الكهرباء، أو المصانع.
ومن أجل الوصول إلى هذا الهدف لحماية كوكبنا من التغير المناخي ومنع سخونتها وارتفاع حرارتها، إضافة إلى دعم ومساعدة الدول الفقيرة والنامية المتضررة من التغير المناخي، فقد دعتْ الأمم المتحدة إلى عقد اجتماعات سنوية بين الدول الأطراف في الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي لصياغة معاهدة مناخية والتفاوض حولها، فكان الاجتماع الأول في برلين، والمعروف بـ كوب (1) في عام 1995، والاجتماع الأخير رقم (28) في دبي.
ومن خلال تحليلي للقرارات التي تمخضت عن هذه الاجتماعات التي تُعقد مدة 28 عاما حتى الآن، ففي تقديري فإن معظم هذه الاجتماعات لم تُحدث أي فرقٍ جوهري مشهود بالنسبة إلى تحقيق الأهداف الرئيسة من هذه الاجتماعات الأممية المتمثلة في خفض انبعاثات الدول من غاز ثاني أكسيد الكربون والغازات المناخية الأخرى من أجل منع سخونة الأرض وارتفاع حرارتها، كما إنها لم تُقدم أي إنجازٍ ملموس على الأرض، ولذلك نسي التاريخ الكثير من هذه الاجتماعات، وبقيت ميتة وموجودة فقط في أرشيف هذه الاجتماعات.
ولكن من الاجتماعات التي حققت جانباً من الأهداف، وسارت بالطريق السليم لعلاج قضية التغير المناخي، وخطت خطوات جبارة ومتقدمة إلى الأمام هي اجتماع كيوتو في اليابان، أو كوب (3) في ديسمبر عام 1997. ففي هذا الاجتماع وافق المفاوضون لأول مرة بالإجماع على بروتوكول كيوتو الذي يلزم قانونياً الدول الصناعية المتقدمة المسؤولة تاريخياً عن وقوع ظاهرة التغير المناخي بالحد من انبعاثاتها بنسبٍ معينة ومحددة سلفاً، أي أن تقوم كل دولة صناعية كبرى باتخاذ الإجراءات العملية الميدانية لخفض انطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي، وبالتالي الحد من وقوع تداعيات التغير المناخي مثل ارتفاع حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، وزيادة حمضة مياه المحيطات، والكوارث المناخية التي تنجم عنها.
ولكن هذا النجاح التاريخي الكبير لم يدم طويلاً، فالأجواء السياسية في بعض الدول، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، التي شهدت تغيراً جذرياً في زعامة البيت الأبيض من الديمقراطي كلينتون الذي وقع على بروتوكول كيوتو وتعهد بالالتزام به إلى الجمهوري جورج بوش الابن الذي رفض البروتوكول جملة وتفصيلاً في عام 2001، كما أن الكونجرس لم يصادق عليه. فهذه النكسة في المواقف والسياسات تجاه التغير المناخي، أرجع القضية إلى الوراء كثيراً وإلى نقطة الصفر، من حيث بدأت، وهي العمل لصياغة جديدة لمعاهدة ثانية، والتفاوض عليها مرة ثانية.
وفي هذه الأثناء عُقدت العديد من الاجتماعات العقيمة التي لم تحقق أي تقدم في المفاوضات، ولم تَخرجْ بأية نتيجة ملموسة تحمي كوكبنا من شر ارتفاع حرارتها، حتى جاء اجتماع كوب(21) في باريس عام 2015. وفي هذا الاجتماع أجمع المفاوضون على الالتزام «طوعياً» في الحد من انبعاث الاحتباس الحراري، وبخاصة غاز ثاني أكسيد الكربون، بحث تعمل كل دولة حسب مصالحها، وظروفها، وإمكاناتها المالية والتقنية والفنية على وضع حدٍ لانبعاث الملوثات المناخية من خلال تحديد أهدافها القطرية، بحيث إن مجموع هذه الجهود القطرية الدولية تعمل على منع ارتفاع حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية من مستويات ما قبل الثورة الصناعية. وعلاوة على ذلك، فعلى كل دولة تقديم تقرير سنوي «طوعي» حول كل الإنجازات التي حققتها في مجال خفض الانبعاث.
وهذا الاجتماع الذي كان يُعد تاريخياً في ذلك الوقت لم يحقق أهدافه الرئيسة لعدة أسباب. فالأول هو أن الحد من الانبعاث كان طوعياً وليس الزامياً، ولذلك لم تلتزم بعض الدول بتعهداتها، ولم تُقدم أية تقارير سنوية تبين جهودها في خفض انبعاث الملوثات، والثاني وهو الأهم فهو موقف أكبر دولة ملوثة للهواء الجوي وتتحمل تاريخياً مسؤولية نزول هذه الكارثة المناخية على كوكبنا، وهي الولايات المتحدة الأمريكية التي لوثت بيئتنا لأكثر من قرنين من الزمان، فما حدث لبروتوكول كيوتو وقع نفسه لتفاهمات باريس. فالرئيس أوباما وقَّع على هذه التفاهمات، في حين أن وصول الجمهوري رونالد ترامب الذي لا يؤمن أصلاً بدور الإنسان في وقوع التغير المناخي، ولا يؤمن بالعمل الدولي الجماعي المشترك، انسحب كلياً من هذه التفاهمات، ومن دون أن تلعب أمريكا دورها وتقوم بواجباتها الأخلاقية والإنسانية في خفض انبعاثاتها فلا يمكن تحقيق أحد الأهداف الرئيسة لاجتماع باريس، وهو منع سخونة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية.
ومنذ ذلك الوقت عاشت الدول، ومازالت حتى يومنا هذا في فراغ من أية معاهدة ملزمة لخفض الانبعاث، وجميع الاجتماعات التي عُقدت بعد عام 2015 لم تقدم تطوراً ملموساً. فعلى سبيل المثال، وبعد أكثر من 30 عاماً، وبالتحديد في الاجتماع رقم (26) أو كوب 26 الذي عُقد في مدينة جلاسجو البريطانية في نوفمبر عام 2021، وبعد مناقشات ماراثونية عصيبة استمرت أكثر من 14 يوماً لم يتمكن المفاوضون من الموافقة على قرار جماعي مشترك بشأن الوقود الأحفوري. وفي الدقائق الأخيرة قبل إغلاق الاجتماع، توصلت الوفود المشاركة باقتراح من الهند والدول النامية إلى صيغة قرار ضعيف ومرن ومكون أساساً من كلمة واحدة تحتوي على ثلاثة حروف فقط، وهي الخفض التدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري عبر السنوات القادمة(phase down)، بدلاً من الصيغة الأولية وهي التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري والتخلص منه نهائياً بعد فترة محددة من الزمن(phase out)، أي إن المناقشات الطويلة دارت حول كلمتي (down) و (out). وفي اجتماع شرم الشيخ، كوب (27) لم تحدث أية انفراجة في المفاوضات، سوى الموافقة على مبدأ إنشاء صندوق تحت مسمى «الخسائر والأضرار» ليسهم في مساعدة الدول الفقيرة النامية التي تضررت من الكوارث المناخية الناجمة عن التغير المناخي.
وأخيراً جاء اجتماع دبي، كوب (28) الذي نجح في اليوم الأول من إصدار قرار بالموافقة على تفعيل وتشغيل الصندوق، والتزمت بعض الدول بدفع مبالغ مالية زهيدة لا تبلغ في إجمالها 1% مما يحتاج إليه الصندوق فعلياً. ثم بعد هذا القرار حدث هدوء في أعمال الاجتماع حتى الساعات الأخيرة من آخر يوم، وهو الأربعاء 13 ديسمبر. وبعد التفاوض على عدة مسودات، وافق الجميع على بعض القرارات التي لا تحقق هدف الوصول إلى معاهدة دولية ملزمة للجميع لخفض الانبعاث، كما إنها لن تمنع ارتفاع حرارة الأرض أكثر من 1.5 درجة مئوية. وقد طرح الاجتماع «جملة» من الخيارات المرنة الطوعية التي تعطي الفرصة لكل دولة لاختيار ما يتفق مع مصالحها. فعلى سبيل المثال، وافق المفاوضون على التحول بعيداً عن الوقود الأحفوري ضمن أنظمة الطاقة، والبدء في العمل بخطة في العقد الحالي لتحقيق الحياد الصفري بحلول عام 2050، وبما يتماشى مع النتائج العلمية. كما دعا الاجتماع الدول إلى التسريع في استخدام الطاقة المتجددة، ورفع كفاءة وفاعلية تشغيل مصادر الطاقة، والتعجيل في خفض الانبعاث. كما حث الدول على تبني التقنيات التي لا تنبعث منها الملوثات، والعمل على إزالة ثاني أكسيد الكربون قبل انبعاثه إلى الهواء الجوي، وخفض الانبعاث من وسائل المواصلات بالوسائل المناسبة.
وجدير بالذكر فإن اجتماعات التغير المناخي تسير في واد وشركات الوقود الأحفوري في واد آخر، وكأننا في عالمين مختلفين غير مترابطين. فاجتماعات التغير المناخي تسعى إلى خفض استخدام الوقود الأحفوري بشكلٍ تدريجي مع الزمن، في حين أن شركات الوقود الأحفوري تعمل كل يوم على مشاريع جديدة لاستخراج النفط، والغاز، والفحم، أي ضد توجهات اجتماعات المناخ، ولذلك فإن أرباحها لم تتغير، بل وتزيد. والتحقيق في مجلة «شبيجل» الألمانية المنشور في 11 ديسمبر 2023 تحت عنوان: «هل العالم حقاً مستعد للتخلي عن الوقود الأحفوري؟»، يؤكد هذه الظاهرة. فهذا التحقيق يؤكد استمرار الحفر في كل أرجاء الأرض دون هوادة، واستمرار الازدهار الاقتصادي من هذه العمليات بين الشركات النفطية العملاقة. فعلى سبيل المثال الشركات الكبرى الخمس مثل إكسون موبايل، وشيفرون، و بي بي، وشل حققت أرباحاً نحو 200 بليون دولار في عام 2022. كما أفاد التحقيق أنه بعد عام 2015، أي بعد الإجماع الدولي على تفاهمات باريس، تم البدء في أكثر من 70 مشروعاً ضخماً متعلقاً بأحد أنواع الوقود الأحفوري، وهناك الآن 128 مشروعاً في مرحلة التخطيط.
وهذا في الحقيقة مثال صارخ على النفاق الدولي وعدم الشفافية والوضوح في التعامل مع القضايا الدولية، إضافة إلى تغليب المصالح الاقتصادية للشركات العملاقة المتنفذة على مصالح وصحة كوكبنا.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك