لا يُعدّ أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في الحرب الحالية ضد قطاع غزّة مختلفًا عن أدائها في الحروب السابقة، سواء في القطاع أو في جبهات أخرى، سيما من ناحية النأي بالنفس عن البحث في الخفايا البعيدة عن الضوء وفي كل ما يتعلّق بتحدّي الرقابة العسكرية التي لا يَخفى أنها الآن أكثر صرامةً من أي وقتٍ مضى.
كما يتّسم أداء وسائل الإعلام هذه بتغييب الجانب المدنيّ للحرب، وعلى وجه الخصوص الجانب المدنيّ المتعلق بالطرف الآخر، الفلسطيني، حيث إن قصص المعاناة لدى السكّان المدنيين الفلسطينيين لا تجد لها حتى موطئ قدم على الشاشة الصغيرة، وكذلك ضمن جلّ تقارير الصحافتين المكتوبة والمسموعة.
وحتى اللحظة ما انفكّت وسائل الإعلام الإسرائيلية مساهما رئيسيا في تأجيج مناخ عام من التأييد الكامل والمطلق للحرب وترويج «عدالتها»، وإن كان بعضها لا يُقصي علامات استفهام طرحت منذ اليوم الأول لاندلاعها، بشأن مسؤولية رئيس الحكومة نتنياهو عنها. ومع كل هذا تظهر بين الفينة والأخرى، في موازاة هذا التأييد، مواقف نقدية تشي ببعض العناصر المتعلقة بإدارة الحرب، والأهم بقدرتها على تحقيق الأهداف الموضوعة لها، وقد تعاظمت هذه المواقف النقدية مع الاقتراب من مرحلة الهدن التي توصف بأنها إنسانية، وبعد أن اتّضح جليا أن الجيش الإسرائيلي قد أخفق في إحراز النصر، غير أن الروح العامة التي تظهر من تغطية الحرب، بالمفهوم الأوسع، أي الاستراتيجي، لا تزال غير نقدية عيانًا بيانًا، منذ لحظة اندلاعها.
يتمثّل الجزء الأكثر إثارة من نزعة تأييد الحرب والمطالبة بعودتها إثر انتهاء الهدن، والتي تهيمن على معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، في وجود تصميم على تحقيق غاياتها مثلما جرى صوغها في قرار الحكومة الإسرائيلية شنّها، وهي القضاء على قدرات «حماس» العسكريّة والسلطوية، والسعي نحو إقامة «واقع أمني» جديد في القطاع، وإطلاق سراح الأسرى والرهائن المدنيين. وهي نزعة تؤكّد قراءتنا للفشل في تحقيق تلك الغايات حتى الآن، وتشير في العمق إلى قدرات المقاومة.
وبحسب معظم المحللين العسكريين في الصحف الإسرائيلية الرئيسية، يديعوت أحرونوت ويسرائيل هيوم ومعاريف وهآرتس، حقّق الجيش على مدار الأسابيع الأولى من المناورة البريّة التي (بدأت يوم 27/10/2023) إنجازات مهمّة ولكنها تكتيكية، وتلقّت حركة حماس ضربات عسكرية كبيرة، وبالرغم من ذلك كله مازال حسم «حماس» بعيدًا جدًا بقدر ما إن هذه الحركة بعيدة كثيرًا عن رفع الراية البيضاء.
وفي الواقع المستجد في القطاع، يسيطر الجيش على معظم مناطق الشمال، باستثناء القسم الشرقي الذي واجه فيه جيش الاحتلال معارك ضارية في جباليا والشجاعيّة. وفي الأيام التي سبقت الهدن، شهدت مناطق شمال القطاع التي يسيطر عليها الجيش مواجهات يومية مع فرق مقاتلين من «حماس» كانت تشن هجماتها من فتحات الأنفاق، أو من خلال قنّاصة كانوا متمركزين وراء نوافذ بنايات شاهقة، وأدّت إلى تدفيع الجيش ثمنًا.
وكانت هذه الهجمات بمثابة روتين يومي عايشه الجنود الإسرائيليون في بيت حانون والشاطئ والشيخ عجلين والرمال وتلّ الهوى وأحياء وبلدات أخرى في شمال القطاع. كما أثبت مسار الهدنة أن «حماس» لا تزال تعمل في أطر منظمّة للغاية، ووفقًا لهيكلية قيادية.
لئن كان كل ما تقدّم نقله من تقارير الصحف الإسرائيلية هو بمنزلة معلومات عامة غير تفصيلية أو نسبية لا أكثر، من دون التقليل من دلالاتها، فإن أقصى المتفائلين بشأن الإنجازات التي حقّقتها الحرب الإسرائيلية في قطاع غزّة يبدون متشائمين أيضًا، وفي مقدمتهم الرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية وقيادة سلاح الجو، الجنرال احتياط عاموس يدلين، الذي يعتقد أنه في إطار السعي إلى إنجاز هدف تقويض حماس لم تجتز إسرائيل سوى 50% من الطريق من وجهة نظره بالطبع، ومازالت طريق الوصول إلى النقطة المرغوبة طويلة جدًا.
{ كاتب ومحلل فلسطيني
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك