إن انقضاء اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل، الذي نجحا من خلاله في تبادل السجناء والرهائن من كلا الجانبين، وإيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة؛ قد ترك مسارا مستقبليا مبهما للحرب، خاصة مع عدم وضوح نوايا إسرائيل، ورغبتها في إلحاق أكبر قدر ممكن من المعاناة للفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
وأشار «روبرت بايب»، في مجلة «فورين أفيرز»، إلى أن إسرائيل «مارست أعنف حملات القصف في التاريخ على منازل المدنيين، والبنية التحتية الأساسية، والمستشفيات، والمدارس، وملاجئ ومباني الأمم المتحدة؛ ما أسفر عن استشهاد قرابة 18,000 شخص حتى الآن (بينهم ما يزيد على 7 آلاف طفل، و5 آلاف امرأة)، وتجاوز عدد المصابين 50 ألفا (أكثر من 75% منهم أطفال ونساء)، فضلا عن تدمير أكثر من 70% من المنازل، و1,9 مليون نازح.
وبشكل عام، سلط المحللون الضوء ليس فقط على الخسائر التي سيتكبدها الجانبان نتيجة الصراع طويل الأمد؛ لكن أيضا على كيفية تحمل حماس الهجمات المضادة لها حتى الآن، وكيفية استقرار قيادتها وبنيتها الأساسية، بالإضافة إلى اكتسابها مزيدا من الدعم والمساندة في المنطقة. ويرى «بايب»، أن اجتياح إسرائيل لغزة ليس «محكومًا عليه بالفشل»، فحسب، بل إنه «فاشل بالفعل».
ومع ذلك، فإن استمرار القتال يزيد من التوقعات القاتمة بالنسبة إلى مستقبل غزة وسكانها. وعلق «جورجيو كافييرو»، من شركة «غلف ستيت أناليتكس»، بأن «النظام السياسي الذي سينشأ في القطاع بعد انتهاء الحرب غير واضح»، وخاصة أن إسرائيل «ليس لديها خارطة طريق واضحة تجاه مستقبل غزة»، كما أن الولايات المتحدة ، «بعيدة عن أرض الواقع» في هذا الصدد.
ورأى «هيو لوفات»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن «إسرائيل تتعمد بشكل همجي وممنهج تدمير المؤسسات المدنية، والبنية التحتية الضرورية لاستقرار غزة بعد انتهاء الصراع»، حيث إن جيشها يتعمد إجبار الفلسطينيين على الخروج من أراضيهم من خلال دفعهم إلى حدود مستحيلة العيش، وجعل بقية القطاع غير صالح للسكن، لكن الدلائل كلها تشير إلى أنها فشلت خصوصا بعد أن استمر العدوان لشهره الثالث.
وأتاحت الهدنة التي تم الاتفاق عليها أواخر نوفمبر2023، فرصة قصيرة للأمل في إمكانية التوصل إلى اتفاق ملموس لوقف إطلاق النار، والذي سمح بإطلاق سراح أكثر من 100 رهينة إسرائيلية، و240 سجينًا فلسطينيًا في السجون الإسرائيلية؛ بيد أن المفاوضات قد انهارت، واستأنفت إسرائيل غزوها البري الواسع في 4 ديسمبر على جنوب القطاع، بما في ذلك قيام جيش الاحتلال بقصف «مناطق آمنة تم تحديدها آنفاً»، وفق ما أشارت إليه «الكسندرا شارب»، في مجلة «فورين بوليسي».
ومع استئناف إسرائيل غزوها، أضحى المراقبون الغربيون غير مقتنعين بأنها ستحقق نصرا عسكريا، وحذروا من أن سياستها ستؤدي إلى زيادة مشاكلها الأمنية، وزيادة العنف في المنطقة على المدى الطويل. وعلى الرغم من إصرار «رونين بار»، رئيس جهاز الأمن العام «الشاباك»، على أن الجيش الإسرائيلي سوف يدمر حماس «في كل بقعة»؛ فإن «بايب»، قد رأى أن قوات الاحتلال لم تثبت سوى قدرتها على «إلحاق الأذي بالمدنيين»، مع «افتقادها القدرة على تدمير حماس»، بل إن الحركة أصبحت «أقوى مما كانت عليه قبل الغزو». وخلص «جيفري أرونسون»، من «معهد الشرق الأوسط»، إلى أنها قد «تُعاني ضررا وخسائر، لكن لن يتم القضاء عليها»، ومن المرجح أن تقدر على مواصلة القتال مهما طال.
وفي الاتفاق، وثق «بايب»، كيف أن البنية التحتية للحركة «لم يتم تفكيكها من قبل الجيش الإسرائيلي، وأنها ستعود للقتال مرة أخرى، بشروط أكثر ملاءمة مستقبلًا»، وأشار إلى أن وحشية الهجمات الإسرائيلية ضد المدنيين من شأنها أن تؤدي إلى تدعيم صفوف الفلسطينيين مع حماس، بدلاً من الوقيعة بينهما.
وتُظهر استطلاعات الرأي التي أجراها «مركز العالم العربي للبحوث والتنمية» في سبتمبر 2023، أنه في حين أن 27% فقط من المشاركين يعتقدون أن حماس هي أفضل ممثل للقضية الفلسطينية، كان 76% منهم بحلول منتصف نوفمبر، ينظرون إليها بشكل إيجابي، مع تسليط «بايب»، الضوء على أن «أكثر من 500 ألف فلسطيني تتراوح -أعمارهم بين 18 و34 عامًا- باتوا الآن مجندين فاعلين للحركة، وجماعات المقاومة الفلسطينية الأخرى التي تسعى إلى استهداف إسرائيل». ومن ثمّ، فإن الوسيلة التي قررت إسرائيل من خلالها الانتقام من سكان غزة؛ هي التي ستعزز من المقاومة الفلسطينية المسلحة ضدها.
ويرى «كافييرو»، أنه «من المؤسف تقييم صناع القرار في الولايات المتحدة وإسرائيل بشكل غير صحيح للحركة على أنها سبب الصراع، وليس اعتبار الصراع سببًا في نشوء حماس؛ وبالتالي، ودون حل عادل للقضية الفلسطينية»، لن يكون هناك سلام في غزة، والضفة الغربية، ولا في إسرائيل في أي وقت قريب أو بعيد.
وعلى الرغم من أن «نتنياهو»، يدرك الصعوبات أمام جيشه في إلحاق هزيمة عسكرية بحماس؛ وعوضًا عن إيجاد حل دبلوماسي أو سياسي لهذه القضية؛ أشار الخبراء إلى رغبة الحكومة الإسرائيلية في جعل غزة غير مناسبة للعيش. وأوضح «أرونسون»، أن «جعل القطاع غير صالح للسكن، ليس «هدفا سياسيا فقط»، بل «عسكريا أيضا». ووافقه «ماركو كارنيلوس»، السفير الإيطالي السابق في العراق على أن «حلم» جيش الاحتلال يتبلور في تفعيل «نكبة غزة». وتتجلى الأدلة على هذه السياسة في التطويق المنهجي لمئات الآلاف من الفلسطينيين داخل جيب يزداد ضيقا في جنوب القطاع؛ وهو ما اعترف به «فيليبو غراندي»، المفوض السامي للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، مؤكدا «تعرض المدنيين الفلسطينيين للانتهاكات»، حيث «يندفعون أكثر فأكثر نحو زاوية ضيقة في منطقة هي بالفعل ضيقة للغاية».
وعلى الرغم من هذا الواقع، لا يزال هناك توقع يستحيل تحقيقه في الخطاب الغربي بإمكانية التوصل إلى اتفاق تُعيد بمقتضاه إسرائيل إدارة القطاع إلى قيادة فلسطينية مقبولة سياسيا، مقابل ضمانات أمنية. ويمتد هذا إلى القوى الغربية الكبرى. وذكرت «ناهال الطوسي»، في صحيفة «بوليتيكو»، أن إدارة بايدن «أمضت أسابيع في صياغة خطة متعددة المراحل لمرحلة ما بعد الحرب»، من أجل «سلطة فلسطينية متجددة»، للسيطرة على غزة، معتبرة أنها فقط «أفضل الخيارات السيئة».
في حين، رأى «ناثان براون»، من «مركز كارنيغي للسلام الدولي»، أنه قد لا يكون هناك «مستقبل لغزة»؛ حيث إن «التدهور على مستوى الحكم والأمن والنظام العام»، سيترجم إلى «تلاشي أي أفق سياسي أو عملية دبلوماسية، أو حتى آفاق مستقبلية» للفلسطينيين داخل القطاع.
وعلى الجانب الآخر، أشار «أرونسون»، إلى أن الجيش الإسرائيلي يحاول تشديد سيطرته الاحتلالية على ما تبقى من القطاع. وعليه، يرى أن المصير الأكثر ترجيحًا، هو ذلك السيناريو الذي «سيسيطر فيه الجيش الإسرائيلي على غزة، مثلما حدث في الفترة من 1967 إلى 2005»، مشيرًا إلى أن إنشاء نقاط تفتيش وقواعد عسكرية لمنع اللاجئين من العودة إلى شمال غزة، يعد «دليلاً واضحًا» على هذا التأكيد.
وبطبيعة الحال، فإن الاحتلال العسكري الإسرائيلي لغزة، لن يؤدي إلا إلى تأجيج التوترات. وأشارت «فيديريكا فاسانوتي»، من «معهد الدراسات السياسية الدولية»، إلى أنه بالنسبة لإسرائيل، فإن «الاحتلال التكتيكي الراهن بعيد كل البعد عن إحراز نصر ما، أو التوصل إلى سلام حقيقي ودائم»، موضحة أن الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين في القطاع، أثارت موجات من الغضب ضدها، و«سوف يمر وقت طويل قبل أن يستقر الوضع مجددًا». ووفقا لـ«كافييرو»، فإن الاحتلال الإسرائيلي لغزة هو «حافز لموجات من العنف الأبدي والمقاومة المسلحة»، ولن يؤدي ذلك إلى استشهاد، وإصابة أعداد كبيرة من الفلسطينيين فحسب، بل أيضا استمرار الخسائر في صفوف قوات الاحتلال والمدنيين الإسرائيليين.
وبالفعل، تضاءلت احتمالات قيام دولة فلسطينية، مع «استمرار الحرب الإسرائيلية»، و«امتناع الولايات المتحدة عن الدعوة إلى وقف إطلاق النار»، و«اتخاذ إجراءات جادة نحو فرض السلام». وأوضح «أرونسون»، أن احتلال غزة، يتوافق مع «الحملة الإسرائيلية العسكرية المستمرة منذ عقود من الزمان ضد فلسطين»، والتي تسعى للتصدي لأي محاولة فلسطينية لتغيير الوضع الراهن».
من جانبه، أشار «بايب»، إلى أن نمو المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة، يظل «عاملاً مركزيًا في إثارة الصراع»، لاسيما مع زيادة عدد المستوطنين- من 4000 فقط عام 1977، إلى أكثر من نصف مليون في 2023- وهو ما يمثل «سببًا أساسيًا لفقدان فكرة حل الدولتين لمصداقيتها».
بالإضافة إلى ذلك، واصلت الحكومات الغربية تطبيق «معاييرها المزدوجة»، تجاه قضايا حقوق الإنسان، والقانون الدولي. وفي الوقت الذي دعا فيه وزير الخارجية الأمريكي «أنتوني بلينكن»، إسرائيل إلى بذل المزيد من الجهد لضمان حماية المدنيين -فيما وصفته «باربرا آشر»، من شبكة «بي بي سي»، بأنه «أقوى تصريح حتى الآن من البيت الأبيض بشأن قصف إسرائيل»- فإن «واشنطن»، أرسلت قنابل «خارقة للتحصينات»، تزن الواحدة منها 2000 رطل إلى إسرائيل لاستخدامها في حربها بغزة.
ومنذ بداية العدوان، قدمت الولايات المتحدة للجيش الإسرائيلي ما يزيد على 15 ألف قنبلة، ونحو 60 ألف قذيفة مدفعية. ووثقت منظمات حقوق الإنسان، مثل «منظمة العفو الدولية»، كيف تم خلال هذه الحرب استخدام القنابل الأمريكية الصنع في الهجمات الإسرائيلية التي أدت إلى استشهاد آلاف المدنيين الفلسطينيين، معظمهم من النساء والأطفال.
على العموم، بينما خلص «بايب»، إلى أن فشل إسرائيل في غزوها العسكري لقطاع غزة، «يصبح أكثر وضوحًا يومًا بعد يوم»، ناهيك عن أن المعاناة الهائلة للفلسطينيين -الذين تعرضوا بالفعل لحصار دام 16 عامًا قبل هذه الحرب- قد تفاقمت إلى درجة أن «وليام شومبورج»، من «اللجنة الدولية للصليب الأحمر»، وصف هذا الوضع بأنه أشبه بـ«الجحيم على الأرض»؛ فإنه مع ذلك، يتفق المراقبون الغربيون على أن هناك أملا قد يلوح في الأفق للتوصل إلى حلول في أي وقت قريب.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك