في التاسع من ديسمبر من كل عام يحتفل العالم أجمع باليوم الدولي لمكافحة الفساد، منذ أن قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة اختيار هذا اليوم كيوم دولي لمكافحة الفساد، ودخلت حيز التنفيذ في شهر ديسمبر عام 2005 إدراكا عالميا لما يمثله الفساد بأنواعه المتعددة من خطر جسيم على المبادئ والقيم الإنسانية الخيرة، ولما يؤدي اليه من عرقلة لجهود التنمية المستدامة بكل أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
والفساد ظاهرة سلبية عرفتها البشرية منذ أقدم الازمنة لا بل منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل ابني جدنا آدم عليه السلام، وقد جرمت الاديان السماوية والتشريعات الوضعية هذه الظاهرة وعدتها من الافعال المناقضة للخير والصلاح.
في هذه المقالة نسلط الضوء على ماهية الفساد وأنواعه وسبل مكافحته مع الاشارة الى تجربة مملكة البحرين في مكافحة الفساد. وبدءا لا بد من الإشارة إلى أن الفساد كمصطلح يعني جميع التصرفات والمواقف السلبية في الحياة، وهو ظاهرة اجتماعية واقتصادية وسياسية تتناقض مع القيم والسلوكيات السوية التي تستند الى المبادئ الاخلاقية. وعرفه تقرير التنمية الصادر عن البنك الدولي عام 1997 بانه سوء استغلال السلطة العامة للحصول على مكاسب شخصية، وعرفته اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد بانه «القيام بأعمال تمثل أداء غير سليم للواجب أو إساءة استعمال السلطة توقعا لفائدة، أو سعيا للحصول عليها بوعد بها، او عرضها او طلبها بشكل مباشر او غير مباشر».
كما عرف بانه استخدام النفوذ العام لتحقيق ارباح ومنافع خاصة. وعرف ايضا بانه السلوك المنحرف عن الواجبات الرسمية محاباة لاعتبارات خاصة كأطماع مالية او مكاسب اجتماعية او ارتكاب مخالفات للقوانين والنظم السائدة لاعتبارات شخصية.
وورد الفساد في القرآن الكريم بمعان متعددة في (43) آية، فقد جاء في سورة البقرة بمعنى التخريب، قال تعالى «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء» (آية 30)، وجاء في سورة الإسراء بمعنى الهلاك، قال تعالى «وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين» (اية 4).
والفساد على أنواع عديدة منها الفساد الاداري الذي عرفته منظمة الشفافية الدولية بانه كل عمل يتضمن سوء استخدام المنصب العام لتحقيق مصلحة لنفسه او جماعته كالمحاباة والمحسوبية في التعيينات الوظيفية. والفساد المالي الذي يتعلق بالانحرافات المالية ومخالفة التشريعات واللوائح المالية، ومخالفة النظم الخاصة بأجهزة الرقابة المالية، وفي قبول الرشاوى، أو التهرب من الالتزامات المالية.
والفساد الأخلاقي الذي يتمثل في الانحرافات السلوكية المتعلقة بسلوك الموظف وتصرفاته كالقيام بأعمال مخلة بالآداب العامة في أماكن العمل، أو استغلال الموظف منصبه لبناء علاقات لا أخلاقية مع عملاء مؤسسته.
والفساد السياسي الذي يتعلق بمخالفة التشريعات والقواعد والأحكام التي تنظم عمل المؤسسات السياسية والعامة في الدولة مثل تقديم المصالح الشخصية لأفراد اعتمادا على رؤية عرقية أو اثنية او حزبية من دون النظر إلى المصلحة العامة للمجتمع، او الاحتكار المطلق للسلطة وعدم إشراك الأفراد في الرأي والقرار وغياب المؤسسات الدستورية او تغييبها عمدا.
وعلى الصعيد الدولي، فإن اسوأ انواع الفساد وأشدها ضررا على الانسانية انفراد مجموعة صغيرة من دول العالم بحق تقرير مصير العالم أجمع عبر استحواذها على حق النقض (الفيتو) في مجلس الامن الدولي، وهذا ما لاحظناه قبل ايام بانفراد الولايات المتحدة الامريكية في نقض قرار مجلس الامن الداعي الى فرض هدنة انسانية في غزة، وما نجم عن ذلك من مشاركة اخلاقية وقانونية في ذبح المزيد من الأطفال والنساء والمدنيين عامة من أبناء الشعب الفلسطيني.
وتتعدد أسباب تفشي ظاهرة الفساد في بلدان العالم من أسباب سياسية ناجمة عن غياب الاستقرار والامن وضعف السلطة، والهيمنة على مصادر السلطة والقوة من أطراف لا أخلاقية، واسباب تربوية وسلوكية ناجمة عن عدم غرس القيم الأخلاقية والوطنية والانسانية في نفوس الافراد منذ الصغر، وأسباب اقتصادية ناجمة عن عدم اكتفاء الموظف بمورده المالي لإشباع احتياجاته، او الطمع فيما عند الآخرين من ثروات. وأسباب قانونية ناجمة عن سوء صياغة القوانين واللوائح المنظمة للعمل أو قصورها وغموضها، الأمر الذي يؤدي بالموظف إلى تفسيرها بصورة تتعارض مع المصلحة التي وضعت من أجلها.
وعلى الصعيد الدولي ضعف وازدواجية تنفيذ المعايير الأخلاقية والتشريعات الدولية.
اما آليات مكافحة الفساد على مستوى الدولة الواحدة، فإنها تتمثل بضرورة خضوع الاشخاص الذين يتولون المناصب العامة للمساءلة القانونية والادارية والاخلاقية، واعتماد الشفافية والافصاح في التقارير الحكومية، واعتماد قيم النزاهة والصدق والاخلاص والمهنية في اداء الموظفين. وتطوير الأطر القانونية التي تنظم مساءلة المسؤولين ومتخذي القرار في الإدارة العامة ومحاسبتهم. وغيرها من الآليات.
أما على الصعيد الدولي، فلا بد من إعادة تعريف وتقنين المؤسسات الدولية بما يحقق العدالة والنزاهة ويضفي عليها مزيدا من القيم الأخلاقية.
اما على صعيد مملكة البحرين فلله الحمد كانت ولم تزل قيادة البلاد الرشيدة ممثلة بجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة عاهل البلاد المعظم، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ولي العهد رئيس الوزراء الموقر مدركة لمخاطر الفساد، وحريصة على مكافحته، وإيجاد البيئة التشريعية والاقتصادية والاخلاقية التي تحد منه. معتمدة لأرفع قيم وآليات الشفافية والنزاهة بدءا من لقاءات قيادة البلاد بالمواطنين والاستماع الى انشغالاتهم وانتهاء بترصين وتطوير التشريعات والمؤسسات المسؤولة عن الكشف والمحاسبة لأي مخترق للقيم الأخلاقية والتشريعية والوطنية التي تعد جدارا مانعا للفساد بكل أنماطه. حفظ الله قيادتنا الحكيمة وشعبنا المعطاء.
{ أكاديمي وخبير اقتصادي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك