من المعلوم أن القضية الفلسطينية ظلت «بندًا ثابتًا» في أعمال قمة «المجلس الأعلى»، لمجلس التعاون الخليجي منذ انطلاقه عام 1981، بل إن المبادرة العربية للسلام، التي تعد «مكونا أساسيا»، في الموقف الخليجي والعربي الثابت، كانت «الرياض»، قد تقدمت بها، وحظيت بإجماع عربي، والتي أطلقها العاهل السعودي الراحل «عبدالله بن عبدالعزيز» في قمة بيروت العربية عام 2002، حين كان وليًا للعهد آنذاك.
وتهدف «المبادرة»، إلى إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، وإنشاء دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة على حدود 1967، عاصمتها القدس الشرقية، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السورية، والأراضي المحتلة في جنوب لبنان، فيما دعت إلى التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم (194)، وكذلك رفض كل أشكال التوطين الفلسطيني في البلدان العربية المضيفة؛ فإذا استجابت إسرائيل لتلك المطالب؛ فعندئذ تعتبر الدول العربية النزاع العربي الإسرائيلي منتهيًا، وتدخل في اتفاقية سلام معها، وتنشأ علاقات طبيعية في إطار هذا السلام الشامل، مع تحقيق الأمن لجميع دول المنطقة، ووقتها دعت «جامعة الدول العربية»، إسرائيل إلى قبول المبادرة، لحماية فرص السلام.
وجاءت «القمة الخليجية الـ44» في الدوحة، كأول قمة خليجية خارج السعودية منذ 5 سنوات، حيث استضافت «المملكة»، آخر خمس قمم اعتيادية بشكل متتالي، فيما تعد «قمة الدوحة 44» هي المرة السابعة التي تستضيف فيها «قطر»، هذه القمة بعد أعوام 1983، 1990، 1996، 2002، 2007، 2014. وعلى الرغم من أن هناك ملفات مهمة كانت أمامها، كتعزيز التنسيق السياسي والأمني والاقتصادي، واستكمال الاتحاد الجمركي، والتأشيرة السياحية الخليجية الموحدة، والتعاون العسكري، إلا أن القضية الفلسطينية قد طغت على أعمالها.
ومن الثابت أنّ انعقاد القمة جاء وسط تحديات إقليمية كبيرة في مقدمتها تصعيد العدوان الإسرائيلي على غزة، والذي أوقع حتى انعقادها ما يربو على 16 ألف شهيد، وإصابة أكثر من 41 ألف شخص، (75% منهم ما بين أطفال ونساء)، والمفقودين 7.6 آلاف، فيما تجاوز عدد النازحين 1.8 مليون نازح، وطال التدمير أكثر من 60% من الوحدات السكنية، حيث دمرت قوات الاحتلال أكثر من 300 ألف وحدة سكنية، فيما امتد عدوانها إلى الضفة الغربية، وقامت بتسليح المستوطنين الذين تمادوا في الاعتداء على الفلسطينيين، وسط صمت ودعم غربي، خاصة من جانب الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وصل إلى حد الاشتراك المباشر في العدوان بالأفراد والعتاد الحربي.
وعليه، فقد طغت «القضية الفلسطينية» على أعمال «قمة الدوحة»، لدرجة يستحق معها أن تسمى «قمة القضية الفلسطينية». وعشية انعقادها أعلنت «قطر»، المضي قدمًا في الوساطة للوصول إلى وقف إطلاق النار، وتأكد ذلك في لقاء الشيخ «تميم بن حمد آل ثان»، مع الرئيس الفرنسي «ماكرون»، واتصاله بنائبة الرئيس الأمريكي «كاميلا هاريس». وكانت قطر ومصر قد نجحتا في التوصل إلى هدنة إنسانية، تم فيها تبادل أسرى ومحتجزين بين حماس وإسرائيل، إلا أن الأخيرة استأنفت عدوانها على القطاع والضفة الغربية، ضمن حرب الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين.
وفي كلمته أمام القمة، شدد أمير قطر على أن قضية غزة ليست منفصلة، بل تتطلب إنهاء الاحتلال لكل الأراضي الفلسطينية، مشيرًا إلى ضرورة إجبار إسرائيل على العودة إلى مفاوضات ذات مصداقية لحل الدولتين، لافتًا إلى أنه لا يجب أن تكون هذه المفاوضات مفتوحة بلا سقف زمني، مضيفا أن الهدن المؤقتة لا يمكن أن تكون بديلاً عن وقف إطلاق النار، وأنه يمكن تجنب المآسي إذا أدركت إسرائيل حق الفلسطينيين في إقامة دولتهم، مؤكدا انتهاكها للمعايير الإنسانية والأخلاقية، واستهدافها البنية التحتية في غزة، وقطعها كل الإمدادات الحيوية، مشيرا إلى أن مبدأ الدفاع عن النفس لا يجيز لها ما ترتكبه من جرائم إبادة جماعية، لافتا إلى إدانة استهداف المدنيين من جميع الجنسيات.
من جانبه، أكد الأمين العام لمجلس التعاون «جاسم البديوي»، أن مواقف دول الخليج راسخة في دعم الشعب الفلسطيني، مشددًا على خطورة ما يقوم به الاحتلال من سلب لحقوق الفلسطينيين، داعيا المجتمع الدولي إلى العمل فورًا على وقف إطلاق النار. علاوة على ذلك، صرح رئيس الوزراء القطري الشيخ «محمد بن عبد الرحمن آل ثان»، بأن محادثات الوساطة بشأن غزة لا تزال مستمرة؛ بهدف إنهاء الحرب. فيما توجه بعد القمة الخليجية مباشرة إلى واشنطن، مجموعة الاتصال التي كانت قد كونتها القمة العربية الإسلامية في الرياض يوم 11 نوفمبر، والمؤلفة من وزراء خارجية السعودية، ومصر، وتركيا، وإندونيسيا، ونيجيريا، والأردن، وقطر بشأن غزة، بعد أن عقدت هذه المجموعة مفاوضات في بكين، وموسكو، ولندن، وباريس.
وقد حضر القمة الـ44 بدعوة من أمير قطر -بصفته رئيسًا للدورة الحالية لمجلس التعاون الخليجي- الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان»، والذي أكد أمامها مواصلة «أنقرة»، جهودها لإيصال المساعدات الإنسانية إلى القطاع بالقدر الكافي، ومجددا إدانته للعدوان الإسرائيلي، متهمًا حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، بوضع أمن المنطقة ومستقبلها في خطر من أجل إطالة عمرها السياسي، مشيرا إلى أن استشهاد ما يزيد على 16 ألف شخص جريمة ضد الإنسانية، لا يمكن أن تمضي بلا حساب، وأن الأولوية حاليًا تتمثل في تحقيق وقف إطلاق نار دائم، وإيصال المساعدات الإنسانية، وأنه لا مناص من تأسيس دولة فلسطين المستقلة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وأنه يجب أن نحول دون تحول الأزمة في فلسطين إلى أزمة إقليمية.
وفي ضوء «العلاقات التركية الإسرائيلية»، كان «أردوغان»، قد قدم نفسه كوسيط سلام محتمل في بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، ولكن مع ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين، ارتفعت حدة رسائله لقوات الاحتلال، التي اتهمها بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية. وفي إحدى كلماته، صرح بأن «حماس ليست منظمة إرهابية، بل هي حركة تحرير تناضل من أجل حماية أراضيها ومواطنيها»، قائلا: «أقول بكل وضوح وصراحة إن إسرائيل دولة إرهابية»، واصفا «نتنياهو»، بأنه «مجرم حرب»، وقام بقطع الاتصالات الرسمية معه، واستدعت تركيا سفيرها لدى إسرائيل.
وفيما أكد «البيان الختامي»، للقمة الموقف الخليجي الثابت من القضية الفلسطينية، ومطالبته بإنهاء الاحتلال الإسرائيلي، ودعمه لسيادة الشعب الفلسطيني على جميع أراضيه المحتلة منذ يونيو 1967، وتأسيس الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، وفق مبادرة السلام العربية، وقرارات الشرعية الدولية؛ فقد أدان تصاعد أعمال العنف والقصف العشوائي الذي تقوم به قوات الاحتلال في غزة، والتهجير القسري للسكان المدنيين، وتدمير المنشآت المدنية، والبنى التحتية في مخالفة صريحة للقانون الدولي والإنساني، محذرًا من مخاطر توسع المواجهات، وامتداد رقعة الصراع إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط، ما سيفضي إلى عواقب وخيمة تطال الأمن والسلام الدوليين.
وفي تأكيد لهذا، طالب المجتمع الدولي بالوقف الفوري لإطلاق النار، وحماية المدنيين الفلسطينيين، واتخاذ الإجراءات اللازمة ضمن القانون الدولي للرد على ممارسات إسرائيل، وسياسة العقاب الجماعي التي تنتهجها ضد سكان غزة العزل، رافضا أي مبررات وذرائع لوصف عدوانها على القطاع، بأنه دفاع عن النفس، معبرا عن دعمه لثبات الشعب الفلسطيني على أرضه، ورفض الإجراءات الإسرائيلية التي تهدف إلى تشريد سكان غزة وتهجيرهم، فيما دعم مبادرة السعودية والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية؛ لإحياء عملية السلام في الشرق الأوسط، بالتعاون مع مصر، والأردن، وثمن الجهود التي تبذلها الدول العربية لتحقيق المصالحة الوطنية لاستعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية، ولم الشمل.
علاوة على ذلك، أكد «بيان القمة»، استمرار جهود الوساطة، وصولاً إلى وقف كامل ومستدام لإطلاق النار، وإنهاء الاحتلال، وإطلاق عملية سياسية تفضي إلى سلام شامل ودائم للفلسطينيين، مع ضمان وصول كل المساعدات الإنسانية والإغاثية والاحتياجات الأساسية إلى سكان القطاع، مؤكدا وقوف «مجلس التعاون»، إلى جانب الشعب الفلسطيني، ودعمه لرفع معاناته، ومد يد العون لإعادة بناء ما دمرته آلة الحرب الإسرائيلية في عدوانها خلال السنوات الماضية، داعيا إلى استئناف عمل خطوط الكهرباء، والمياه، ووصول الوقود، والغذاء، والدواء لسكان غزة.
على العموم، فإن الرسائل التي أطلقتها «القمة الخليجية 44»، والجهود الدبلوماسية التي تقوم بها دول الخليج إقليميًا ودوليًا، وشملت الإدانة بأقوى تعبيراتها للعدوان الإسرائيلي من شأنها التأثير في مسار هذا العدوان، وهو التأثير الذي يمكن أن نلحظه أثناء زيارة «مجموعة الاتصال العربية الإسلامية» لواشنطن، كما بدأنا نلحظه أيضًا في مطالبات غربية لإسرائيل بضرورة إعمال القانون الدولي الإنساني، فيما يتراكم اتجاه دولي أن الأمن لن تنعم به إسرائيل استنادًا إلى قوتها العسكرية فقط، وأنه لا سبيل لها لتحقيق هذا الأمن إلا بحل الدولتين، وقيام دولة فلسطينية مستقلة على الأرض الفلسطينية المحتلة في يونيو 1967 وعاصمتها القدس الشرقية وفقًا لمبادرة السلام العربية وقرارات الشرعية الدولية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك