ذات يوم دخل المدرب قاعة التدريب، وفي يده صندوق خشبي كبير، وضع الصندوق على طاولة المكتب، ثم نظر إلى المتدربين وقال: من يعرف ما الذي يحويه الصندوق؟
طبعًا لم يعرف أحد، فأنزل الصندوق ووضعه على الأرض، ثم أخرج من الصندوق كأسا زجاجيا كبيرا فارغا فوضعه على طاولة المكتب، فاستغرب المتدربون وهم يتساءلون: ماذا يريد أن يقول المدرب؟ واستمرت دهشتهم بعد أن أخرج المدرب كأسًا آخر يشبه الكأس الأول تمامًا إلا أنه ممتلئ بالرصاص حتى حافة الكأس وربما زيادة. ثم أخرج بعض الحصوات كبيرة الحجم، فقال: من يستطيع أن يضع هذه الحصوات في هذا الكأس الممتلئة بالرصاص؟
إلا أنه لم يتلق إلا بضع ابتسامات صفراء، وكأنها تقول «ما هذا الاستهبال، كيف نضع الحصى في الكأس الممتلئة حتى الحافة بالرصاص». فابتسم معلقًا على ردود فعلهم، فقال: «حسنٌ، عجزتم، ولكن لماذا هذا العجز؟».
فقال أحد المتدربين: الكأس ممتلئة حتى الحافة بالرصاص، فلا يوجد فيها فراغ حتى يمكننا أن نضع تلك الحصوات، فإن حاولنا ووضعناها فإنها حتمًا ستسقط وستخرج من الكأس، فالكأس لن يستوعب.
المدرب: حسنٌ، هذا أمر جيد. ولكن من يستطيع أن يضع هذه الحصوات في هذه الكأس الفارغة؟
تقدم أحد المتدربين ووضع كل الحصوات الكبيرة في الكأس حتى امتلأ الكأس بالحصوات الكبيرة، ثم جلس.
قال المدرب: هل الكأس الآن ممتلئة؟
اتفق الجميع أن الكأس ممتلئة حتى الحافة. فأخرج من الصندوق الخشبي بضع حصوات أصغر حجمًا من سابقتها ووضعها أمام الكأس، فقال: هل نستطيع أن نضع هذه الحصوات في نفس هذا الكأس؟
قال أحد المتدربين: أعتقد إنه يمكننا ذلك.
طلب منه المدرب أن يتقدم ليحاول، وبالفعل وضع الحصوات الأصغر حجمًا وحرك الكأس يمينًا ويسارًا حتى دخلت الحصوات الأصغر حجمًا بين الحصوات الكبيرة، فأصبح الكأس ممتلئة. قال المدرب: هل يمكننا أن نجد بعض الفراغات لبعض الحصى الأخرى؟
إلا أن المتدربين نفوا ذلك، فالكأس ممتلئة تمامًا. فقام المدرب بإخراج بعض الحصوات الصغيرة جدًا، ثم قال: هل يمكن وضع هذه الحصوات الصغيرة بين الفراغات؟
حاول أحد المتدربين، وبالفعل تمكن من إدخال الحصوات الصغيرة بين الفراغات التي تركت ولم تمتلئ في المرات السابقة. فقال المدرب: هل تعتقدون أن الكأس أصبحت ممتلئة؟
فأجاب الجميع بالإيجاب، إلا أن المدرب ابتسم فقال: حسنٌ، وأخرج حفنة من الرمل من الصندوق، وقال: هل يمكننا إدخال حبات الرمل هذه بين فراغات الحصى؟
قام أحد المتدربين وحاول ونجح تمامًا فدخلت حبات الرمل بين فراغات الحصى، وأصبح بعد ذلك من المستحيل إدخال أي شيء في الكأس الممتلئة، إلا أن المدرب قال: هل تعتقدون ذلك حقًا؟ أكد الجميع على أن الكأس أصبحت ممتلئة تمامًا ولا يمكن إدخال أي جسم بين الفراغات، لأنه لا توجد فراغات.
فأخرج المدرب زجاجة ماء، وقال: هل يمكننا سكب الماء وإدخال ذراته بين حبات الرمل والحصى؟
وبالفعل، تمكن المدرب من سكب الماء في الكأس حتى فاض الماء تمامًا، وتغلغلت ذراته بين حبيبات الرمل والحصى وكل ذلك.
فقال المدرب: ماذا نستفيد من هذا؟
أتت الإجابات من هنا وهناك، وفي الأخير قال المدرب: عقولنا مثل هذين الكأسين، عندما يكون عقلنا ممتلئًا كما في الكأس الأولى فإنه لا يمكن أن يتقبل أي أفكار أو معلومات جديدة، وأما إن أتينا إلى الدورة التدريبية وكانت عقولنا فارغة كما في الكأس الثانية فهي ستكون جاهزة لاستقبال كل الأفكار والآراء والأطروحات التي يتم تداولها في القاعة التدريبية، لذلك يجب على المتدرب أن يحضر وهو مستعد لتلقي أي معلومات أو أفكار حتى يستفيد من الدورة التدريبية.
هذه الحكاية تراودني هذه الأيام ونحن نعيش الأحداث اليوم، ولكن عقولنا ممتلئة بالكثير من الأفكار الغربية أو الشرقية التي آمنا بها خلال كل هذه السنين الماضية من خلال القوة الناعمة والإعلام الغربي أو النظريات الشرقية؛ لذلك أصبحنا نقيس الأمور كما يريدها الغرب تارة أو الشرق تارة، وأصبحنا – نحن – نقدم الدليل تلو الدليل أنه لا يمكن التغلب على كل هذه القوة الموجودة على الساحة اليوم، فهم يمتلكون السلاح، وهم يمتلكون الذكاء الاصطناعي، وهم يمتلكون قوة الاستخبارات التي لا يمكن اختراقها، وهم يمتلكون كل أنواع الصناعات الغذائية والدوائية، وهم يمتلكون كل شيء، وأما نحن فإننا نعيش على الفتات، فأصبح الرجل الأبيض هو شرطي الكرة الأرضية، وأصبح هو – سوبرمان – الخارق الذي يستطيع أن يفعل أي شيء في اللحظة التي يريدها، وما نحن إلا توابع.
لدرجة أنه أصبح كل شيء في حياتنا ملونا بلون الفكر الغربي أو الشرقي، حتى مسلسلاتنا وأعمالنا الفنية التي المفروض أن تكون عربية شكلاً ومضمونًا أصبحت فارغة من المضمون والشكل العربي لتتحول إلى المضمون والشكل الغربي.
واليوم يأتي الإعلام الصهيوني ويحاول أن يغرز في عقولنا الممتلئ أصلاً أنه صاحب حق وأنه صاحب الأرض، وأن ما تقوم به المقاومة هو الإرهاب بعينه، فكيف يحولون الحق باطلاً والباطل حقًا؟ ولأن عقولنا مُلئت بمثل هذه الأفكار خلال السنوات الماضية، فإن بعضنا يصدق؟
عقولنا غدت ممتلئة بالرصاص والفكر الغربي وكل تلك الأفكار التي غُرزت فينا بطريقة أو بأخرى خلال سنوات طويلة، ثم تم سقيها بالماء وتقويتها بالنار على فترات طويلة من الزمن، حتى غدا الرصاص كتلة جامدة يصعب تحريكها أو كسرها وتفتيتها. لذلك أصبح من الصعب في هذه المرحلة العودة وإفراغ العقول بكل هذه البساطة من كل هذا الرصاص المتصلب، إلا إذا تم كسر الزجاج أو العقول نفسها.
إلا أن هناك حلاً آخر، ولكنه يحتاج إلى تضافر كل الجهود حتى يتم إفراغ العقول من كل هذا الرصاص المتصلب، وهو بإذابته بالنار، وهذا يعني أن نوجه النار وبكل هدوء إلى سطح الرصاص وكلما ذاب جزء منه تم سكبه إلى الخارج حتى يفرغ الكأس من الرصاص تدريجيًا، ومن الطبيعي فإن ذلك سيستغرق سنوات ويمكن أن يسبب بعض الألم، ولكنه أصبح من الضروريات التي لا يمكن العيش من غيرها.
ولكن إن كنا فعلاً نتوق إلى الخروج من تلك العبودية ومن العباءة الغربية فإنه علينا أن نعيد تشكيل حياتنا، وأن نعود إلى المصدر، وأن نعيد تشكيل مناهجنا وإعلامنا وحياتنا كلها وفقًا لذلك المصدر الذي ما بلغنا أوجه حضارتنا إلا به، يقول الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه «نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله»، وقد يفهم بعض من أصحاب العقول الممتلئة أن العودة إلى المصدر يعني العودة إلى الخيام والجمال والخيول وغيرها، وهذا فهم خاطئ، وإنما الذي نعنيه بالعودة إلى الأصل هو أن نعود إلى الفكر والثقافة التي من خلالهما تمكن الأجداد من حمل مشكاة وشعلة الحضارة من الشرق الأقصى إلى الشرق الأوسط ومنها إلى أوروبا، بفضل الإسلام وفكره النير برز علم الرياضيات والميكانيكا والجغرافيا والفيزياء والكيمياء والطب، وغيرها من العلوم، وبرز كثير من العلماء والمفكرون والفلاسفة وغيرهم، هؤلاء وغيرهم هم من علّم الغرب أصول النضج الفكري والحضاري.
وهذا لا يعني أبدًا أن نعيش في كهوف مظلمة وأن نغلق عقولنا عن الحضارة الغربية أو الشرقية الموجودة اليوم، وإنما علينا أن نستفيد من كل ما يمكن الاستفادة منه، فنحن في زمن العقول الإلكترونية والذكاء الاصطناعي والفضاء الخارجي، فلا يمكن إهمال كل هذا الكم من المعارف والعلوم بحجة أنه ينبغي أن نعتمد على أنفسنا وفكرنا، وإنما ينبغي أن نبني على ما هو موجود ونعيد ترتيب أوراقنا وفكرنا وفقًا لقيمنا وأخلاقنا ومبادئنا، وأن نفرغ عقولنا من أجل غد أفضل، وأن نوازن ما بين ما هو مفيد وما هو صلد كالجلمود أو الرصاص الذي يحتاج إلى بعض النار حتى يذوب.
بعضنا سيحتاج إلى نار بسيطة لتذيب الرصاص المتصلد في العقول، ولكن بعضنا الآخر سيحتاج إلى نار قوية، بعضنا سيحتاج إلى أيام قليلة حتى يستوعب أنه يحتاج إلى إذابة الرصاص وبعضنا الآخر سيناقش ويستنكر وقد يصل إلى مرحلة الجدل، وفي النهاية قد يقتنع وربما لا يقتنع، فنحن لسنا سواء، فالبعض منا تعرض عقله وفكره لسنوات طويلة إلى الرصاص الذائب حتى امتلأت به جمجمته، لذلك فإن هؤلاء يجدون أنه من المستحيل التخلص من الفكر الغربي أو الشرقي، حتى أنهم يستهجنون أن يتحدث أولادهم أو أحفادهم باللغة العربية في المنزل، فإنهم يريدونهم أن يتكلموا وأن يخاطبوا بعضهم البعض دائمًا وأبدًا باللغة الإنجليزية، هؤلاء يجدون أنه من المفخرة السعي وتقليد الغرب الديمقراطي الحر بكل ما يفعل وما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن تستوعب عقولهم الممتلئة بالفكر الغربي أبدًا أن الغرب الديمقراطي الحر يحارب الحرية ويغتصب ابتسامة الأطفال.
وفي المقابل هناك فئة من الناس لا تحتاج إلى كل ذلك، وإنما يحتاجون إلى بعض التوضيح والنقاش الهادئ، وقليل من النار البسيطة – كما قلنا – حتى يستوعبوا، وأن يقوموا هم بأنفسهم بتفريغ عقولهم من الفكر الغربي أو الشرقي والعودة إلى حضن الأمة العربية الإسلامية.
والآن، هل تستطيع تقييم نفسك من أي الفئات أنت؟
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك