في أواخر نوفمبر2023، رحل وزير الخارجية الأمريكي الأسبق «هنري كيسنجر». ونظرًا إلى بصماته الدبلوماسية الواضحة في الشؤون الخارجية خلال القرن العشرين، ودوره في التحولات الجيوسياسية الكبيرة؛ لا تزال شخصيته تثير انقسامات بين السياسيين والمحللين. يشير «ديفيد سانجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، إلى أن «قلة من الدبلوماسيين فقط يتم الاحتفاء بهم بمثل هذا الشكل، ورأى مؤيدوه أنه «ملتزم بالواقعية»، و«أعاد تشكيل الدبلوماسية لتنعكس على المصالح الأمريكية»، واتهمه منتقدوه «بالتخلي عن القيم الأمريكية، بحثًا عن مكاسب سياسية».
ومع ذلك، فإن من الثابت تأثير شخصيته في الشؤون العالمية. ولم يكتف «سانجر»، بالإشارة إلى الطريقة التي «قدم بها المشورة إلى 12 رئيسًا أمريكيا»، بل أطلق عليه لقب «أقوى وزير خارجية في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية»، والشخصية التي «حولت تقريبًا كل علاقة عالمية مَسَّها». وأضاف «والتر ماكدوغال»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، أنه «عملاق فن الحكم»، وكان عهده «الأكثر تأثيرًا في السياسة الخارجية الأمريكية من أي شخص آخر». ووصفه «ماثيو كرونيج»، من «المجلس الأطلسي»، بأنه «نموذج»، كمستشار أمن قومي واستراتيجي، وحتى بعد تركه مناصبه السياسية «ظل معلمًا ومستشارًا مطلوبًا في الشؤون الخارجية والجغرافيا السياسية».
وعبر تاريخه السياسي، كان مؤيدا للنظرة الواقعية تجاه الجغرافيا السياسية العالمية، وأطلق عليه «مايكل هيرش»، في مجلة «فورين بوليسي»، لقب «سيد السياسة الواقعية»، مقتديًا بمثال «أوتو فون بسمارك»، الذي اتفق معه حول أن «السياسة الخارجية لا ينبغي أن تقوم على المشاعر، بل على أساس تقييم الصلابة». ومع ذلك، رأى «كروينج»، أنه «لم يكن أبدًا ديكتاتوريا»، واحتفظ بـ«المرونة الفكرية»، لمواجهة التحديات العالمية».
ووفقا للعديد من المحللين، فإن «المرونة الواقعية»، التي أتاحها للسياسة الخارجية، تعد أكثر ما يُحتفى به فيما يتعلق بسعي «واشنطن»، إلى عزل «الصين» دوليًا، ووصفه «كروينج»، بأنه «أبرز إنجاز سياسي جوهري»، حيث لعب دورًا فعالًا في تنظيم محادثات خلف الكواليس لتطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين عن طريق إجراء زيارته السرية لبكين عام 1971.
ومع ذلك، تدهورت العلاقات بين إدارات «البيت الأبيض»، اللاحقة مع «بكين». وأوضح «سكوت كينيدي»، و«وانغ جيسي»، من «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية»، أنهما الآن «عالقان في حلقة مفرغة متفاقمة». وظهر الاحترام الكبير الذي كان يحظى به «كيسنجر»، من قبل الصينيين في زيارته الأخيرة لهم قبل وقت قصير من وفاته. وذكر «سانجر»، أنه «عُومل كزائر ملكي من قبل شي جين بينغ». وتعزيزا لهذه النقطة، أعلنت الصين بعد وفاته أنه «صديق للشعب الصيني إلى الأبد»، وهو شرف مستبعد أن يحظى به العديد من الساسة الأمريكيين الآخرين.
ومن المبادرات الرئيسية الأخرى، استخدامه «الدبلوماسية المكوكية»، خلال حقبة السبعينيات لتسهيل التوصل إلى اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر1973. وأشارت «لوري كيلمان»، من وكالة «أسوشيتد برس»، إلى كيفية دفعه «فقط لتحقيق ما هو ممكن»، وتنفيذ أجندته «خطوة بخطوة»، بدلاً من «الاندفاع» نحو السلام. ويوضح «مارتن إنديك»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، أنه تمكن من إقناع الدول العربية المجاورة لإسرائيل «لقبول انسحاب جزئي مقابل شروط سياسية محددة»، وأعقب ذلك اتفاقيات «فك الاشتباك»، التي مهدت الطريق لإقامة علاقات دبلوماسية بين إسرائيل ومصر عام 1979.
ونتيجة لذلك، وصفه «هيرش»، بأنه «أنجح مفاوض في الشرق الأوسط على الإطلاق»، كما كان هذا النهج أيضا ناجعًا للولايات المتحدة من الناحية الجيوسياسية. وأشار «إنديك»، إلى كيفية تهميش الاتحاد السوفييتي في الشرق الأوسط، و«إقامة نظام جديد بقيادة واشنطن في ذلك الجزء المضطرب من العالم».
وعلى الرغم من دوره في تعزيز السياسة الخارجية الأمريكية، إلا أن منتقديه كانوا كثيرين. وأشار «دومينيك تيرني»، من «معهد أبحاث السياسة الخارجية»، إلى أن وفاته «أطلقت العنان لسيل من المنتقدين»، الذين ينظرون إليه باعتباره «مجرم حرب». وفي حين اعترف «هيرش»، بأنه كان مسؤولاً عن «أعظم انتصارات» الدبلوماسية الأمريكية، إلا أنه أشار إلى دوره في «بعض الإخفاقات الأكثر مأساوية» للسياسة الخارجية، والتي أدت إلى «إسقاط القوة الأمريكية».
وتأتي من أبرز الإجراءات التي أفقدته مصداقيته، دعمه لـ«قصف كمبوديا» – التي لم تكن بلاده في حالة حرب معها – ومساعدة نظام «الخمير الحمر»، للوصول إلى السلطة، ودعم الانقلاب الذي أطاح بالرئيس التشيلي «سلفادور أليندي»، واستبداله بمجلس عسكري، وغض الطرف عن الإبادة الجماعية في بنجلاديش عام 1971. ولعل هذا ما جعل منحه جائزة نوبل للسلام عام 1973، موضع تساؤل – آنذاك – ورأى «كريستوفر هيتشنز»، «وجوب محاكمته»، بموجب القانون الدولي؛ «لإصداره الأوامر، والمعاقبة بإبادة السكان المدنيين، واغتيال السياسيين المعارضين، واختطاف وإخفاء الجنود والصحفيين ورجال الدين ممن عارضوا سياساته».
وفيما يتعلق بكيفية تأثير إرثه على العمل الدبلوماسي الأمريكي الحالي –والغربي الأوسع – فمن الواضح أن الافتقار إلى الزخم والإقناع السياسي لممثلي أمريكا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وغيرهم خلال العدوان الإسرائيلي على غزة في 7 أكتوبر2023؛ يُظهر الحاجة إلى إحياء دروس الماضي، حول تفكير «كيسنجر»، الاستراتيجي وأساليبه التفاوضية لمجابهة التحديات الحالية.
وفي الوقت الحاضر، يواجه وزير الخارجية الأمريكي، «أنتوني بلينكن»، العديد من التحديات نفسها التي واجهها «كيسنجر»، قبل نصف قرن؛ بما في ذلك الحاجة إلى إدارة التوترات مع «بكين»، والتوسط لإنهاء الصراع في الشرق الأوسط والذي يشمل إسرائيل. وحين استخدم «كيسنجر»، ردًا على حرب أكتوبر1973، «الدبلوماسية المكوكية»، لإجراء سلسلة من المحادثات مع القوى الإقليمية؛ توصل في النهاية إلى اتفاقات ثنائية بين إسرائيل ومصر وسوريا؛ وفي المقابل، أعرب «أندرياس كلوث»، من وكالة «بلومبرج»، عن أسفه لردود الأفعال التي قام بها «بلينكن»، أثناء الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي خرجت في شكل «مسرح سياسي»، يتميز بـ«العقم في الأداء عبر التقاط الصور الفوتوغرافية المحرجة».
وعلى النقيض من الرغبة الواضحة لدى «بلينكن»، وغيره من القادة الغربيين، مثل رئيس الوزراء البريطاني «ريشي سوناك»، والرئيس الفرنسي، «إيمانويل ماكرون»، ورئيسة المفوضية الأوروبية، «أورسولا فون دير لاين»، للذهاب إلى منطقة الشرق الأوسط والظهور إلى جانب القادة والرؤساء، في أداء أثبت فشله في إظهار التضامن المفترض مع المنطقة؛ أوضح «إنديك»، أن نموذج «كيسنجر»، يُظهر أن «غريزة» القادة لوضع أنفسهم في بؤرة الاهتمام العالمي؛ يجب «مقاومتها»، كونها تمثل «معارضة لنشر السلام، وتحقيق الاستقرار على المدى الطويل».
وفي مقارنة بين جولات التفاوض التي قام بها وزير الخارجية الأسبق والحالي؛ يتجلى انهيار النزاهة الدبلوماسية للولايات المتحدة عالميا. وأشار «كلوث»، إلى كيف «يبدو بلينكن، وبايدن غير فعالين، ليس فقط في كسب ثقة الحكومات العربية، لكن أيضًا في الحد من العدوان الإسرائيلي على المدنيين الفلسطينيين المحاصرين في غزة. وفي الوقت الذي ينبغي أن تكون مهمة وزير خارجية واشنطن تخفيف التوترات الإقليمية، وتعزيز قضية السلام، أشار «كلوث»، إلى أن «الكارثة» في القطاع تحت إشراف بلينكن، «تزداد سوءًا يومًا بعد يوم».
ولاستخلاص الدروس من نجاحه في السبعينيات، تم تسليط الضوء على الحاجة إلى «تفكير استراتيجي»، و«أساليب دبلوماسية جديدة». ورأى «تشارلز كوبشان»، من «مجلس العلاقات الخارجية»، أنه «فكر بشكل استراتيجي، وبطريقة لم تفعلها بعض الشخصيات البارزة الأخرى». وعلق «كوبشان»، أنه «عندما يتعلق الأمر بفن إدارة البيت الأبيض؛ فإن هناك مشكلة تتمثل في وجود الكثير من السياسات، والافتقار إلى استراتيجية كافية».
علاوة على ذلك، أشار «هيرش»، إلى نجاح «كيسنجر»، في «كسب تأييد القادة والدبلوماسيين بأسلوبه المؤثر، وروح الدعابة، وبراعته في التاريخ»، وكان الاحترام الذي أظهره لمعاصريه متبادلاً، ولفت إلى كيف كان «أنور السادات» – جنبًا إلى جنب مع «تشو إنلاي، أول رئيس وزراء لجمهورية الصين – من الزعماء الذين «أعجب بهم أكثر من غيرهم»، إلى حد أنه وصف الرئيس المصري الراحل بـ«النبي»؛ لاستعداده لتحقيق السلام. يأتي ذلك في حين أخفق «بلينكن»، ومعاصروه في إقامة علاقات شخصية وثيقة، وتبادل الاحترام مع القادة الإقليميين لبناء الثقة، والتأكيد على التزام «واشنطن»، بالسلام والأمن في الشرق الأوسط.
وفي تقييم لنجاح «كيسنجر»، يجب الإشارة إلى حرية العمل في الشؤون الخارجية الأمريكية الممنوحة له. وفي منتصف السبعينيات، أوضح «كيلمان»، أنه عندما كان الرئيس «نيكسون»، مشتتًا بفضيحة ووترغيت، التي أدت إلى استقالته»؛ تمكن من تشكيل «مجموعته من المستشارين الموثوقين»، للقيام بمهماته الدبلوماسية، بشروطه الخاصة. وعلى الرغم من أن وضع «بلينكن»، غير قابل للمقارنة، إلا أنه لا يمكن التغاضي عن رفضه الابتعاد عن سياسة «البيت الأبيض»، الثابتة في دعم إسرائيل، حتى في ظل النداءات الدولية المتزايدة لوقف عدوانها على الفلسطينيين، وتجاهلها لوقف إطلاق النار، وتوفير حماية أفضل للمدنيين.
وفي حين كان الرئيسان «نيكسون»، و«فورد»، يطلبان مشورة «كيسنجر»، بشأن الشؤون الدولية، ويفوضان إليه قرارات السياسة الخارجية؛ يبدو غياب المقارنة في علاقة «بايدن»، مع «بلينكن». وعلى الرغم من أن وكالة «رويترز»، أشارت إلى الأخير باعتباره «مستشارًا للسياسة الخارجية للرئيس الأمريكي فترة طويلة»، فمن الواضح أنه ليس له «تأثير في التفكير الاستراتيجي الأمريكي»، أو «مسار العمل الدبلوماسي»، وربما يُشير ذلك، إلى عدم ثقة «بايدن» في قدرات أقرب مستشاريه.
ويمثل الافتقار إلى المرونة في صنع القرار، والحوار الاستراتيجي، في نهاية المطاف «تحجيما»، للجهود الدبلوماسية الغربية مع الجهات الفاعلة في الشرق الأوسط، مما يعيق التواصل الجاد نحو تحقيق السلام.
وعلى الرغم من ذلك، تمت الإشارة إلى عدم خلو سجل «كيسنجر»، في الشرق الأوسط من الانتقادات، وعلى وجه الخصوص، ما يتعلق بفشله في حل القضية الفلسطينية. ولفت المحللون إلى الكيفية التي «سعى بها إلى عزل الفلسطينيين عن المناقشات الإقليمية من خلال الموافقة على عدم التفاوض مع منظمة التحرير الفلسطينية»، وقد كان لمثل هذه السياسات عواقب دائمة ومؤثرة. وأوضح «بريان كاتوليس»، من «معهد الشرق الأوسط»، أن «خطأه»، المتمثل في «عدم رؤية الفلسطينيين كجزء من معادلة السلام الإقليمي طويل الأمد؛ كان «هو نهج كل من خلفه في المنصب تقريبًا».
وفي تقييمه للسجل الدبلوماسي الشامل له، خلص «جوزيف ناي»، من جامعة «هارفارد»، إلى أنه كان «أكثر وعيًا بالأخلاق في السياسة الخارجية؛ ويُنسب إليه الفضل في ذلك»؛ لكن نهجه طغى عليه الاعتقاد بأن «النظام يعتمد على توازن القوى، مع الشرعية»؛ وكانت النتيجة «سياسة واقعية متطورة»، الأمر الذي جعله يدرك أنه في «الشرق الأوسط» من الضروري تحديد «أهداف قابلة للتحقيق». وبالمقارنة، فإنه في عام 2023، تبدو الدبلوماسية الغربية بالشرق الأوسط في مأزق كبير؛ مع إصرار الدول الغربية الرائدة على تأييد القصف الإسرائيلي للسكان المدنيين في غزة، ما يؤدي إلى تدمير شرعيتها في المنطقة، وتقويض تصريحاتها بشأن دعم «حل الدولتين».
على العموم، فإن نجاحات «كيسنجر»، في الشؤون الخارجية، واستخدامه للدبلوماسية المكوكية لحل الكثير من القضايا – حتى مع وجود بعض الانتقادات له – يشير إلى قصور المبادرة الدبلوماسية، والفكر الاستراتيجي الغربي في الوقت الحاضر.
وبالنسبة إلى القادة والدبلوماسيين، مثل «بايدن»، و«بلينكن»؛ فإن الحاجة إلى ضرورة المرونة والثقة في قدرات المسؤولين على تحقيق نتائج دائمة، مع امتلاك الواقعية حول كيفية عمل الديناميكيات الإقليمية – وليس فقط بالطريقة التي ترغب بها واشنطن أن تكون – بمثابة درس قوي من إرث «كيسنجر»، الذي ينبغي الاعتراف به وتنفيذه، من أجل تحقيق السلام والاستقرار في نظام عالمي متنافس.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك