الآن، وبعد كل هذا الدم المسفوح، وبعد كل هذا الذي جرى من هزة عميقة على مستوى الوعي والأمن والسياسة، ليس في منطقتنا وإنما في العالم أجمع، فإن الكلام عن التسوية السياسية أصبح حديث الجميع، وبدا كأن كل الأطراف تكتشف أن هناك صراعا منسيا عن عمد أو عن غير عمد وأن هذا الصراع يجب حله، وهي خطيئة أسهم المجتمع الدولي فيها من خلال إهماله لحل هذا الصراع أو تناسيه أو توكيل قوى الاستعمار لإدارته، أسهم في هذه الخطيئة أيضا النظام العربي الذي عجز عن الحل عسكريا و دبلوماسيا على مدى 75 سنة مضت .
الآن، وبعد كل ما جرى، في قطاع غزة والضفة الغربية وفي الإقليم العربي وكذلك في أوروبا والولايات المتحدة، فإن التسوية السياسية التي يتم الكلام عنها تأخذ العنوان الأكثر استهلاكاً واستخداما ألا وهو حل الدولتين، وهو ما أشار إليه الرئيس الأمريكي بايدن عدة مرات وكذلك مسئولون كبار في الاتحاد الأوروبي فضلاً عن قادة عرب ذوي علاقة .
ولأننا أصحاب تجربة عميقة ومريرة في هذا الشعار الكبير والعريض والغامض، فإنه لا بد من التنبيه الشديد والتحذير المسبق لأخطاء التسويات التي شهدناها أو خبرناها، وهي تتمثل فيما يلي :
الخطأ الأول: وهو خطأ يتعلق بمسألة الأمن، إذ يكاد يجمع الجميع على أن الأمن بيد إسرائيل، وإن الشعب الفلسطيني يجب أن يكون مكشوف الظهر، بمعنى أن كل تسوية سياسية تفترض منذ البداية أن الفلسطيني يجب أن يكون ضعيفاً غير قادر على اتخاذ القرار السياسي أو الأمني أو الاقتصادي، إن تسوية مثل هذه تتضمن عوامل تفجيرها تماما .
الخطأ الثاني: وهو خطأ يتعلق بتعريف الشعب الفلسطيني، إذ عادة ما تفترض هذه التسوية أن الشعب الفلسطيني ليس واحداً وليس موحداً وغير معرّف، فهناك فلسطينيون عادة غير مشمولين في التسوية كفلسطيني القدس أو الشتات أو مناطق 48، أو هناك تسويات قد لا تشمل الضفة الغربية أو قطاع غزة، وهناك تسويات تستبعد هذه الجماعة أو تلك .
إن كل تسوية سياسية تستبعد جماعة أو فئة أو طائفة فلسطينية بسبب المعتقد أو الجغرافيا أو المكانة القانونية هي تسوية لا تستمر ولا تستقر .
الخطأ الثالث: التسويات التي شهدناها وخبرناها هي تسويات متدرجة في الزمان والمكان والنوايا وحسن السلوك، ولا يمكن لتسوية أن تستمر أو تستقر إذا كان ضمانها أو مقرر نجاحها أو فشلها هو الطرف القوي أو المستعمر، لأن هذا المستعمر سيجد دائما ذريعة لنقض التسوية، إن كل التسويات التي رأيناها وسمعنا عنها وعشناها كانت مرتبطة بقرار إسرائيل لتقرر مدى نجاح تلك التسويات وفشلها، إن كل تسوية ناجحة يجب أن تنزع من إسرائيل هذه الأفضلية .
الخطأ الرابع: هو خطأ مبدئي تماماً، إذ لا يمكن لضعيف وقوي أن يتوصلا إلى تسوية حقيقية، فالقوي يفرض على الضعيف ما يريد وحتى هذه اللحظة، فإن كل التسويات كانت كذلك، ولهذا فشلت، إن التفاوض الحقيقي يكون بين متكافئين يؤمنان بالتسوية باعتبارها أقل كلفة من الحرب، أما إذا لم يكن الوضع كذلك فإن التسوية ستكون أقرب إلى الاستسلام في أحسن ظروفها.
الخطأ الخامس: هو يتعلق بالضمانات أو الضامنين لهذه التسوية، إذ أثبتت التجارب أن لا ضمانة إطلاقا لأي تسوية، وأن الضامنين هم شركاء أو صامتون أو ضعفاء أو مستفيدون أو كل ذلك مجتمعة.
إن التسوية الدائمة تفترض إطاراً دولياً لتثبيتها أو إدامتها، وهذا يعني أن مظلة أخرى دولية وعربية مطلوبة غير أولئك الذين خدعونا طيلة عقود بحل الدولتين، حتى وصل بنا الحال إلى الكلام عن المقاطعات الفلسطينية المحتلة كما طرح أحد أساتذة الجامعات الإسرائيلية .
الخطأ السادس: هو خطأ يتعلق بتعريف الأرض الفلسطينية أو جغرافية الدولة الفلسطينية، وهما أمران غير متطابقين، ولهذا فإن كل تسوية لا تحترم أو تأخذ بعين الاعتبار وحدة هذه الأرض وتواصلها وخلوها من التهديد أو إعادة السيطرة أو الوجود الاستيطاني فإنها تسوية محكوم عليها في الفشل، سوء كان ذلك في الثروات أو الطرقات أو المساحات، الوطن صغير الحجم و الأحلام كبيرة، ولهذا فإن التسوية التي تقوم على الشراكة غير المتساوية لن تصمد في المستقبل .
الخطأ السابع: في كل التسويات التي خبرناها فإنها خلت من الإشارة إلى إنهاء الاحتلال بل تضمنت التكيف مع الاحتلال أو التعايش معه أو احتماله أو إعادة إنتاجه، بمعنى آخر، التسويات التي خبرناها لم تر في الاحتلال عنصراً يجب إزالته بل يجب التعامل معه باعتباره قدراً لا فكاك منه، إن الإصرار على هذا الأمر يعني أن التسوية مهما تضمنت من عناصر جيدة ستظل قابلة للانفجار.
{ رئيس مركز القدس للدراسات المستقبلية – جامعة القدس
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك