من الأدوات الاقتصادية التي ابتدعها الغرب وتستخدم الآن في كل العالم هو مبدأ «المُلوِّثْ يدفع»، أي الذي يتسبب في تلويث وفساد البيئة، سواء أكان فرداً، أو شركة، أو دولة يجب أن يتحمل مسؤولية دفع تكاليف المنطقة التي قام بتلويثها وتدميرها بيئياً، ويجب أن يُلزم قانونياً بتخصص الأموال اللازمة لإعادة تأهيل البيئة وإرجاعها إلى الوضع الفطري الطبيعي كما خلقها الله سبحانه وتعالى.
ودعوني الآن اُطبق هذا المبدأ، وهذه الآلية الاقتصادية على قضية التغير المناخي الناجمة عن تلوث وتدهور نوعية الهواء الجوي بالعديد من الملوثات على رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون. وهذا الغاز ينبعث عند حرق الوقود الأحفوري، مثل الفحم، ومشتقات البترول، والغاز الطبيعي من مصادر لا تعد ولا تحصى منها محطات توليد الكهرباء، والقطارات، والسيارات، والطائرات، والمصانع وغيرها من المصادر التي يحترق فيها أحد أنواع هذا الوقود. فغاز ثاني أكسيد الكربون الذي ينبعث من كل هذه المصادر يتراكم مع الوقت في طبقات الجو العليا ويعمل على حبس الحرارة، مما يؤدي إلى وقوع العديد من التداعيات منها سخونة الأرض ورفع درجة حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحار وزيادة حموضتها، وهذه تسبب الموجات الحرارية التي يتعرض لها كوكبنا، إضافة إلى اتساع رقعة وتكرار حرق الغابات، ونزول الفيضانات والأعاصير، والكوارث المناخية الأخرى التي تؤثر في الكرة الأرضية برمتها، وليس فقط عند موقع مصدر التلوث.
ولو راجعنا التقارير والدراسات العلمية حول اختلاف نسبة انبعاث ملوثات المناخ إلى الهواء الجوي تاريخياً، وعلى مدى أكثر من 200 عام، لوجدنا أن الولايات المتحدة الأمريكية والدول الصناعية المتطورة والمتقدمة والغنية التي بَنَتْ اقتصاداً قوياً طوال القرنين الماضيين، ونفذَّت بعمق برامج تنموية ناجحة، ورفعت من مستوى حياة شعوبها، هي التي ستكون على رأس الترتيب في قائمة الدول المسؤولة عن انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان والغازات المناخية الأخرى المتهمة بوقوع التغير المناخي، مما يعني على حسب مبدأ «الملوث يدفع»، فإن هذه الدول هي التي يجب أن تتحمل المسؤولية الأخلاقية والإنسانية في مواجهة تداعيات التغير المناخي، وهي التي عليها تخصيص المبالغ اللازمة لمساعدة الدول النامية والفقيرة لمواجهة هذه التداعيات المهلكة للحرث والنسل والحجر.
فالدول النامية بدأت قريباً في تنفيذ برامجها التنموية، أي إنها منذ زمن ليس ببعيد كانت تطلق ملوثات المناخ إلى البيئة، وهذه الملوثات تأخذ عُقوداً طويلة من الزمن لكي تتراكم وتتجمع ويرتفع تركيزها كثيراً في الغلاف الجوي فتسبب الاحتباس الحراري، وبالتالي فهي لا تتحمل أية مسؤولية في وقوع تداعيات التغير المناخي التي نعاني منها حالياً، وليس لها أي دور فاعل ومؤثر في نزولها عليهم، ولكنهم في الوقت نفسه الأشد تضرراً منها، مما يعني أن هناك خللاً وشكوكاً في تطبيق مفهوم وسياسة العدالة البيئية بين الشعوب والدول على المستوى الدولي.
فعلى سبيل المثال، هناك التقارير الدورية المنشورة من مجموعة (Climate Action Tracker)، إضافة إلى الدراسة التاريخية الشاملة التي نشرتها منظمة (Carbon Brief) في الخامس من أكتوبر 2021 تحت عنوان: «المسؤولية التاريخية للتغير المناخي يقع في قلب الحوار حول العدالة المناخية». وهذه الدراسة تُوجه أصابع الاتهام نحو الدول المسؤولة في إحداث ظاهرة التغير المناخي على المستوى الدولي منذ قيام الثورة الصناعية الأولى، أي منذ عام1850حتى عام2021. وهذه الدول هي التي من المفروض أن تتحمل مسؤولية التبعات الاقتصادية والفنية لهذا التغير المناخي ذات الأبعاد المختلفة، ومنها سخونة كوكبنا وارتفاع حرارتها، وارتفاع مستوى سطح البحر، ووقوع كوارث مناخية متكررة وشديدة ومفرطة في حدتها وقوة تدميرها والمساحة الجغرافية الواسعة التي تضربها.
فهذه الدراسة قدَّمت تحليلاً تاريخياً لمصادر وحجم انبعاثات كل دولة من دول العالم منذ أكثر من قرنين من الزمن، مثل حرق الوقود الأحفوري في محطات توليد الكهرباء، والسيارات، والمصانع، وعلى رأسها مصانع إنتاج الأسمنت، ثم التغير في استخدامات الأرض من حيث قطع الأخشاب، وإزالة الغابات لزراعة المحاصيل وإنتاج الوقود الحيوي. وكانت نتيجة هذا التقييم أن دول العالم أَجْمَع أَطْلقتْ زهاء2504جيجا طن من ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي منذ 1850، وهذا الغاز الذي يتراكم في الغلاف الجوي فيحبس الحرارة في طبقات الجو السفلى أدى إلى رفع حرارة كوكبنا نحو 1.2 درجة مئوية أعلى من مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
أما على مستوى دول العالم، فقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي المتهمة الأولى في انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون، حيث بلغ حجم الغاز المنطلق على مدى أكثر من مائتي عام قرابة 509 جيجا طن، أي أن أمريكا تتحمل نسبة 20.3% من مجموع الانبعاثات الكلية على مستوى الكرة الأرضية، وهي بهذه النسبة رفعت درجة حرارة الأرض0.2درجة مئوية.
كما أشار التقييم إلى أن الصين تأتي في المرتبة الثانية بنسبة 11,4% من الانبعاثات الكلية للدول نتيجة لحرق الفحم وأنواع الوقود الأحفوري لتشغيل برامج التنمية المتسارعة غير المسبوقة، مما نجم عن ذلك رَفْع الصين لدرجة حرارة كوكبنا قرابة0.1درجة مئوية، وبعد أمريكا والصين جاءت روسيا بنسبة انبعاثات بلغت6.9%، ثم البرازيل بنسبة4.5% وإندونيسيا4.1% نتيجة لحرق الغابات لأسباب طبيعية ومتعمدة، وأخيراً تأتي ألمانيا3.5%، والهند 3.4، وبريطانيا 3%، واليابان 2,7%، وكندا2.6%.
وبناءً على نتائج هذه الدراسة وتقارير أخرى كثيرة، فمن العدل والمساواة أن تتحمل الدول المسؤولة تاريخياً عن حدوث التغير المناخي، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، الجزء الأكبر من الحل، وتُسهم أكثر من الدول الأخرى في مواجهة هذا الظاهرة التي تسببت هي في نشوئها ووقوع تداعياتها العصيبة على كوكبنا برمته وتأثر كل دول العالم بها، وبخاصة الدول الفقيرة والنامية التي ليس لها فيها ناقة ولا جمل في تكوينها. ولكن في الواقع أن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي تتنصل وتتهرب منذ أكثر من ثلاثين عاماً من واجباتها الدولية ومسؤولياتها الأخلاقية التاريخية في مكافحة التغير المناخي، بل وتُعرقل الوصول إلى حلٍ جماعي مشترك وملزم. فمن جانب لا تلتزم بالمعاهدات الدولية المعنية بالتغير المناخي، ومن جانب آخر لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها لتمويل ودعم الدول النامية للتكيف مع تداعيات هذه الظاهرة والحصول على تقنيات نظيفة لا تنبعث عنها ملوثات التغير المناخي. فأمريكا في عام 1992 في عهد بوش الأب وقعتْ على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، كما وقع كلينتون على بروتوكول كيوتو لعام 1997، ثم جاء بوش الابن فألغى التزام أمريكا تجاه هذا البروتوكول، وبعد ذلك جاء أوباما فوقع على تفاهمات باريس 2015 للتغير المناخي، والتي انسحب منها ترامب وتخلى عنها كلياً.
فأمريكا المسؤول الأول عن حدوث سخونة الأرض من الواجب أن تكون الأكثر دفعاً من الناحية المالية في صندوق مكافحة هذه الأزمة الدولية، والتي أُطلق عليه «صندوق المناخ الأخضر». ففي اجتماع التغير المناخي، أو كوب (15) الذي عُقد في كوبنهاجن في 2009 تعهدت الدول المتقدمة الغنية بتخصيص مبلغ مائة بليون دولار سنوياً للدول الفقيرة والنامية بحلول عام2020، كما أكدت هذا التعهد في اجتماع باريس2015، ولكن معظم الدول لم تف بالتزاماتها، حسب ما ورد في المقال المنشور في مجلة «الطبيعة» في21 أكتوبر 2021. كما أفاد المقال المنشور في البلومبرج في15أكتوبر 2021 بأن مساهمة أمريكا في «صندوق المناخ الأخضر» كانت من المفروض أن تتراوح بين نسبة40إلى47% من المائة بليون، ولكنها تبرعت فقط بمبلغ نحو7.6 بليون دولار في الفترة من2016إلى 2018.
وهذا التوجه الأمريكي السلبي واللامسؤول تجاه كوكبنا وتجاه الدول النامية الفقيرة بالنسبة إلى الدعم المالي يتكرر أمامنا الآن في اجتماع كوب (28) في دبي، ومنذ أن أُقر صندوق «الخسائر والأضرار» في اجتماع شرم الشيخ في عام 2022. فالولايات المتحدة الأمريكية حاولت قبل اجتماع دبي السيطرة إدارياً وسياسياً على هذا الصندوق والتهرب من الالتزام بالمبدأ الدولي «الملوث يدفع». فأمريكا أولاً ضغطت بنفوذها الكبير وقوتها السياسية على اللجنة المختصة بتقديم توصيات حول الصندوق إلى اجتماع دبي من خلال جعل مقر الصندوق في البنك الدولي في العاصمة واشنطن دي سي في أمريكا، حيث يسهل التحكم فيه والسيطرة عليه، ثم أصرت أمريكا على جعل الدفع للصندوق طوعياً وليس إلزامياً، ولا علاقة له بشكلٍ مباشر بالدول المسؤولة عن وقوع التغير المناخي، أي إن أمريكا تدفع متى تشاء، والمبلغ الذي تشاء، وقد لا تدفع إذا تغيرت سياسات البيت الأبيض، كما حصل عندما تولى الحُكم الرئيس الجمهوري ترامب. وعلاوة على ذلك، ومن أجل الالتفاف على المساهمة في الصندوق وإلقاء كرة الدفع في ملاعب الآخرين، فقد دعت أمريكا والاتحاد الأوروبي الدول الأخرى، كدول الخليج والصين، والمنظمات، والصناديق إلى المساهمة في هذا الصندوق. ولذلك كان تعهد أمريكا في الدفع لصندوق «الخسائر والأضرار» ضعيفاً جداً، ومخجلاً، ولا يتناسب مع حجمها وثرائها وواجباتها التاريخية ومسؤوليتها في نزول هذه المشكلة على كوكبنا، حيث أفادت بأن مساهمتها ستكون 17.5 مليون دولار من إجمالي ميزانية الصندوق التي من المرجح أن تكون 250 مليار دولار بحلول عام 2030. أما الدول الأخرى فقد كانت دولة الإمارات العربية المتحدة التي لا دور لها من الناحية التاريخية في وقوع التغير المناخي، وتعهدت بدفع 100 مليون دولار، وألمانيا 100 مليون، والاتحاد الأوروبي 275 مليونا، واليابان 10 ملايين، علماً بأن المبلغ التقديري المطلوب لمساعدة الدول النامية الفقيرة لمحاربة التغير المناخي أعلى بكثير من هذه الالتزامات، وهو 387 بليون دولار سنوياً.
وجدير بالذكر فإن نائبة الرئيس الأمريكي أعلنت في كلمتها في اجتماع دبي في 2 ديسمبر عن التعهد بالمساهمة بمبلغ 3 بلايين دولار، ولكن ليس لصندوق «الخسائر والأضرار» الذي تمت الموافقة على تشغيله في 30 نوفمبر، وإنما للصندوق القديم وهو «صندوق المناخ الأخضر» الذي أُدخل العناية المركزة لضعف الدعم من أمريكا والدول الغنية الأخرى.
وبالرغم من عدم العدالة في حصة كل دولة في المساهمة في الصندوق حسب مبدأ «الملوث يدفع»، إلا أن جدية كل هذه التصريحات والإعلانات في المساهمة في الصندوق تتضح عندما يذهب الوفود إلى بلدانهم، وتتم دعوتهم إلى الالتزام بتعهداتهم وتحويل المبالغ مباشرة إلى الصندوق بشكلٍ دوري سنوي.
وفي تقديري، ومن خبرتي السابقة مع الصناديق المناخية الأخرى، فإن هذا الصندوق ستنزل عليه قطرات من المطر في السنة الأولى من بعض الدول، ثم تبدأ هذه القطرات في الانخفاض تدريجياً حتى يصبح الصندوق خاوياً يشتكي قلة المتبرعين وشح إسهاماتهم.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك