العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

العدد : ١٧٠٤٧ - الأحد ٢٤ نوفمبر ٢٠٢٤ م، الموافق ٢٢ جمادى الاول ١٤٤٦هـ

قضايا و آراء

«الترانسفير» كسياسة إسرائيلية لتصفية القضية الفلسطينية

بقلم: د. حسن نافعة

الثلاثاء ٠٥ ديسمبر ٢٠٢٣ - 02:00

ادّعت‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬عند‭ ‬انطلاقها‭ ‬في‭ ‬نهاية‭ ‬القرن‭ ‬التاسع‭ ‬عشر‭ ‬أن‭ ‬فلسطين‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬بلا‭ ‬شعب‮»‬‭ ‬وأن‭ ‬اليهود‭ ‬‮«‬شعب‭ ‬بلا‭ ‬أرض‮»‬‭. ‬ورغم‭ ‬إدراكها‭ ‬لما‭ ‬تنطوي‭ ‬عليه‭ ‬هذه‭ ‬المقولة‭ ‬من‭ ‬كذب‭ ‬واختلاق‭ ‬فاضحين‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬أصرّت‭ ‬على‭ ‬الترويج‭ ‬لها‭ ‬واعتمدتها‭ ‬كاستراتيجية‭ ‬دعائية‭ ‬قابلة‭ ‬لإضفاء‭ ‬قدر‭ ‬من‭ ‬المشروعية‭ ‬الإنسانية‭ ‬على‭ ‬مشروع‭ ‬غير‭ ‬إنساني‭ ‬بطبيعته‭ ‬لأنه‭ ‬استهدف‭ ‬الاستيلاء‭ ‬على‭ ‬أراضي‭ ‬الغير‭ ‬بالقوة‭.‬

يروي‭ ‬المؤرّخ‭ ‬الإسرائيلي‭ ‬آفي‭ ‬شلايم‭ ‬في‭ ‬كتابه‭ ‬‮«‬الجدار‭ ‬الحديدي‭: ‬إسرائيل‭ ‬والعالم‭ ‬العربي‮»‬‭ ‬أن‭ ‬حاخام‭ ‬فيينا‭ ‬أراد‭ ‬أن‭ ‬يتحقّق‭ ‬بنفسه‭ ‬من‭ ‬مدى‭ ‬صحة‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬تضمّنها‭ ‬كتاب‭ ‬تيودور‭ ‬هرتزل‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬اليهود‮»‬‭ ‬فقرّر‭ ‬إرسال‭ ‬مندوبين‭ ‬عنه‭ ‬إلى‭ ‬فلسطين‭ ‬عقب‭ ‬انتهاء‭ ‬المؤتمر‭ ‬الصهيوني‭ ‬الأول‭ ‬الذي‭ ‬عقد‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬بازل‭ ‬السويسرية‭ ‬عام‭ ‬1897‭ ‬للتعرّف‭ ‬المباشر‭ ‬إلى‭ ‬الأوضاع‭ ‬هناك‭.‬

وحين‭ ‬تأكد‭ ‬هذان‭ ‬المبعوثان‭ ‬أن‭ ‬فلسطين‭ ‬وطن‭ ‬يقطنه‭ ‬شعب‭ ‬متجذّر‭ ‬في‭ ‬أرضه‭ ‬منذ‭ ‬آلاف‭ ‬السنين‭ ‬قاما‭ ‬بإرسال‭ ‬برقية‭ ‬إلى‭ ‬الحاخام‭ ‬الذي‭ ‬أوفدهما‭ ‬جاء‭ ‬نصها‭ ‬كالتالي‭: ‬‮«‬العروس‭ ‬جميلة‭ ‬لكنها‭ ‬متزوجة‭ ‬من‭ ‬رجل‭ ‬آخر‮»‬‭!‬

وقال‭ ‬شلايم‭ ‬في‭ ‬تعليقه‭ ‬على‭ ‬فحوى‭ ‬هذه‭ ‬البرقية‭ ‬إنها‭ ‬لخّصت‭ ‬بدقة‭ ‬طبيعة‭ ‬وجوهر‭ ‬المشكلة‭ ‬التي‭ ‬شكّلت‭ ‬موضوع‭ ‬النزاع‭ ‬المستمر‭ ‬بين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬واليهود‭ ‬منذ‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬قرن‭ ‬من‭ ‬الزمان،‭ ‬حيث‭ ‬سعت‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬إلى‭ ‬بناء‭ ‬‮«‬دولة‮»‬‭ ‬يقطنها‭ ‬شعب‭ ‬آخر‭!‬

حين‭ ‬نجحت‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬عام‭ ‬1917‭ ‬في‭ ‬استصدار‭ ‬‮«‬وعد‭ ‬بلفور‮»‬‭ ‬بالمساعدة‭ ‬على‭ ‬‮«‬إقامة‭ ‬وطن‭ ‬قومي‭ ‬لليهود‭ ‬في‭ ‬فلسطين‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬عدد‭ ‬اليهود‭ ‬المقيمين‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬يتجاوز‭ ‬1%‭ ‬من‭ ‬إجمالي‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭.‬

لكن‭ ‬بعد‭ ‬نجاحها‭ ‬عام‭ ‬1922‭ ‬في‭ ‬إدراج‭ ‬هذا‭ ‬الوعد‭ ‬كبند‭ ‬في‭ ‬صك‭ ‬الانتداب‭ ‬البريطاني‭ ‬على‭ ‬فلسطين‭ ‬زادت‭ ‬معدلات‭ ‬الهجرة‭ ‬اليهودية‭ ‬طوال‭ ‬الفترة‭ ‬الممتدة‭ ‬حتى‭ ‬ما‭ ‬بعد‭ ‬الحرب‭ ‬العالمية‭ ‬الثانية‭ ‬وذلك‭ ‬تحت‭ ‬الحماية‭ ‬البريطانية‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬إجمالي‭ ‬عدد‭ ‬اليهود‭ ‬يتجاوز‭ ‬30%‭ ‬من‭ ‬إجمالي‭ ‬عدد‭ ‬السكان‭ ‬حين‭ ‬تمّ‭ ‬عرض‭ ‬‮«‬النزاع‮»‬‭ ‬على‭ ‬الجمعية‭ ‬العامة‭ ‬للأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬التي‭ ‬أقرّت‭ ‬مشروع‭ ‬تقسيم‭ ‬فلسطين‭ ‬عام‭ ‬1947‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬مشروع‭ ‬التقسيم‭ ‬هذا‭ ‬شكّل‭ ‬في‭ ‬حد‭ ‬ذاته‭ ‬نفياً‭ ‬لمقولة‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬بلا‭ ‬شعب‮»‬‭ ‬لكنّ‭ ‬رفض‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬له‭ ‬كان‭ ‬مبرّراً‭ ‬ليس‭ ‬لأنه‭ ‬المالك‭ ‬الأصيل‭ ‬لوطن‭ ‬تعرّض‭ ‬للاعتداء‭ ‬فحسب‭ ‬ولكن‭ ‬أيضاً‭ ‬لأنه‭ ‬منح‭ ‬الأقلية‭ ‬اليهودية‭ ‬مساحة‭ ‬أكبر‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬التي‭ ‬منحها‭ ‬للأغلبية‭ ‬العربية‭ ‬الأمر‭ ‬الذي‭ ‬انطوى‭ ‬على‭ ‬إجحاف‭ ‬مزدوج‭ ‬بحقّ‭ ‬هذه‭ ‬الأغلبية‭.‬

ومع‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬العقبة‭ ‬الحقيقية‭ ‬التي‭ ‬حالت‭ ‬دون‭ ‬التوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬لهذا‭ ‬‮«‬النزاع‮»‬‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت‭ ‬المبكر،‭ ‬وإنما‭ ‬تعلّقت‭ ‬أولاً‭ ‬وقبل‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬بالطموحات‭ ‬التوسّعية‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬الإسرائيلية‭. ‬ففي‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬لاحت‭ ‬أمام‭ ‬هذه‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬الوليدة‭ ‬فرصة‭ ‬للتوسّع‭ ‬تمسّكت‭ ‬بضم‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭ ‬ولم‭ ‬تقبل‭ ‬بالانسحاب‭ ‬من‭ ‬أي‭ ‬جزء‭ ‬منها‭ ‬إلا‭ ‬حين‭ ‬تجبر‭ ‬على‭ ‬ذلك‭. ‬حدث‭ ‬هذا‭ ‬عام‭ ‬1948،‭ ‬حين‭ ‬انتهزت‭ ‬فرصة‭ ‬انتهاء‭ ‬الحرب‭ ‬كي‭ ‬تضم‭ ‬إليها‭ ‬مساحة‭ ‬جديدة‭ ‬لا‭ ‬تقلّ‭ ‬عن‭ ‬50%‭ ‬من‭ ‬المساحة‭ ‬المخصصة‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬التقسيم،‭ ‬وحدث‭ ‬مرة‭ ‬أخرى‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1967،‭ ‬حين‭ ‬تمكّنت‭ ‬عقب‭ ‬عدوانها‭ ‬من‭ ‬احتلال‭ ‬كلّ‭ ‬ما‭ ‬تبقّى‭ ‬من‭ ‬أرض‭ ‬فلسطين،‭ ‬وكذلك‭ ‬شبه‭ ‬جزيرة‭ ‬سيناء‭ ‬المصرية‭ ‬والجولان‭ ‬السوريّ‭.‬

لو‭ ‬كانت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تسعى‭ ‬حقاً‭ ‬للسلام‭ ‬لكان‭ ‬بمقدورها‭ ‬أن‭ ‬تحصل‭ ‬عليه‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬طويل‭. ‬ففي‭ ‬عام‭ ‬1949،‭ ‬وأثناء‭ ‬مفاوضات‭ ‬الهدنة‭ ‬مع‭ ‬الدول‭ ‬العربية‭ ‬المجاورة،‭ ‬لاحت‭ ‬أمامها‭ ‬فرصة‭ ‬ذهبية‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬شاملة،‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬العودة‭ ‬إلى‭ ‬الحدود‭ ‬المقترحة‭ ‬لـ«الدولة‮»‬‭ ‬اليهودية‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬التقسيم‭ ‬وعودة‭ ‬اللاجئين‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬إلى‭ ‬منازلهم‭.‬

ثم‭ ‬لاحت‭ ‬أمامها‭ ‬فرص‭ ‬جديدة‭ ‬للتوصل‭ ‬إلى‭ ‬تسوية‭ ‬شاملة‭ ‬بعد‭ ‬حرب‭ ‬67‭ ‬تقوم‭ ‬على‭ ‬أساس‭ ‬‮«‬مبدأ‭ ‬الأرض‭ ‬مقابل‭ ‬السلام‮»‬،‭ ‬خاصة‭ ‬عقب‭ ‬مبادرة‭ ‬السادات‭ ‬بزيارة‭ ‬القدس‭ ‬عام‭ ‬1977،‭ ‬وأيضاً‭ ‬عقب‭ ‬قمة‭ ‬بيروت‭ ‬العربية‭ ‬عام‭ ‬2002،‭ ‬غير‭ ‬أنها‭ ‬أهدرت‭ ‬أيضاً‭ ‬جميع‭ ‬هذه‭ ‬الفرص‭ ‬ولفترة‭ ‬طالت‭ ‬لأكثر‭ ‬من‭ ‬نصف‭ ‬قرن،‭ ‬ما‭ ‬شكّل‭ ‬دليلاً‭ ‬قاطعاً‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تهتم‭ ‬بالتوسّع‭ ‬وبناء‭ ‬‮«‬دولة‮»‬‭ ‬كبرى‭ ‬مهيمنة‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬اهتمامها‭ ‬بتحقيق‭ ‬السلام‭ ‬والاستقرار‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭.‬

صحيح‭ ‬أن‭ ‬نزعتها‭ ‬الدائمة‭ ‬نحو‭ ‬التوسّع‭ ‬فرضت‭ ‬عليها‭ ‬مشكلة‭ ‬من‭ ‬نوع‭ ‬آخر،‭ ‬تتعلق‭ ‬بمصير‭ ‬سكان‭ ‬الأراضي‭ ‬التي‭ ‬ضمّتها‭ ‬تباعاً،‭ ‬غير‭ ‬أن‭ ‬عقلها‭ ‬الصهيوني‭ ‬كان‭ ‬يهيّئ‭ ‬لها‭ ‬دائماً‭ ‬أن‭ ‬‮«‬الترانسفير‮»‬،‭ ‬أو‭ ‬ترحيل‭ ‬السكان‭ ‬الأغيار،‭ ‬قد‭ ‬يشكّل‭ ‬الحل‭ ‬المنشود‭ ‬لهذه‭ ‬المعضلة،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬يفسّر‭ ‬عدم‭ ‬اكتفاء‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬بضم‭ ‬المزيد‭ ‬من‭ ‬الأراضي‭ ‬عقب‭ ‬حرب‭ ‬48‭ ‬ولجوئها‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬إلى‭ ‬كلّ‭ ‬وسائل‭ ‬العنف‭ ‬والإرهاب‭ ‬لإجبار‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬مليون‭ ‬فلسطيني‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭.‬

في‭ ‬كتابه‭ ‬المعنون‭: ‬‮«‬طرد‭ ‬الفلسطينيين‭: ‬مفهوم‭ ‬الترحيل‭ ‬في‭ ‬الفكر‭ ‬السياسي‭ ‬الصهيوني‭ ‬1882‭-‬1948‮»‬،‭ ‬المنشور‭ ‬عام‭ ‬1992،‭ ‬أثبت‭ ‬نور‭ ‬مصالحة،‭ ‬المؤرّخ‭ ‬الفلسطيني‭ ‬البريطاني،‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الترانسفير‮»‬‭ ‬يعد‭ ‬أحد‭ ‬المفاهيم‭ ‬السائدة‭ ‬في‭ ‬فكر‭ ‬الحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬حتى‭ ‬من‭ ‬قبل‭ ‬قيام‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬اليهودية‭.‬

وفي‭ ‬كتاب‭ ‬آخر‭ ‬نشره‭ ‬عام‭ ‬1997‭ ‬تحت‭ ‬عنوان‭ ‬‮«‬أرض‭ ‬أكثر‭ ‬وعرب‭ ‬أقل‭: ‬سياسة‭ ‬الترانسفير‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬في‭ ‬التطبيق‭ ‬1949‭-‬1996‮»‬‭ ‬أثبت‭ ‬أن‭ ‬مفهوم‭ ‬‮«‬الترانسفير‮»‬‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬مجرد‭ ‬حل‭ ‬نظري‭ ‬للمشكلة‭ ‬الديمغرافية‭ ‬العربية،‭ ‬ولكنه‭ ‬كان‭ ‬سياسة‭ ‬ممنهجة‭ ‬نفّذتها‭ ‬القيادات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬المتعاقبة‭ ‬وطبّقتها‭ ‬بدرجات‭ ‬متفاوتة‭ ‬من‭ ‬النجاح،‭ ‬بل‭ ‬واعتبرتها‭ ‬حلاً‭ ‬جذرياً‭ ‬لمشكلات‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬المتفاقمة‭ ‬منذ‭ ‬67‭. ‬فقد‭ ‬حرصت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬الاحتفاظ‭ ‬بالأراضي‭ ‬الفلسطينية‭ ‬التي‭ ‬احتلتها‭ ‬عام‭ ‬67‭ ‬لسببين،‭ ‬الأول‭: ‬أن‭ ‬التوسّع‭ ‬يعد‭ ‬ركناً‭ ‬أساسياً‭ ‬في‭ ‬مشروع‭ ‬‮«‬الدولة‭ ‬الكبرى‮»‬‭ ‬التي‭ ‬ينبغي‭ ‬أن‭ ‬تمتد‭ ‬من‭ ‬النهر‭ ‬إلى‭ ‬البحر،‭ ‬والثاني‭: ‬رفض‭ ‬قيام‭ ‬دولة‭ ‬فلسطينية‭ ‬مستقلة‭ ‬لأنها‭ ‬ترى‭ ‬في‭ ‬قيامها‭ ‬تهديداً‭ ‬لأمنها‭ ‬وربما‭ ‬لوجودها‭ ‬ذاته‭.‬

ولأنها‭ ‬تخشى‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬دمج‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬في‭ ‬النسيج‭ ‬الاجتماعي‭ ‬لـ‭ ‬‮«‬الدولة‮»‬‭ ‬اليهودية‭ ‬خوفاً‭ ‬من‭ ‬معدلات‭ ‬الخصوبة‭ ‬المرتفعة‭ ‬عند‭ ‬الفلسطينيين،‭ ‬فقد‭ ‬بات‭ ‬عليها‭ ‬أن‭ ‬تتحسّب‭ ‬لهذه‭ ‬‮«‬القنبلة‭ ‬الديمغرافية‮»‬‭ ‬التي‭ ‬قد‭ ‬تنفجر‭ ‬في‭ ‬قلبها‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬لحظة‭ ‬وتضع‭ ‬حداً‭ ‬لهويتها‭ ‬اليهودية،‭ ‬ما‭ ‬جعل‭ ‬‮«‬الترانسفير‮»‬‭ ‬يبدو‭ ‬حلاً‭ ‬شديد‭ ‬الإغراء‭ ‬لكلّ‭ ‬القيادات‭ ‬الصهيونية،‭ ‬خاصة‭ ‬المؤمنين‭ ‬بـ‭ ‬‮«‬دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬الكبرى‮»‬‭ ‬وبنقائها‭ ‬اليهودي،‭ ‬وهم‭ ‬يشكّلون‭ ‬التيار‭ ‬الرئيسي‭ ‬للحركة‭ ‬الصهيونية‭ ‬في‭ ‬مرحلتها‭ ‬الراهنة‭.‬

حين‭ ‬ردّت‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬على‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬بعملية‭ ‬‮«‬السيوف‭ ‬الحديدية‮»‬،‭ ‬لم‭ ‬تقتصر‭ ‬أهدافها‭ ‬على‭ ‬دحر‭ ‬حركة‭ ‬‮«‬حماس‮»‬‭ ‬عسكرياً‭ ‬وإسقاط‭ ‬حكمها‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة،‭ ‬كما‭ ‬تشير‭ ‬البيانات‭ ‬الرسمية،‭ ‬وإنما‭ ‬حرصت‭ ‬كعادتها‭ ‬على‭ ‬انتهاز‭ ‬الفرصة‭ ‬لتوسيع‭ ‬نطاق‭ ‬تلك‭ ‬الأهداف‭ ‬لتشمل‭ ‬إعادة‭ ‬احتلال‭ ‬القطاع‭ ‬من‭ ‬جديد‭ ‬وترحيل‭ ‬سكانه‭ ‬إلى‭ ‬سيناء،‭ ‬بل‭ ‬وصلت‭ ‬جرأتها‭ ‬إلى‭ ‬حد‭ ‬إقدام‭ ‬بعض‭ ‬كبار‭ ‬مسؤوليها‭ ‬على‭ ‬الإدلاء‭ ‬بتصريحات‭ ‬علنية‭ ‬تطالب‭ ‬مصر‭ ‬بفتح‭ ‬ممرات‭ ‬آمنة‭ ‬تسمح‭ ‬بهروب‭ ‬المطاردين‭ ‬إلى‭ ‬سيناء‭ ‬عبر‭ ‬معبر‭ ‬رفح،‭ ‬وذلك‭ ‬في‭ ‬محاولة‭ ‬جريئة‭ ‬لإعادة‭ ‬إحياء‭ ‬مشاريع‭ ‬ومخططات‭ ‬قديمة‭ ‬تستهدف‭ ‬توطين‭ ‬سكان‭ ‬غزة‭ ‬في‭ ‬سيناء،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬رفضته‭ ‬مصر‭ ‬رفضاً‭ ‬قاطعاً‭.‬

غير‭ ‬أن‭ ‬ذلك‭ ‬لم‭ ‬يمنع‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬من‭ ‬تكثيف‭ ‬ضغوطها‭ ‬إلى‭ ‬أقصى‭ ‬حد،‭ ‬حيث‭ ‬طلبت‭ ‬من‭ ‬سكان‭ ‬شمال‭ ‬القطاع‭ ‬ترك‭ ‬منازلهم‭ ‬والتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬جنوبه،‭ ‬بل‭ ‬ولم‭ ‬تتردّد‭ ‬في‭ ‬قطع‭ ‬المياه‭ ‬والكهرباء‭ ‬والطاقة‭ ‬عن‭ ‬كل‭ ‬السكان،‭ ‬في‭ ‬شمال‭ ‬القطاع‭ ‬وجنوبه‭ ‬على‭ ‬السواء،‭ ‬ومنعت‭ ‬عنهما‭ ‬معاً‭ ‬الإمدادات‭ ‬الغذائية‭ ‬كافة،‭ ‬وقامت‭ ‬بهدم‭ ‬مئات‭ ‬الآلاف‭ ‬من‭ ‬المنازل،‭ ‬والإغارة‭ ‬على‭ ‬معظم‭ ‬دور‭ ‬العبادة‭ ‬وعلى‭ ‬المستشفيات‭ ‬والمدارس،‭ ‬بما‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬مدارس‭ ‬الأونروا‭.‬

وهذا‭ ‬ما‭ ‬أوصل‭ ‬عدد‭ ‬الشهداء‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬15‭ ‬ألف‭ ‬شهيد،‭ ‬معظمهم‭ ‬من‭ ‬الأطفال‭ ‬والنساء‭ ‬وكبار‭ ‬السن،‭ ‬وعدد‭ ‬الجرحى‭ ‬والمفقودين‭ ‬إلى‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬ثلاثين‭ ‬ألفاً‭. ‬ولا‭ ‬يمكن‭ ‬تفسير‭ ‬كل‭ ‬هذه‭ ‬القسوة‭ ‬الهمجية‭ ‬بمجرد‭ ‬الرغبة‭ ‬في‭ ‬الانتقام‭ ‬من‭ ‬حركة‭ ‬حماس‭ ‬أو‭ ‬من‭ ‬المقاومة‭ ‬المسلحة‭ ‬الفلسطينية،‭ ‬والأرجح‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تسير‭ ‬على‭ ‬سياسة‭ ‬ممنهجة‭ ‬تستهدف‭ ‬بثّ‭ ‬أقصى‭ ‬قدر‭ ‬ممكن‭ ‬من‭ ‬الرعب‭ ‬في‭ ‬قلوب‭ ‬الغزاويين‭ ‬لحملهم‭ ‬على‭ ‬ترك‭ ‬ما‭ ‬بقي‭ ‬من‭ ‬أراضيهم‭.‬

فإذا‭ ‬ربطنا‭ ‬ما‭ ‬يجري‭ ‬حالياً‭ ‬في‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬بما‭ ‬يجري‭ ‬في‭ ‬الضفة‭ ‬الغربية،‭ ‬والتي‭ ‬تشهد‭ ‬بدورها‭ ‬أعمالاً‭ ‬وحشية‭ ‬من‭ ‬جانب‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬،‭ ‬تشمل‭ ‬مصادرة‭ ‬الأراضي،‭ ‬والتوسّع‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬بناء‭ ‬المستوطنات،‭ ‬وهدم‭ ‬البيوت،‭ ‬وتسليح‭ ‬المستوطنين‭ ‬وتشجيعهم‭ ‬على‭ ‬الاعتداء‭ ‬على‭ ‬منازل‭ ‬وممتلكات‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬وعلى‭ ‬دور‭ ‬العبادة‭ ‬وعلى‭ ‬الاقتحامات‭ ‬المتكررة‭ ‬للمسجد‭ ‬الأقصى،‭ ‬لتبيّن‭ ‬لنا‭ ‬بوضوح‭ ‬تام،‭ ‬وبما‭ ‬لا‭ ‬يقبل‭ ‬مجالاً‭ ‬لأي‭ ‬شك‭ ‬أن‭ ‬‮«‬إسرائيل‮»‬‭ ‬تسعى‭ ‬بكل‭ ‬ما‭ ‬لديها‭ ‬من‭ ‬وسائل‭ ‬لتضييق‭ ‬الخناق‭ ‬على‭ ‬الفلسطينيين‭ ‬المقيمين‭ ‬بالضفة‭ ‬أيضاً‭ ‬وحملهم‭ ‬على‭ ‬مغادرتها‭ ‬والتوجّه‭ ‬إلى‭ ‬الأردن‭.‬

في‭ ‬ضوء‭ ‬ما‭ ‬تقدّم،‭ ‬يمكن‭ ‬القول‭ ‬إن‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬في‭ ‬حقيقة‭ ‬أمرها‭ ‬مجرد‭ ‬جولة‭ ‬جديدة‭ ‬من‭ ‬جولات‭ ‬الصراع‭ ‬العسكري‭ ‬مع‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬لكنها‭ ‬كانت‭ ‬في‭ ‬الوقت‭ ‬نفسه‭ ‬عملية‭ ‬كاشفة‭ ‬لطبيعة‭ ‬المخططات‭ ‬الإسرائيلية‭ ‬التي‭ ‬تستهدف‭ ‬إقامة‭ ‬‮«‬دولة‮»‬‭ ‬يهودية‭ ‬كبرى‭ ‬خالية‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الفلسطينيين‭. ‬صحيح‭ ‬أن‭ ‬بؤرة‭ ‬التركيز‭ ‬في‭ ‬هذه‭ ‬الجولة‭ ‬تتعلق‭ ‬بطرد‭ ‬سكان‭ ‬قطاع‭ ‬غزة‭ ‬وترحيلهم‭ ‬إلى‭ ‬سيناء،‭ ‬لكن‭ ‬الدور‭ ‬سيأتي‭ ‬غداً‭ ‬على‭ ‬سكان‭ ‬الضفة،‭ ‬وبعد‭ ‬غد‭ ‬على‭ ‬فلسطينيي‭ ‬48‭. ‬فـ«دولة‭ ‬إسرائيل‭ ‬الكبرى‮»‬،‭ ‬وفقاً‭ ‬لمنطق‭ ‬التطوّر‭ ‬الذي‭ ‬سلكه‭ ‬المشروع‭ ‬الصهيوني،‭ ‬لا‭ ‬تتسع‭ ‬لغير‭ ‬اليهود،‭ ‬ومن‭ ‬ثم‭ ‬فوفقا‭ ‬لهذا‭ ‬التوجه‭ ‬الصهيوني‭ ‬إذا‭ ‬أراد‭ ‬الفلسطينيون‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬لهم‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬فلسطين‭ ‬فعليهم‭ ‬أن‭ ‬يقبلوا‭ ‬بوضع‭ ‬المواطنين‭ ‬من‭ ‬الدرجة‭ ‬الثانية‭.‬

ولأنهم‭ ‬لن‭ ‬يقبلوا‭ ‬مطلقاً‭ ‬بمثل‭ ‬هذه‭ ‬المهانة،‭ ‬فقد‭ ‬جاءت‭ ‬عملية‭ ‬‮«‬طوفان‭ ‬الأقصى‮»‬‭ ‬لتثبت‭ ‬أن‭ ‬الشعب‭ ‬الفلسطيني‭ ‬مازال‭ ‬متمسّكاً‭ ‬بحقه‭ ‬في‭ ‬تقرير‭ ‬مصيره،‭ ‬وفي‭ ‬إقامة‭ ‬دولته‭ ‬المستقلة‭ ‬على‭ ‬كامل‭ ‬أرضه‭ ‬التاريخية،‭ ‬وأنه‭ ‬قادر‭ ‬على‭ ‬تحقيق‭ ‬هذا‭ ‬الهدف‭ ‬مهما‭ ‬بلغت‭ ‬التضحيات‭.‬

{‭ ‬أستاذ‭ ‬العلوم‭ ‬السياسية في‭ ‬جامعة‭ ‬القاهرة

كلمات دالة

هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟

لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك

الاسم:
النص:
تبقى لديك (600حرف

aak_news



الموافقة على استخدام ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط أو تقنيات مشابهة ، لتحسين تجربة التصفح وتقديم توصيات مخصصة. من خلال الاستمرار في استخدام موقعنا ، فإنك توافق على سياسة الخصوصية الخاصة بنا