ادّعت الحركة الصهيونية عند انطلاقها في نهاية القرن التاسع عشر أن فلسطين «أرض بلا شعب» وأن اليهود «شعب بلا أرض». ورغم إدراكها لما تنطوي عليه هذه المقولة من كذب واختلاق فاضحين إلا أن الحركة الصهيونية أصرّت على الترويج لها واعتمدتها كاستراتيجية دعائية قابلة لإضفاء قدر من المشروعية الإنسانية على مشروع غير إنساني بطبيعته لأنه استهدف الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.
يروي المؤرّخ الإسرائيلي آفي شلايم في كتابه «الجدار الحديدي: إسرائيل والعالم العربي» أن حاخام فيينا أراد أن يتحقّق بنفسه من مدى صحة الأفكار التي تضمّنها كتاب تيودور هرتزل «دولة اليهود» فقرّر إرسال مندوبين عنه إلى فلسطين عقب انتهاء المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل السويسرية عام 1897 للتعرّف المباشر إلى الأوضاع هناك.
وحين تأكد هذان المبعوثان أن فلسطين وطن يقطنه شعب متجذّر في أرضه منذ آلاف السنين قاما بإرسال برقية إلى الحاخام الذي أوفدهما جاء نصها كالتالي: «العروس جميلة لكنها متزوجة من رجل آخر»!
وقال شلايم في تعليقه على فحوى هذه البرقية إنها لخّصت بدقة طبيعة وجوهر المشكلة التي شكّلت موضوع النزاع المستمر بين الفلسطينيين واليهود منذ ما يقرب من قرن من الزمان، حيث سعت الحركة الصهيونية إلى بناء «دولة» يقطنها شعب آخر!
حين نجحت الحركة الصهيونية عام 1917 في استصدار «وعد بلفور» بالمساعدة على «إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين» لم يكن عدد اليهود المقيمين في فلسطين في ذلك الوقت يتجاوز 1% من إجمالي عدد السكان.
لكن بعد نجاحها عام 1922 في إدراج هذا الوعد كبند في صك الانتداب البريطاني على فلسطين زادت معدلات الهجرة اليهودية طوال الفترة الممتدة حتى ما بعد الحرب العالمية الثانية وذلك تحت الحماية البريطانية.
ومع ذلك لم يكن إجمالي عدد اليهود يتجاوز 30% من إجمالي عدد السكان حين تمّ عرض «النزاع» على الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أقرّت مشروع تقسيم فلسطين عام 1947. صحيح أن مشروع التقسيم هذا شكّل في حد ذاته نفياً لمقولة «أرض بلا شعب» لكنّ رفض الشعب الفلسطيني له كان مبرّراً ليس لأنه المالك الأصيل لوطن تعرّض للاعتداء فحسب ولكن أيضاً لأنه منح الأقلية اليهودية مساحة أكبر من تلك التي منحها للأغلبية العربية الأمر الذي انطوى على إجحاف مزدوج بحقّ هذه الأغلبية.
ومع ذلك لم تكن تلك هي العقبة الحقيقية التي حالت دون التوصل إلى تسوية لهذا «النزاع» في ذلك الوقت المبكر، وإنما تعلّقت أولاً وقبل كل شيء بالطموحات التوسّعية لـ «الدولة» الإسرائيلية. ففي كل مرة لاحت أمام هذه «الدولة» الوليدة فرصة للتوسّع تمسّكت بضم الأراضي التي احتلتها ولم تقبل بالانسحاب من أي جزء منها إلا حين تجبر على ذلك. حدث هذا عام 1948، حين انتهزت فرصة انتهاء الحرب كي تضم إليها مساحة جديدة لا تقلّ عن 50% من المساحة المخصصة لها في مشروع التقسيم، وحدث مرة أخرى في عام 1967، حين تمكّنت عقب عدوانها من احتلال كلّ ما تبقّى من أرض فلسطين، وكذلك شبه جزيرة سيناء المصرية والجولان السوريّ.
لو كانت «إسرائيل» تسعى حقاً للسلام لكان بمقدورها أن تحصل عليه منذ زمن طويل. ففي عام 1949، وأثناء مفاوضات الهدنة مع الدول العربية المجاورة، لاحت أمامها فرصة ذهبية للتوصل إلى تسوية شاملة، تقوم على أساس العودة إلى الحدود المقترحة لـ«الدولة» اليهودية في مشروع التقسيم وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى منازلهم.
ثم لاحت أمامها فرص جديدة للتوصل إلى تسوية شاملة بعد حرب 67 تقوم على أساس «مبدأ الأرض مقابل السلام»، خاصة عقب مبادرة السادات بزيارة القدس عام 1977، وأيضاً عقب قمة بيروت العربية عام 2002، غير أنها أهدرت أيضاً جميع هذه الفرص ولفترة طالت لأكثر من نصف قرن، ما شكّل دليلاً قاطعاً على أن «إسرائيل» تهتم بالتوسّع وبناء «دولة» كبرى مهيمنة في المنطقة أكثر من اهتمامها بتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
صحيح أن نزعتها الدائمة نحو التوسّع فرضت عليها مشكلة من نوع آخر، تتعلق بمصير سكان الأراضي التي ضمّتها تباعاً، غير أن عقلها الصهيوني كان يهيّئ لها دائماً أن «الترانسفير»، أو ترحيل السكان الأغيار، قد يشكّل الحل المنشود لهذه المعضلة، وهو ما يفسّر عدم اكتفاء «إسرائيل» بضم المزيد من الأراضي عقب حرب 48 ولجوئها في الوقت نفسه إلى كلّ وسائل العنف والإرهاب لإجبار ما يقرب من مليون فلسطيني على الرحيل.
في كتابه المعنون: «طرد الفلسطينيين: مفهوم الترحيل في الفكر السياسي الصهيوني 1882-1948»، المنشور عام 1992، أثبت نور مصالحة، المؤرّخ الفلسطيني البريطاني، أن مفهوم «الترانسفير» يعد أحد المفاهيم السائدة في فكر الحركة الصهيونية حتى من قبل قيام «الدولة» اليهودية.
وفي كتاب آخر نشره عام 1997 تحت عنوان «أرض أكثر وعرب أقل: سياسة الترانسفير الإسرائيلية في التطبيق 1949-1996» أثبت أن مفهوم «الترانسفير» لم يكن مجرد حل نظري للمشكلة الديمغرافية العربية، ولكنه كان سياسة ممنهجة نفّذتها القيادات الإسرائيلية المتعاقبة وطبّقتها بدرجات متفاوتة من النجاح، بل واعتبرتها حلاً جذرياً لمشكلات «إسرائيل» المتفاقمة منذ 67. فقد حرصت «إسرائيل» على الاحتفاظ بالأراضي الفلسطينية التي احتلتها عام 67 لسببين، الأول: أن التوسّع يعد ركناً أساسياً في مشروع «الدولة الكبرى» التي ينبغي أن تمتد من النهر إلى البحر، والثاني: رفض قيام دولة فلسطينية مستقلة لأنها ترى في قيامها تهديداً لأمنها وربما لوجودها ذاته.
ولأنها تخشى في الوقت نفسه دمج الفلسطينيين في النسيج الاجتماعي لـ «الدولة» اليهودية خوفاً من معدلات الخصوبة المرتفعة عند الفلسطينيين، فقد بات عليها أن تتحسّب لهذه «القنبلة الديمغرافية» التي قد تنفجر في قلبها في أي لحظة وتضع حداً لهويتها اليهودية، ما جعل «الترانسفير» يبدو حلاً شديد الإغراء لكلّ القيادات الصهيونية، خاصة المؤمنين بـ «دولة إسرائيل الكبرى» وبنقائها اليهودي، وهم يشكّلون التيار الرئيسي للحركة الصهيونية في مرحلتها الراهنة.
حين ردّت «إسرائيل» على عملية «طوفان الأقصى» بعملية «السيوف الحديدية»، لم تقتصر أهدافها على دحر حركة «حماس» عسكرياً وإسقاط حكمها في قطاع غزة، كما تشير البيانات الرسمية، وإنما حرصت كعادتها على انتهاز الفرصة لتوسيع نطاق تلك الأهداف لتشمل إعادة احتلال القطاع من جديد وترحيل سكانه إلى سيناء، بل وصلت جرأتها إلى حد إقدام بعض كبار مسؤوليها على الإدلاء بتصريحات علنية تطالب مصر بفتح ممرات آمنة تسمح بهروب المطاردين إلى سيناء عبر معبر رفح، وذلك في محاولة جريئة لإعادة إحياء مشاريع ومخططات قديمة تستهدف توطين سكان غزة في سيناء، وهو ما رفضته مصر رفضاً قاطعاً.
غير أن ذلك لم يمنع «إسرائيل» من تكثيف ضغوطها إلى أقصى حد، حيث طلبت من سكان شمال القطاع ترك منازلهم والتوجّه إلى جنوبه، بل ولم تتردّد في قطع المياه والكهرباء والطاقة عن كل السكان، في شمال القطاع وجنوبه على السواء، ومنعت عنهما معاً الإمدادات الغذائية كافة، وقامت بهدم مئات الآلاف من المنازل، والإغارة على معظم دور العبادة وعلى المستشفيات والمدارس، بما في ذلك مدارس الأونروا.
وهذا ما أوصل عدد الشهداء إلى ما يقرب من 15 ألف شهيد، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن، وعدد الجرحى والمفقودين إلى أكثر من ثلاثين ألفاً. ولا يمكن تفسير كل هذه القسوة الهمجية بمجرد الرغبة في الانتقام من حركة حماس أو من المقاومة المسلحة الفلسطينية، والأرجح أن «إسرائيل» تسير على سياسة ممنهجة تستهدف بثّ أقصى قدر ممكن من الرعب في قلوب الغزاويين لحملهم على ترك ما بقي من أراضيهم.
فإذا ربطنا ما يجري حالياً في قطاع غزة بما يجري في الضفة الغربية، والتي تشهد بدورها أعمالاً وحشية من جانب «إسرائيل»، تشمل مصادرة الأراضي، والتوسّع الكبير في بناء المستوطنات، وهدم البيوت، وتسليح المستوطنين وتشجيعهم على الاعتداء على منازل وممتلكات الفلسطينيين وعلى دور العبادة وعلى الاقتحامات المتكررة للمسجد الأقصى، لتبيّن لنا بوضوح تام، وبما لا يقبل مجالاً لأي شك أن «إسرائيل» تسعى بكل ما لديها من وسائل لتضييق الخناق على الفلسطينيين المقيمين بالضفة أيضاً وحملهم على مغادرتها والتوجّه إلى الأردن.
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول إن عملية «طوفان الأقصى» لم تكن في حقيقة أمرها مجرد جولة جديدة من جولات الصراع العسكري مع المشروع الصهيوني، لكنها كانت في الوقت نفسه عملية كاشفة لطبيعة المخططات الإسرائيلية التي تستهدف إقامة «دولة» يهودية كبرى خالية من كل الفلسطينيين. صحيح أن بؤرة التركيز في هذه الجولة تتعلق بطرد سكان قطاع غزة وترحيلهم إلى سيناء، لكن الدور سيأتي غداً على سكان الضفة، وبعد غد على فلسطينيي 48. فـ«دولة إسرائيل الكبرى»، وفقاً لمنطق التطوّر الذي سلكه المشروع الصهيوني، لا تتسع لغير اليهود، ومن ثم فوفقا لهذا التوجه الصهيوني إذا أراد الفلسطينيون أن يكون لهم موطئ قدم في فلسطين فعليهم أن يقبلوا بوضع المواطنين من الدرجة الثانية.
ولأنهم لن يقبلوا مطلقاً بمثل هذه المهانة، فقد جاءت عملية «طوفان الأقصى» لتثبت أن الشعب الفلسطيني مازال متمسّكاً بحقه في تقرير مصيره، وفي إقامة دولته المستقلة على كامل أرضه التاريخية، وأنه قادر على تحقيق هذا الهدف مهما بلغت التضحيات.
{ أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك