بعد مرور ما يقرب من شهرين على نشوب الحرب بين إسرائيل وغزة، أصبح من الواضح أن الحرب لا تجري في ساحة المعركة فحسب، بل على نفس المصطلحات التي يمكن استخدامها للحديث عنها.
ذلك ما اكتشفه البابا فرانسيس قبل أيام من الآن عندما وصف ما كان يحدث في غزة بأنه «تجاوز الحرب، هذا هو الإرهاب»، وأشار إلى أنه «لا ينبغي استخدام الإرهاب لتبرير الإرهاب».
وبحسب بعض الفلسطينيين الذين التقوا بالبابا فرنسيس قبل أن يدلي بتصريحاته العلنية، فقد تحدث عن غياب الماء والوقود والدواء في غزة، في إشارة إلى ما يحدث على أنه «إبادة جماعية».
وأدانت بعض المنظمات اليهودية بشدة كلمات البابا، واتهمته بـ«التشهير الدموي» ضد الشعب اليهودي. وطالبوه بالتراجع أو التوضيح، وشكك البعض في قيمة سنوات من الحوار المسيحي اليهودي.
قد يميل المرء إلى التساؤل عن علاقة انتقاد سلوك إسرائيل في غزة بالحوار بين تقليدين دينيين، لكن الأمر لا يتعلق هنا بالعقل بقدر ما يتعلق بالسلطة واستخدام القوة للتأكيد على تعريف معين للكلمات.
على مدار عقود من الزمن، سعت بعض المنظمات اليهودية الكبرى إلى تعريف انتقاد إسرائيل على أنه معاداة للسامية. وفي ظل الصراع الدائر في غزة، فإن هذه الجهود تجري على قدم وساق.
قبل الانتقال إلى الإضافات الأحدث إلى ما يتم الإصرار عليه الآن كتعريفات مقبولة للمصطلحات، يجدر النظر إلى بعض الأمثلة السابقة.
لنبدأ بالعبارة «القدس الموحدة» هي «العاصمة الأبدية لإسرائيل». يبدو الأمر عادلاً بما فيه الكفاية بالمعنى اللاهوتي، لكن إضافة كلمة «غير مقسمة» إلى المزيج يزيد الأمر تعقيدًا.
وفي عام 1968، ضمت إسرائيل 28 قرية فلسطينية إلى شمال وشرق وجنوب القدس، وعرّفتها من جانب واحد بأنها «القدس الكبرى»، وطالبت بالاعتراف بها بأكملها كعاصمتها الموحدة.
يصر العديد من الإسرائيليين على أن النكبة الفلسطينية لسنة 1948 لم تحدث قط، وأن الفلسطينيين لم يُطردوا أو يتم تهجيرهم، بل إنهم يقولون إن الفلسطينيين امتثلوا عن طيب خاطر لمطلب الزعماء العرب بالرحيل بعيداً عن الأذى عندما هاجمت الجيوش العربية إسرائيل – وهو محض افتراء.
وفي كل الأحوال، يصر الإسرائيليون على أن ما حدث في النهاية كان مجرد «نقل سكاني» بسيط – حيث يغادر اليهود الدول العربية ليستقروا في إسرائيل، ويغادر العرب فلسطين ليستقروا في الدول العربية.
ثم هناك عبارة «لإسرائيل الحق في الوجود» وهي موجودة بالفعل، وقد اعترفت بها القيادة الفلسطينية (باستثناء حركة حماس). ما يشكك فيه الفلسطينيون ليس وجود إسرائيل، بل إن الفلسطينيين إنما يرفضون الاعتراف بإسرائيل كما تعرف نفسها: «دولة يكون فيها للشعب اليهودي وحده الحق في تقرير المصير».
وتشمل المصطلحات التي لا يجوز استخدامها «الفصل العنصري» و«التطهير العرقي» وحتى «الاحتلال». لكن المصطلحين الأول والثاني محددان بشكل جيد في القانون الدولي.
يشير مصطلح «الفصل العنصري» إلى نظام حكم تتمتع فيه السلطة المسيطرة بمجموعتين من القوانين والممارسات التي تميز مجموعة على أخرى. وقد جادلت حتى جماعات حقوق الإنسان الإسرائيلية بأن إسرائيل حكمت الفلسطينيين بهذه الطريقة.
يتضمن «التطهير العرقي» التهجير القسري لمجموعة تابعة لخدمة أغراض المجموعة المهيمنة. ويقول منتقدو إسرائيل إن هذا هو بالضبط ما كان يحدث منذ عقود، مستشهدين بالمستوطنات غير القانونية كدليل حديث. ومع ذلك، فإن الإسرائيليين سوف يتراجعون عن هذا التأكيد، ويصرون على أنهم يتصرفون «دفاعاً عن النفس» على الأراضي المحتلة.
ينبغي أن يكون مصطلح «الاحتلال» هو المصطلح الأقل إثارة للجدل، ولكنه ليس كذلك. وتصر إسرائيل إما على أن الأراضي التي احتلتها في عام 1967 هي إرثها الكتابي التوراتي أو أنه لا أحد لديه أي مطالبة مشروعة بها، وبالتالي فإن المناطق المعنية هي في أفضل الأحوال «مناطق متنازع عليها».
ومن الجدير بالذكر أيضا أن أيًّا من الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة الأمريكية لم يسمح مطلقاً باستخدام كلمة «احتلال» بالظهور في برامجه الانتخابية على مدى العقود الماضية.
هذه مجرد أمثلة قليلة من معاني المصطلحات التي يصر أنصار إسرائيل على ضرورة قبولها وتكريسها واقعا، وقدر الصراع الحالي الذي يدور رحاه في قطاع غزة ليضيف المزيد.
ووفقا لبعض الجماعات المؤيدة لإسرائيل – وهو ما أدركه البابا فرانسيس– فمن غير المقبول استخدام مصطلحات «الإبادة الجماعية» أو «الإرهاب» لوصف ما تفعله إسرائيل في غزة – بما في ذلك القصف العشوائي للمناطق المكتظة بالسكان، والتشريد الجماعي للمستوطنات. 1.5 مليون شخص وحرمان السكان من المياه والوقود والطاقة والدواء فترات طويلة.
ولا تصر هذه المجموعات على إملاء تعريف واستخدام هذه الكلمات فحسب، بل إنها تتهم أيضًا أولئك الذين يستخدمونها بمعاداة السامية، وهو ما يعيدنا إلى حيث بدأ هذا النقاش.
وكما أوضح البابا فرانسيس، فمن الضروري والصحيح إظهار التعاطف والاهتمام بسلامة وأمن الإسرائيليين والفلسطينيين المعرضين للخطر في هذا الصراع المميت.
ولكي يتمكن كل من الإسرائيليين والفلسطينيين من إيجاد مستقبل يعيش فيه ويزدهر، فمن الضروري كسر قبضة التعريفات المفروضة والمطالبة بالسلام والعدالة.
{ رئيس المعهد العربي الأمريكي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك