من المؤكد أن الأمريكيين لديهم القدرة على ممارسة الضغوط على «إسرائيل»، وهي قدرات ووسائل ضغط سياسية وعسكرية وعقوبات وسواها من الوسائل التي تستخدم في العالم، لكن الواقع أنه ليس هناك إرادة ورغبة أمريكية بهذا الشأن.
في صباح يوم الجمعة الأول من ديسمبر، أعلنت «إسرائيل» عودة عملياتها العسكرية في قطاع غزة، وقامت الطائرات الإسرائيلية بقصف البيوت المدنية والبنى التحتية في القطاع، وذلك بعد زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي لـ«إسرائيل»، تحدث فيها عن وجوب تمديد الهدنة الإنسانية أياما أخرى يتم فيها تحرير الرهائن وإمداد القطاع بالمساعدات الإنسانية.
وكان بلينكن قد شارك في اجتماع مجلس الوزراء الحربي الإسرائيلي. ونقلت وسائل الإعلام عنه أنه لم يعارض كليًّا عودة العمليات العسكرية ضد حماس، بل قال إنها «يجب ألا تتسبب في نزوح جماعي للسكان، وإن إسرائيل لا تملك أشهراً لتحقيق أهداف العملية العسكرية».
هذه التصريحات تتناقض مع الأهداف المعلنة لمهمته الأساسية التي جاء بها إلى المنطقة، والتي تشي بأحد أمرين: إما أن الولايات المتحدة لا تملك الأدوات والوسائل الكافية للضغط على «إسرائيل» لوقف عدوانها، وإما أن الموقف الأمريكي الرسمي من التطورات في غزة لا ينفصل عن الموقف الإسرائيلي، وأن الدعوات التي تصدر من هنا وهناك، والتي تدعو الى تجنّب القتل الواسع للضحايا المدنيين، ما هي إلا محاولة لـ«تقليص الانتقادات» العالمية لـ«إسرائيل» وإدارة بايدن.
ولمعرفة الأمر الأكثر صدقاً، من المفيد إعادة التذكير بجوهر وتاريخ العلاقة بين الولايات المتحدة و«إسرائيل»، وأسباب الدعم الأمريكي اللامحدود لأعمال «إسرائيل» المخالفة للقوانين الدولية.
توصف العلاقة بين «إسرائيل» والولايات المتحدة بـ«لعلاقة الخاصة»، كما وصفها الرئيس جون كينيدي. وعلى الرغم من الدعم الأمريكي لإنشاء دولة يهودية بعد الحرب العالمية الثانية، فإن العلاقة بين الطرفين لم تتطور إلا بعد حرب عام 1967، حين أظهرت «إسرائيل» تفوقها العسكري على حليفين للسوفيات (مصر وسوريا).
وبنتائج العدوان في تلك الحرب، آمن الأمريكيون بأن لـ«إسرائيل» قيمة استراتيجية، بحيث يمكن توكيلها بـ«دور وظيفي» يتحدد في احتواء الاتحاد السوفياتي في الشرق الأوسط، وردع القوى العربية المناوئة للغرب، وتأمين إمدادات النفط.
وعلى الرغم من العلاقة الخاصة، فلم تبدأ المساعدات العسكرية «المجانية» الواسعة لـ«إسرائيل» إلا في عهد الرئيس كلينتون الذي وقّع في آخر ولايته الثانية 3 مذكرات تتعهد فيها الولايات المتحدة بتقديم المليارات من المساعدات العسكرية سنوياً، مدة 10 سنوات.
وقد تطوّرت تلك المساعدات تدريجياً، وصار كل رئيس أمريكي يضيف إليها سنوياً، حتى بلغت المساعدة العسكرية الأمريكية لـ«إسرائيل» قبل حرب غزة ما يقارب الـ4 مليارات دولار سنوياً. وانطلاقاً من الالتزام الأمريكي بالحفاظ على التفوق العسكري النوعي لـ«إسرائيل» في المنطقة، والحفاظ على الردع الذي تتمتع به ضد أعدائها، أصبحت «إسرائيل» عاشر أكبر مصدر للأسلحة في العالم.
والسؤال المطروح: هل يمتلك الأمريكيون قدرة التأثير على «إسرائيل»؟
واقعياً، يرتبط كل عمل سياسي أو نشاط خارجي للدولة بعاملين: الإرادة والقدرة.
بالنسبة إلى القدرة، يمتلك الأمريكيون الكثير من أدوات القوة التي يمكن استخدامها للضغط على «إسرائيل» لوقف عدوانها على قطاع غزة أو للذهاب إلى تسوية سياسية تؤدي إلى استقرار في المنطقة يريده الأمريكيون بشدة من أجل التفرغ لاحتواء الصين.
لكن، وبالرغم من اعتقاد الكثير من الخبراء الأمريكيين أنَّ المكاسب التي تجنيها الولايات المتحدة من «إسرائيل» في المنطقة لا توازي الثمن الأخلاقي والدولي المدفوع عالمياً، وخصوصاً مشاعر الكراهية التي تشعر بها العديد من شعوب العالم تجاه أمريكا، ولا سيما العربية، تبقى الفوائد الشخصية والكلفة العالية لانتقاد «إسرائيل» في الداخل الأمريكي العامل الأساسي.
يجني المسؤولون الأمريكيون فوائد شخصية من دعم «إسرائيل»، وخصوصاً في ظل فاعلية اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، والتأييد العارم الذي تتمتع به «إسرائيل» بين الكنائس الإنجيلية. إضافة إلى ذلك، لدى «إسرائيل» من النفوذ والمكانة والقدرات ما يجعل معاداتها أو انتقادها مكلفاً داخل أمريكا، ولنا فيما حصل مع الرئيس الأسبق باراك أوباما بعد انتقاده نتنياهو مثال واضح.
وبناء عليه، يبدو أن ما نراه أو ما يحكي عنه من انقسامات داخل الإدارة الأمريكية هو نوع من توزيع الأدوار داخل الحزب الديمقراطي الذي يخشى أن يتكرر مع بايدن في انتخابات عام 2024 ما حصل مع هيلاري كلينتون عام 2016، حين امتنع جزء من الديمقراطيين عن التصويت، ما سمح بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
في النتيجة، من المؤكد أن الأمريكيين لديهم القدرة على ممارسة الضغوط على «إسرائيل»، وهي قدرات ووسائل ضغط سياسية وعسكرية واقتصادية وعقوبات وسواها من الوسائل التي تستخدم في العالم، والتي تمّ يوماً تهديد الحلفاء الأوروبيين بها، لكن الواقع أنه ليس هناك إرادة ورغبة أمريكية بهذا الشأن.
{ كاتبة وأكاديمية من لبنان
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك