أظهرت أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة، أن النظام الدولي الذي تمثله «الأمم المتحدة»، بفروعها الرئيسية ووكالاتها، والقائم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، هو الآن في محنة، فلم يستطع وقف العدوان أو الحد من أثاره المدمرة، ولم يستطع إيقاف دولة عضو فيه عن ممارسات تضرب عرض الحائط بالقوانين الدولية ومواثيق وعهود حقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أن شهادات وتقارير قادة الأمم المتحدة، وعلى رأسهم أمينها العام، ومديرو «منظمة الصحة العالمية»، و«اليونيسف»، و«الوكالة الدولية لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين»، «الأونروا»، قد أكدت أن هذه الممارسات «لا يمكن تبريرها بدعوى الدفاع عن النفس»، وبرغم صدور قرارات عن «مجلس الأمن»، و«الجمعية العامة للأمم المتحدة»، تدين هذا العدوان؛ فقد طرحت إسرائيل كل ذلك جانبًا، بل إنها سخرت من تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، وأعلنت صراحة أنه: «لا يصلح لقيادة هذه المنظمة الأممية، داعية إلى استقالته من منصبه».
وفي 16 أكتوبر، لم يتمكن «مجلس الأمن الدولي» – المنوط به حفظ الأمن والسلم الدوليين – من اعتماد مشروع قرار مقدم من «روسيا»، ومدعوم من عدد من الدول العربية، بشأن التصعيد في غزة، بعد أن صوت لصالحه خمسة أعضاء فقط، وعارضه أربعة منهم «الولايات المتحدة»، مع امتناع ستة آخرين عن التصويت، وقد حظي هذا المشروع بدعم «البحرين»، و«جيبوتي»، و«مصر»، و«الأردن»، و«الكويت»، و«لبنان»، و«سلطنة عمان»، و«قطر»، و«السعودية»، و«السودان»، و«الإمارات»، و«اليمن»، و«تركيا»، وكان يدعو إلى وقف إنساني فوري ودائم لإطلاق النار، ويدين كل أعمال العنف ضد المدنيين، ويدعو إلى إطلاق سراح الأسرى، وتوفير وتوزيع المساعدات الإنسانية من دون عوائق، فيما عبر المندوب الروسي عن أسفه لأن المجلس ظل رهينة أنانية الوفود الغربية.
واستمرارا، لم يتمكن أيضًا من اعتماد مشروع قرار تقدمت به «البرازيل» -الرئيس الدوري للمجلس – في 18 أكتوبر، بعد أن أيده 12 عضوًا، وعارضته «الولايات المتحدة»، وامتنعت «روسيا»، و«المملكة المتحدة» عن التصويت، وكان يدعو إلى هدنة تسمح بوصول المساعدات الإنسانية بشكل كامل وسريع وآمن ومن دون عوائق، ويؤكد وجوب حماية المدنيين في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة بما فيها القدس الشرقية، ويؤكد أن حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يمكن أن يتحقق إلا بالوسائل السلمية.
وعلاوة على ذلك، لم يستطع في 25 أكتوبر اعتماد مشروع قرار أمريكي، لاستخدام «روسيا»، و«الصين»، حق الفيتو ضد مشروع القرار بعد حصوله على تأييد 10 أعضاء، ومعارضة كل من «روسيا»، و«الصين»، و«الإمارات»، والذي دعا إلى اتخاذ جميع التدابير اللازمة بما فيها «الهدن الإنسانية»، للسماح بالوصول السريع للمساعدات الإنسانية إلى غزة. وتعليقًا على استخدامه الفيتو، صرح المندوب الصيني أن المشروع «يشمل عناصر كثيرة تفرق ولا تجمع، وتتجاوز البعد الإنساني، وأنه غير متوازن ويخلط بين الحق والباطل، ولا يعكس الدعوة القوية لوقف إطلاق النار وإنهاء العنف».
وبعد التصويت على «المشروع الأمريكي»، جاء التصويت على مشروع قرار روسي آخر، شارك في تقديمه «السودان»، و«فنزويلا»، وحصل على 4 أصوات فقط، فيما عارضه عضوان وامتنع 9 عن التصويت. وعلق المندوب الروسي، أن «واشنطن تستخدم الفيتو لتمرير قرارات مسيسة»، مشددًا على رفضه لأي إجراء أو قرار مهدد للمدنيين في غزة، ومذكرًا أن المجلس حتى الآن، قد عجز عن إرسال رسالة واضحة بشأن الهدنة. فيما كان المشروع الروسي يدعو إلى وقف إطلاق النار لأسباب إنسانية وقفًا فوريًا ودائمًا، وأدان بشكل واضح الهجمات العشوائية ضد المدنيين، ورفض الإجراءات التي تؤدي إلى فرض الحصار على القطاع، وحرمان المدنيين من الوسائل التي تبقيهم على قيد الحياة.
وبعد فشل هذه المشروعات بسبب التمادي في استخدام «حق الفيتو»، توجهت «المجموعة العربية»، إلى «الجمعية العامة للأمم المتحدة»، والتي تبنت في 27 أكتوبر – في دورتها الاستثنائية الطارئة العاشرة – مشروع قرار عربي يدعو إلى هدنة إنسانية فورية، ووقف الأعمال العدائية في غزة، وتحقيق التسليم الفوري والمستدام دون عوائق للسلع والحاجيات الأساسية إلى القطاع، كما يرفض بشدة أي محاولات للترحيل القسري للسكان المدنيين، ويدعو إلى إلغاء الأمر الذي أصدرته إسرائيل للفلسطينيين وموظفي الأمم المتحدة، والعاملين في المجالين الإنساني والطبي، بإخلاء المناطق الواقعة في الشمال والانتقال إلى جنوب القطاع. وفيما عارضت «الولايات المتحدة»، هذا القرار، فقد أيدته «فرنسا»، وامتنعت «بريطانيا»، و«ألمانيا»، و«إيطاليا»، عن التصويت، وقدم «الأردن»، المشروع نيابة عن الدول العربية، وأيده 120 عضوا وعارضه 14، وامتنع 45 عن التصويت من أصل 193 عضوا، غير أن هذا القرار غير ملزم.
وكانت المحاولة الخامسة هي المشروع الذي تقدمت به «مجموعة الدول العشر»، غير دائمة العضوية في المجلس يوم 15 نوفمبر، ورفضته «الولايات المتحدة»، و«بريطانيا»، صاحبتا حق الفيتو. فيما مرر «مجلس الأمن» –في نفس اليوم– مشروع قرار تقدمت به «مالطا»، وجاء التصويت بأغلبية 12 صوتا، مع امتناع «الولايات المتحدة»، و«المملكة المتحدة»، و«روسيا»، عن التصويت، ويدعو إلى هدن، وممرات إنسانية في أنحاء غزة، لعدد كاف من الأيام، من أجل الوصول دون عراقيل إلى الأمم المتحدة، والصليب الأحمر، وجماعات الإغاثة الأخرى لتوصيل المياه والكهرباء والوقود والإمدادات الطبية والغذاء لكل المحتاجين، وأن الهدن يجب أن تسمح بإصلاح البنية التحتية الضرورية، وأن تمكن من تنفيذ جهود الإنقاذ والانتشال العاجلة.
ومع ذلك، رفض «المجلس»، «تعديلا روسيا»، يدعو إلى هدنة إنسانية دائمة تؤدي إلى وقف إطلاق النار. وفي حين أكد القرار ضرورة حماية الأطفال، فقد انتقدته كل من «أمريكا»، و«إسرائيل»؛ لعدم إدانته هجوم 7 أكتوبر، وفيما تعد قرارات المجلس ملزمة، فإن إسرائيل سبق أن تجاهلتها، ويعد هذا القرار هو الأول الذي يصادق عليه مجلس الأمن منذ بدء العدوان.
وعلى مدى الأيام منذ 7 أكتوبر، استمر تواصل آلة الحرب الإسرائيلية في قتل المدنيين، وتدمير سبل حياتهم، وكان ذلك يبث على الهواء مباشرة من دون تحرك دولي فاعل. وفشل «مجلس الأمن»، في التوصل إلى توافق بشأن وقف إطلاق النار، بعد الاستخدام المستمر لحق الفيتو، في مؤشر على عجز الجهاز الأهم في النظام الدولي عن التحرك؛ بسبب حالة الاستقطاب السائدة فيه.
ونتيجة لذلك، عبرت الوفود العربية عن آسفها لذلك الوضع، فيما بيّن النظام الأساسي للأمم المتحدة – الذي يعتبر قرارات الجمعية العامة (وهي برلمان المنظمة) غير ملزمة – حاجة هذا النظام إلى التعديل، حيث يفترض أن الجمعية العمومية في أي نظام ديمقراطي هي صاحبة السلطة الأعلى؛ ولكن هذا لا يوجد في نظام الأمم المتحدة، الذي يخضع لاحتكار قلة، بمقدور أي عضو فيها أن يصيب عملها بالشلل. وفي حين رفضت «إسرائيل»، القرار الذي اعتمده «مجلس الأمن»، بشأن المشروع الذي تقدمت به «مالطا»، بعد دقائق من إعلانه، فإن النظام الدولي لم يتخذ أي تحرك تجاه دولة مارقة لا تحترم قراراته.
وعلى ما يبدو، فإن القضية الفلسطينية التي طغت على المشهد الدولي في الوقت الحالي، قد تقود معها إلى صدارة الاهتمام أيضًا الحاجة إلى إصلاح النظام الدولي، كي يكون أكثر تمثيلاً، وعدالة وإنصافًا، وفاعلية، وأسرع استجابة في تعامله مع مثل تلك الأزمات، حتى لا ينفلت الزمام، ويجد العالم نفسه وقد تحول إلى شريعة الغاب، القوي فيها يأكل الضعيف، ولا تصبح الأمم المتحدة -كما هو مؤمل منها – ملاذ الدول الصغيرة، ويتجه كل إلى حماية نفسه بكل الوسائل التي يستطيعها، وتصبح حجية كثير من الدول في امتلاك أسلحة دمار شامل لها مع يبررها.
وتأكيدًا لهذا التحليل، فقد بينت أحداث العدوان الإسرائيلي على غزة أن المنظمة الأممية، بوضعها الحالي، وبتحركاتها المحدودة، لردع انتهاكات إسرائيل، تخضع لإرادة قوى كبرى دأبت على استخدام حق الفيتو في إفشال مجلس الأمن، ومنعه من إصدار قرارات ملزمة. وعلى مدى عقود، جرت محاولات لإصلاح هذا النظام، وجعله أكثر فاعلية عن طريق تعديل نظام التصويت فيه، ومنح عدد من الدول من قارات العالم المختلفة حق العضوية الدائمة، وتحويل النظام الدولي من منصة دعائية كلامية إلى قوة فاعلة تخدم قضية العدالة الدولية.
ومع ذلك، فإن تعديل نظام «الأمم المتحدة»، يتطلب – كما هو موجود في ميثاقها – موافقة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهو ما يعد أمرا شبه مستحيل، فلن تقبل هذه الدول التنازل عن مزاياها بإرادتها، وما حدث داخل جلسات مجلس الأمن، والأمم المتحدة، بشأن العدوان الإسرائيلي على غزة، هو أمر متوقع في ظل الدعم الكبير، الذي تتمتع به إسرائيل من «الولايات المتحدة»، والدول الغربية، الأخرى.
ولوضع الأمور في سياقها، فإن «الولايات المتحدة»، نفسها كانت قد تجاهلت «المنظمة الأممية»، بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، حين أرست مبدأ «الحرب الاستباقية»، وقامت بغزو أفغانستان، والعراق، ما جعل هذا المبدأ يمتد إلى دول أخرى. وفي خضم العدوان الإسرائيلي على غزة، وفد إلى إسرائيل قيادات غربية تدعم هذا السلوك، وهي القيادات ذاتها التي عطلت آلية مجلس الأمن؛ ما يعني أن القوة الغاشمة قد غدت هي الورقة الرابحة في العلاقات الدولية، وليس آليات النظام الدولي، ما يعيد العالم مرة أخرى إلى سياسة الأحلاف العسكرية، ويدفع كل مجموعة إقليمية تتعرض لتهديد مشترك إلى التجمع معًا لإعمال مبدأ الدفاع الجماعي، الأمر الذي يعيد الاعتبار للدوافع الأمنية، وراء إنشاء «جامعة الدول العربية»، و«مجلس التعاون الخليجي»، كما يمهد الطريق إلى تهاوي مكانة هذه المنظمة الأممية، ويضعها في المسار نفسه الذي كانت عليه «عصبة الأمم»، قبل الحرب العالمية الثانية، برغم الإنجازات التي حققتها في الميدان الدولي في المجالات التنموية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وفيما كشف العدوان الإسرائيلي، اختلال التوازن في النظام الدولي، وحاجة الأخير إلى الإصلاح؛ فقد كان ذلك واضحًا في اهتمامات قمة «صوت الجنوب» الثانية الافتراضية في الهند يوم 17 نوفمبر – وهو منتدى يضم بلدانا من أمريكا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، ويعد بمثابة منصة للدول النامية – حيث بينت كلمات الدول الحاجة إلى إصلاح النظام الدولي؛ لمواجهة هذا التحدي والتحديات الأخرى، في إطار مبادئ توافق عليها الجميع، كاحترام سيادة الدول على أراضيها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
على العموم، فإنه أمام محنة النظام الدولي، وعجزه عن إيقاف آلة الحرب الإسرائيلية عن عدوانها، بينما يتصاعد الاهتمام بإصلاح هذا النظام من منصات عديدة؛ يصبح ما يعول عليه النظام العربي هو استخدام ما لديه من أوراق ضغط، وقوة تأثير لدى عواصم القرار، خاصة مع وجود إجماع دولي على حماية المدنيين، وتوسيع نطاق المساعدات وسرعة وصولها وتأمين انسيابها، وفتح الأفق السياسي أمام حل الدولتين، فيما ينضج في نفس الوقت غضب شعبي عالمي ضد الممارسات الإسرائيلية، شكل أداة ضغط مؤثرة على القرارين الأمريكي والأوروبي.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك