في 27 نوفمبر 2023 حذر ينس ستولتنبرج الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «الناتو» من «خطر التصعيد الإقليمي بعد ضربات من دون طيار وصواريخ على مواقع أمريكية في كل من سوريا والعراق، بالإضافة إلى الهجمات على السفن التجارية» مطالباً «إيران بكبح جماح وكلائها في المنطقة لمنع اتساع رقعة الصراع الإقليمي»، وهي المرة الثانية التي تصدر فيها تصريحات رسمية عن مسؤولي حلف الناتو منذ بدء الأحداث في غزة في السابع من أكتوبر من العام الحالي، ففي الثاني عشر من أكتوبر قال ستولتنبرج إن «حلف الناتو ليس طرفاً في ذلك الصراع» موجهاً تحذيراً إلى إيران وحزب الله من التدخل في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وذلك في أعقاب قرار الولايات المتحدة الأمريكية إرسال حاملة طائرات إلى البحر المتوسط».
وواقع الأمر أن موقف حلف الناتو تجاه قضايا الأمن الإقليمي ليس بالأمر الجديد فلطالما أكد الحلف أنه لن يتدخل في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي سوى بشروط ثلاثة وهي طلب طرفي الصراع التدخل، وجود قرار أممي يكون ركيزة لذلك التدخل، وأخيراً يكون ذلك التدخل بعد تطبيق حل الدولتين من خلال قوات يمكنها أن تكون ضامناً لتنفيذ أي اتفاقات مستقبلية.
ومع الأخذ بالاعتبار التطابق الكبير بين موقف الحلف والولايات المتحدة التي تسهم بنسبة تزيد على 72% من ميزانية الحلف فإن تلك الأحداث تمثل تحدياً للحلف لخمسة أسباب أولها: إنه لطالما اعتمد الحلف على استراتيجية الردع بدلاً من مواجهة التهديدات من خلال التدخل العسكري المباشر على غرار ما تقوم به الولايات المتحدة أكبر أعضاء الحلف، ولكن استراتيجية الردع الأطلسية تشهد اختباراً مع زيادة الهجمات على المصالح الغربية في كل من العراق وسوريا ، وللحلف بعثة تزيد على 4 آلاف فرد لغرض تدريب قوات الأمن العراقية بما يعنيه ذلك من أن ذلك الهجوم ليس على المصالح الأمريكية ولكن على الأطلسية، وثانيها: إنها ليست المرة الأولى التي يتم فيها استهداف السفن التجارية في الخليج العربي بل إن تلك الهجمات قد بدأت منذ عام 2019 وحتى الآن وربما لا يتم إعلانها جميعها وهو ما يثير تساؤلات لدى شركاء الحلف حول قدرته على مواجهة تلك الهجمات وعما إذا كان يمكنه الإسهام بدور ما في حماية الملاحة البحرية في منطقة الخليج العربي أخذاً بالاعتبار أن دول الحلف الرئيسية كانت أعضاء في التحالف الذي قادته إدارة الرئيس ريجان لحماية ناقلات النفط من الاعتداءات خلال الحرب العراقية- الإيرانية في الثمانينيات، وثالثها: إن تلك الأحداث تدور في الجبهة الجنوبية للحلف والتي تتزامن مع توتر الجبهة الشمالية «الحرب في أوكرانيا» ومن ثم فإن تزامن التوترات في الجبهتين يعد تحدياً هائلاً سواء لمصالح الحلف أو حتى على صعيد القدرات والجهوزية، ففي مداخلته أمام حوار المنامة الأمني التاسع عشر الذي عقد خلال الفترة من 17-19 نوفمبر 2023 بالبحرين قال الجنرال روب باور رئيس اللجنة العسكرية في الحلف: «إن خصوم الحلف هم من يحددون طريقة الأداء العسكري وأن الدرس الكبير سواء من أحداث أوكرانيا أو غزة هو ضرورة الاستعداد لأي أحداث متوقعة حتى تلك التي لا تدور في أذهان مسؤولي الحلف»، وكان لافتاً تأكيده أن اهتمام الدول بتوظيف التكنولوجيا في مجال الدفاع لا يجب أن يكون على حساب إغفال العنصر البشري والحروب التقليدية في إشارة لما يحدث الآن في غزة، فضلاً عن أوكرانيا الذي أكد أنها لن تنتصر إلا إذا حصلت على التكنولوجيا المتطورة والأقل تطوراً في آن واحد، ورابعها: أن للحلف مبادرتين مهمتين في منطقة الشرق الأوسط الأولى هي الحوار المتوسطي الذي أطلقه الحلف مع 7 دول متوسطية عام 1994 والثانية هي مبادرة إسطنبول للحوار مع دول الخليج العربي2004 والتي انضمت إليها حتى الآن دول الخليج العربي فيما عدا كل من المملكة العربية السعودية وسلطنة عمان ومن ثم فإن لدى الحلف حرص على تطوير هاتين الشراكتين من خلال جهود مؤسسية منها افتتاح المركز الإقليمي لحلف الناتو ومبادرة إستانبول في الكويت عام 2017 ليكون نقطة اتصال استراتيجي بين الحلف والشركاء الإقليميين، بالإضافة إلى افتتاح مركز عسكري للحلف في مقر القيادة العسكرية للحلف في نابولي العام ذاته ليكون مسؤولاً عن «تقييم المخاطر في ليبيا ومنطقة الساحل الإفريقي»، وكان واضحاً تأكيد رئيس اللجنة العسكرية في حوار المنامة أن قمة الحلف في عام 2024 ستكون معنية بتطوير أطر الشراكة بين الحلف والجبهة الجنوبية بما يعنيه ذلك من أن نتائج التطورات الراهنة في غزة حتى وإن لم يكن الحلف طرفاً مباشراً فيها أمر يهم الحلف ودوله الأعضاء، وخامسها: إن المفهوم الاستراتيجي للحلف الصادر عام 2022 وهو ميثاق أمني رفيع المستوى يصدر كل عشر سنوات كمراجعة لمضامين التهديدات الأمنية التي تواجه الحلف وتحديد القدرات والآليات اللازمة لمواجهتها قد أشار وبوضوح أن أولوية الحلف خلال العقد المقبل هي مواجهة الإرهاب في منطقة الساحل الإفريقي بما يعنيه ذلك من إثارة الجدل حول إمكانية تغير أولويات الحلف في ضوء المستجدات في منطقة الشرق الأوسط التي لا تزال تحظى بأهمية لدى حلف الناتو.
ومع أهمية ما سبق فإن استمرار النظرة التقليدية لحلف الناتو بوصفه أحد أدوات الدول الغربية لإدارة الصراع مع الاتحاد السوفيتي السابق وكل من روسيا والصين حالياً أمر يمثل نظرة قاصرة، فالحلف الآن لديه اهتمام بتهديدات الأمن العالمي ومنها الأمن الغذائي والهجرة غير الشرعية والتهديدات السيبرانية وقضايا التغير المناخي والتي أعلن الحلف تسمية أحد سفرائه ليكون مسؤولاً عن ذلك الملف، أي إن الحلف يشهد تحولاً في الأولويات من خلال التكيف مع بيئة التهديدات وهو الأمر الذي ينعكس بالطبع على مضامين شراكاته الإقليمية من حيث برامج التعليم والتدريب وهي اختيارية بطبيعة الحال لما تراه كل دولة مناسباً لها.
وفي تصوري أن التطورات الإقليمية الراهنة بقدر ما بها من تحديات لحلف الناتو فإنها تحمل في طياتها أيضاً فرصاً للحلف ليس للتدخل عسكرياً ولكن للحفاظ على توازن القوى الإقليمي من خلال ممارسة ردع حقيقي للحفاظ على أمن الملاحة البحرية الذي يمكن أن يكون مجالاً لمواجهات عسكرية محتملة في المنطقة، بالإضافة إلى دعم قدرات الشركاء وزيادة جهوزيتهم في مجالات الأمن السيبراني والكوارث البحرية وإدارة الأزمات وهي مجالات للحلف وله خبرات متنوعة فيها، كما أنها مضامين للمفاهيم الاستراتيجية المتعاقبة للحلف، لن يكون للحلف وجود عسكري في المنطقة ولكنه يظل أداة للردع.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك