ذات يوم من أيام الشباب الجميل قدمنا مسرحية بعنوان (في وجه الطوفان) للكاتب محمد عبدالحميد أحمد، المسرحية تتحدث عن فترة اجتياح المغول التتار للشام ودور شيخ الإسلام ابن تيمية في التصدي لهذا الزحف المغول التتري الهمجي الغاشم.
تروي لنا المسرحية وكتب التاريخ –أيضًا– إن هولاكو– حفيد جنكيز خان – خرج ذات يوم بجيوش جرارة من الشرق الأقصى متجهًا نحو الشرق الأوسط، بهدف واحد لا غير وهو تدمير كل ما يمت للإسلام بصلة، ولكنه أمام البشرية كان ينادي أن جيوشه حاملة الحضارة وأنه سيقدم تلك الحضارة إلى دول الشرق العربي الإسلامي.
اجتاح هولاكو فارس ووصل إلى بغداد، وفي طريقه دمر كل مظاهر الحضارة والفكر والثقافة الإسلامية، وفي بغداد عاث فسادًا، فدمر كل ما تطاله يده بغض النظر عن أهمية ذلك الشيء، وتروي لنا كتب التاريخ قائمة ببعض الأمور التي قام بها هذا الديكتاتور الذي جاء إلى الشرق الإسلامي ليحمل نور الحضارة، منها:
{ دمر مكتبة بغداد، وكانت المكتبة الكبيرة، وتحوي وثائق تاريخية ثمينة وكتبا علمية كثيرة تتراوح مواضيعها من الطب إلى علم الفلك وغيرها من العلوم الحديثة في ذلك الوقت، وقد تم تدميرها كاملة، وقال المتبقون على قيد الحياة إن مياه نهر دجلة أصبحت سوداء نتيجة لكمية الحبر الهائلة التي تناثرت من الكتب التي ألقي بها في النهر.
{ حاول العديد من مواطني بغداد الهرب، ولكن تم اعتراضهم من قبل قوات المغول، وتراوحت أعداد القتلى من مائتي ألف حتى مليون قتيل.
{ المساجد، القصور، المكتبات العامة، المستشفيات والبنايات الضخمة التي استغرق بناؤها وقتًا كبيرًا نهبها المغول جميعها ثم أحرقوها بعد ذلك.
{ تم أسر الخليفة وأجبر على مشاهدة دمار المدينة، ثم أمر هولاكو جنوده فقاموا بلفه بسجاد وأوسعوه ضربًا ودهسًا بالخيول حتى مات لأنهم كانوا يعتقدون أنه لا ينبغي أن يتم إراقة دماء ملكية.
{ اضطر هولاكو إلى تحريك معسكره بعيدًا عن المدينة نتيجة للرائحة الكريهة التي كانت تتصاعد من الموتى والمدينة المدمرة.
{ وظلت المدينة بعد ذلك مدمرة وخالية من السكان عدة سنوات.
وما أشبه اليوم بالبارحة، فاليوم تُدمر غزة عن بكر أبيها ولسان حال العالم الغربي والشرقي حاملي الحضارة: «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها».
ويروي عن الفيزيائي الفرنسي بيير كوري أنه قال: بثلاثين كتابًا بقيت لنا من الأندلس تمكنا من تقسيم الذرة، ولو كان متاحًا لنا الاطلاع على ما في مئات الآلاف من كتب المسلمين التي دمرت لكنا اليوم نتنقل بين المجرات، وفي رواية «لكنا الآن نلعب كرة القدم بين المجرات».
وعندما بدأ زحف جيوش المغول نحو الشام، زحف الخوف واليأس في نفوس البشر سكان تلك المناطق، وبدأت الأسر تهرب من الشام إلى الدول الأخرى المجاورة، إلا أنه كان هناك أحد العلماء الذين كانوا يقومون بتدريس علوم التوحيد والعقيدة والفقه، هذا العالم – وهو ابن تيمية – عندما وجد أن المغول لا محال سيجتاحون الشام وضع محبرته وكتبه جانبًا، وأخذ سيفه وامتطى جواده ويذهب يحث الناس على الجهاد.
لم يتردد ابن تيمية كثيرًا، ولم يقل في نفسه أو أمام الناس «هل من المعقول أن نقف –نحن– أمام جيوش التتار المغولي الزاحف المنتصر ونحن حفنة من الناس الذين لم يتدربوا على حمل السلاح؟»، ولم يكرر في نفسه مثل هذه الجمل وهذه العبارات التي تولد الخور في النفوس، ولكنه كان يحمل في طيات قلبه فكرة واحدة وهي أن «هؤلاء المغول فئة مغتصبة للأرض الإسلامية، قتلت ودمرت وأحرقت، ولا بد من إزالتها وطردها لتعود من حيث أتت».
حمل هو وبعض الشباب السلاح، ولم يكن يحارب التتار فقط، ولكن واجه الكثير من (المتفيهقين)، وهم الذين قال عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ان من أحبكم إليّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ؟ وإن من أبغضكم إليّ وأبعدكم مني يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون»، قالوا: يا رسول الله قد علمنا الثرثارين والمتشدقين فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبرون» رواه الترمذي وقال حديث حسن.
وأصل الفهق في اللغة: الامتلاء، فمعنى المتفيهق: الذي يتوسع في كلامه ويفهق به فمه. قال ابن الأثير: وتفسير الحديث: هم الذين يتوسعون في الكلام ويفتحون به أفواههم، مأخوذ من الفهق وهو الامتلاء والاتساع. وتفيهق في كلامه توسع وتنطع. بمعنى الذين يكثرون الكلام ومن أجل الكلام، والذين يظلون يتكلمون بالساعات من غير أي فائدة علمية أو فكرية، يتكلمون من أجل أن يسمعهم الناس، وهم من غير علم أو فكر.
هؤلاء هم من يعرفون في مكان آخر (بالرويبضة)، ويذكر السيوطي في الجامع الصغير معنى الرويبضة، فيقول: «بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة معنى الرويبضة لما سألوه، فقد جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل: وما الرويبضة ؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة».
هؤلاء (المتفيهقون) و(الرويبضة)، كانوا يحاربون مع المغول في خندق واحد، سواء كانوا يعرفون أم لا يعرفون، فقد كانوا ينشرون الخور واليأس في النفوس، ويشككون في نيات الشيخ ابن تيمية وقدراته وإمكانياته في التصدي لهذا الزحف المغولي الذي لا يقهر، فهم لم يقفوا مع ابن تيمية في الميدان، ولم يكفوا ألسنتهم عن بث الروح السلبية واليأس بين النفوس، ولم ينشروا الإحباط من لقاء العدو فحسب، وإنما راحوا يشككون في عقيدة الإمام وفي نزاهته وأفكاره.
امتاز شيخ الإسلام ابن تيمية بشجاعته وجرأته في محاربة التتار، ويبدو هذا واضحًا عندما اقترب التتار لغزو دمشق، حيث هرب الكثير من كبار البلد وعلمائها، وحتى حكامها، ولم يبقَ مع عامة الناس سوى ابن تيمية، حيث حال قلبه بينه وبين الهرب والفرار، فقاتل وقاتل ولم يفر، ولم يفكر في كل الذين قالوا عنه ما قالوا، وخذلوه، وإنما هو جهاد، نصر أم استشهاد.
وفي النهاية – كما تشير كتب التاريخ – أن ابن تيمية انتصر في معركته ضد التتار، ولكنه بعد ذلك استمر في مواجهة (الرويبضة) و(المتفيهقون)، فأدخل المعتقل مُتهمًا في عقيدته التي قادته إلى جهاد التتار، فظل في السجن سنوات حتى استشهد هناك، وخلال فترة اعتقاله عُرض عليه إطلاق سراحه في مقابل التنازل عن آرائه وأفكاره، فقال للسجان «أبلغ الأمير شكري، وقل للعلماء: إن ابن تيمية يعيش في قلعته حرًا، فليست العبودية أن أعيش تحت وطأة القيود والسلاسل، وإنما العبودية أن تقهرني القيود والسلاسل دون عقيدتي وإيماني، وليس السجين الذي يعيش في ظلمات السجن وأغلاله، وإنما السجين الذي يعيش في ظلمات النفس والضمير».
وتنتهي المسرحية عند هذا الحد.
واليوم نعيش نفس هذا الوضع، في غزة تقوم المقاومة بمحاربة المغول الجدد، الذين يهدمون المساجد والكنائس والمستشفيات والجامعات، ويقتلون من يقتلون أمام ناظري العالم، ولسان حال العالم يقول «من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها»، وأقصى حد وصلت إليه المنظمات الحقوقية أنها (أدانت هذا الدمار الكبير)، ثم سكتت وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد. وإن كنا نتوقع ذلك، فهذا أمر لا جديد فيه.
ولكن الأغرب من كل ذلك هو أن يخرج من بين ظهرانينا، ومن بني جلدتنا، ومن يتحدث بلساننا من يشكك في نيات المقاومة وقدراتها على البقاء والجهاد، ليس ذلك فحسب وإنما يغلف كلامه المشكك السلبي بورق ذي ألوان جميلة لماعة، فيحاول تارة أن يشكك في نيات المقاومة، وتارة في جدوى المعركة، وتارة في تبادل الأسرى، فإن لم يجد أمامه أي شيء آخر، ذهب إلى أوراق التاريخ يبحث عن تاريخ وماضي رجال المقاومة، وليحاول أن يجد ولو ثغرة بسيطة يستطيع من خلالها أن يبرر أقواله ويطعن في نزاهة الرجل.
أيها السادة، رجال المقاومة ليسوا أنبياء ولا صحابة، وإنما هم بشر، يخطئون ويصيبون، ولكن على الأقل تركوا متع الدنيا من أجل البحث عن الشهادة، وليس الشهادة الجامعية أو التعليمية وإنما هي شهادة من الله عز وجل من أجل دخول الجنة، فإن كنتم – أيها السادة – لم تصلوا إلى مرحلة من الشفافية لتؤمنوا أن هناك جنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين، فلا تتحدثوا، فإن عقيدة هذه الأمة قائمة على الإيمان بيوم الحساب، ومن بعد الحساب إما إلى الجنة وإما إلى النار، وخلاف ذلك لا نعرف.
فليس من الذكاء أن نظهر على وسائل التواصل الاجتماعي ونتحدث، من أجل الظهور، ونقول، من أجل أن نُضحك الناس وأن نسخر من المقاومة وأن نقلل من شأنهم، فيكفي هؤلاء فخرًا أن لهم هدفا يمضون لتحقيقه من أجل الجنة، فما هدفكم أنتم؟!
فكروا، قبل أن تُغلق الصحف، ويبدأ الحساب.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك