شهدت السنوات الأخيرة زيادة في عدد الأكاديميين وصانعي السياسات، الذين رأوا أن مقترح «حل الدولتين»، لتسوية الصراع الإسرائيلي الفلسطيني «غير قابل للتطبيق»، وهو المقترح الذي يضمن تشكيل دولة فلسطينية مستقلة، وتم إضفاء الطابع الرسمي عليه في السنوات التي تلت توقيع اتفاقات أوسلو عام 1993.
وتبرز أهمية ذلك في ضوء تغير السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والجيواستراتيجية، مثل الحروب التي شنتها إسرائيل على غزة، وهيمنة حزب الليكود على الانتخابات الإسرائيلية، وخططه المتسارعة لضم أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، وزيادة عدد المستوطنات، وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة عام 2016. وفي هذا الإطار، تقول «إليزابيث مارتيو»، من «المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية»: «إن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل في ديسمبر 2017 أرسل إشارة إلى أن حل الدولتين لم يعد قابلا للنقاش».
ومنذ أحداث السابع من أكتوبر، تضاءلت احتمالية حل الدولتين بشكل أكبر مع استعداد إسرائيل للاحتلال العسكري لقطاع غزة، وإعلان الغرب دعمه المطلق لها، دون رقابة أو مسؤولية أو تخوفات حول التكلفة الهائلة التي سيتكبدها المدنيون الفلسطينيون في الخسائر المادية، والأرواح. وعلى الرغم من ذلك، حاولوا إقناع العالم بالتزامهم المستمر بتحقيق هذا الحل، والدفع نحو عملية سلام دائمة في الشرق الأوسط. لذلك كتب «مايكل بارنيت»، و«ناثان براون»، و«مارك لينش»، و«شبلي تلحمي»، في مجلة «فورين آفيرز»، إنه «لا يوجد الآن سوى واقع دولة واحدة، فيما يظل وجود أي نظرة تفاؤلية حول المساواة والسلام، بمثابة تصورات خيالية لا أكثر».
ومع ادعاء الرئيس «جو بايدن»، أن نهاية الصراع الحالي يجب أن تؤدي إلى «حل الدولتين»؛ فإن سياسات «واشنطن»، وأفعالها تُظهر مدى تفضيلها لدعم قدرات إسرائيل وإهدار الحقوق الفلسطينية. وفي حين دافع رؤساؤها السابقون عن هذا الحل؛ فقد أذعنت خلال عام 2023، لمطالب «نتنياهو»، وفشلت في محاسبته على انتهاكاته السابقة والحالية ضد الفلسطينيين، ولم تكن وحدها التي فعلت ذلك، بل إن حالة المراوغة والخداع التي اتبعتها دول غربية رائدة، مثل «المملكة المتحدة»، و«فرنسا»، و«ألمانيا»، و«الاتحاد الأوروبي»، بشأن نهاية الصراع، كانت واضحة أكثر من أي وقت مضى.
ونتيجة لذلك، ذهب المراقبون والمحللون إلى صعوبة تطبيق حل الدولتين، إن لم يكن بالفعل صار احتمالا مستحيلا. واستشهد «تشارلز دبليو دن»، من «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، بشن المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية حملة تطهير عرقي ضد الفلسطينيين». وكتب «برونو ماسياس»، في مجلة «نيو ستيتسمان»، إنه «لا يعتقد أن هذا الحل متاح بعد الآن، خاصة أن إسرائيل تشعر أنها قوية للغاية، ولم تعد بحاجة إلى تقديم تنازلات».
علاوة على ذلك، فإن تزايد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية والقدس الشرقية – رغم عدم مشروعيته بموجب القانون الدولي – (حيث تضاعف 7 أضعاف العدد الذي كان عليه الحال عام 1993)؛ يمثل عقبة أمام تطبيق حل الدولتين، الذي بموجبه سيكون من الصعب رؤية دولة فلسطينية ذات سيادة متجانسة وفعالة، خاصة في ظل تأكيد الحكومة الإسرائيلية على حمايتها، وعدم إخلائها بعد أن أثبتت تجربتها في إخلاء المستوطنين من غزة عام 2005، أنها لا تحظى بشعبية على الصعيد السياسي. ويشير «خالد الجندي»، من معهد «بروكينجز»، إلى أنه «ليس لدى القادة الإسرائيليين أي حافز لاتخاذ القرارات غير الشعبية، والتي يتطلبها حل الدولتين، مثل إخلاء المستوطنات».
واتفاقًا مع هذا التقييم، علق «مروان المعشّر»، من مؤسسة «كارنيغي للسلام الدولي»، بأن خيار حل الدولتين «موجود نظريا فقط»، أما «عمليا، فقد مات منذ زمن طويل». وبالمثل، علق «لويجي سكازييري»، من «مركز الإصلاح الأوروبي»، بأن هذا الحل «من الصعب تصوره» على أرض الواقع. ووصف «جويل بيترز»، من جامعة «فرجينيا للتكنولوجيا»، الفكرة بأنها «ضرب من الخيال في المناخ الجيوسياسي الحالي».
وعندما يتم وضع هذه التقييمات مع استطلاعات الرأي في المنطقة، والتي تُظهر أنه قبل 7 أكتوبر، كان 35% فقط من الإسرائيليين يؤيدون حل الدولتين، (وهو ما يمثل بنسبة 15% عن العِقد الماضي)، وأن الدعم الفلسطيني قد انخفض إلى النصف منذ عام 2012، مع اعتقاد 81% أيضًا أن السلام الدائم لن يكون ممكنًا؛ فمن الواضح أن صناع القرار في الولايات المتحدة وأوروبا، بحاجة إلى صياغة أفكار جديدة حول كيفية وقف العنف الحالي، وتحقيق سلام دائم وعادل.
وبدلاً من السعي إلى وقف العنف من خلال التفكير في مبادرات جديدة؛ استمر «بايدن»، والقادة الغربيون في عملية التضليل، وتبني حل الدولتين، وذلك على الرغم من استحالة تطبيقه في ظل اختلال توازن القوى الحالي بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وفي مقال نشرته صحيفة «واشنطن بوست» -منتصف نوفمبر – أكد أن هذا الحل «هو السبيل الوحيد لضمان الأمن طويل الأمد لكلا الطرفين»، ومع أنه «في الوقت الحالي قد يبدو هذا الأمر بعيد المنال؛ فقد أكد أن «الأزمة الحالية جعلت الأمر أكثر إلحاحًا». وتحدث «أنتوني بلينكن»، وزير خارجيته في اجتماع لدول مجموعة السبع -أوائل نوفمبر – عن مدى «الأهمية الحيوية لتطلعات الفلسطينيين إلى حكم أنفسهم، وأن يكونوا هم من يقررون مستقبلهم.»
وعلى الرغم من تأكيد «الولايات المتحدة «باستمرار دفع عملية السلام في الشرق الأوسط، والدعوة إلى إنشاء دولة فلسطينية، إلا أنها لم تبذل أي جهد مادي أو سياسي ملحوظ للقيام بذلك، بل تفاقمت محنة الفلسطينيين بشكل أكبر. وأشار «المعشّر»، إلى أنه «لإنقاذ أي مظهر من مظاهر حل الدولتين، فإن الأمر يحتاج إلى أمريكا القادرة والراغبة في قيادة المبادرة». وسجل «تشارلز دن»، غياب رغبتها لوقف إطلاق النار، أو تدشين عملية السلام، أو تحمل العبء السياسي»، وأشار إلى أن لغة القادة الأمريكيين تجاه إقامة الدولة الفلسطينية كانت «مبهمة»، وعجزت عن «الالتزام بتحقيق حل الدولتين»، فيما يكشف تبنيها لهذا الحل في الوقت الحالي موقفها المخادع تجاه القضية الفلسطينية، وذلك لعدم اتخاذها أي إجراء للمساعدة في جعله «حقيقة واقعة»، ما يقوض دورها كحكم، ووسيط في الأزمات الدولية.
وفي مقالته –السابق الإشارة إليها– أكد «بايدن»، أن السلام الدائم في المنطقة، يتطلب «التزامات من الإسرائيليين والفلسطينيين، وكذلك من الولايات المتحدة والحلفاء والشركاء». ولا ينفي هذا التصريح قبول الفلسطينيين المستمر للوساطة الدولية فحسب، بل يُظهر أيضًا إنكارًا واضحًا لحقيقة أن إسرائيل وجيشها ومستوطنيها، هم من ينتهكون القانون الدولي باستمرار، وكيف تتغاضي عن ذلك «واشنطن»، من خلال عرقلة الجهود الرامية إلى مساءلتها عن هذه الجرائم.
وعلى غرار «بايدن»، كتب «جوزيب بوريل»، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية، في صحيفة «فاينانشال تايمز»، أنه «سيكون هناك غد لم يتمكن أي من الطرفين تصوره بعد». وفي حين أكد أن مبادئ تسوية «القضية الفلسطينية»، يجب أن تكون «قائمة على العدالة والحقوق المتساوية لكلا الشعبين»، فإن تعليقاته تركز على سبل التوصل للكيفية التي يمكن بها لإسرائيل أن تستفيد أكثر من تلك التسوية لصالحها، حيث أكد أن حل الدولتين هو «أفضل ضمان لأمن إسرائيل».
وفي حين أكد أن الفشل في إقامة دولة فلسطينية سيوفر «فراغًا في السلطة، ما سيكون أرًضا خصبة لتقوية شوكة المنظمات والحركات المتطرفة»، فإن الاتحاد الأوروبي يواصل إخفاقاته أيضًا في محاسبة الحكومة والجيش الإسرائيليين، جراء العدوان على المدنيين الفلسطينيين في غزة، أو عمليات الضم لمزيد من الأراضي الفلسطينية المحتلة. ولعل خير دليل على ذلك، أن رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين»، تعتبر واحدة من أقوى المؤيدين لعملية الانتقام العنيفة التي تمارسها إسرائيل في غزة.
وتشير حالة المراوغة والخداع من قبل القادة الغربيين في مواصلة الترويج لخيار حل الدولتين، مع عدم إظهار أي قوة دافعة لجعله حقيقة واقعة -على الرغم من موجة العنف الإسرائيلية الراهنة ومعاناة المدنيين الفلسطينين – إلى الافتقار الواضح إلى أية مقترحات أو «أفكار بديلة». وأوضح «بيترز»، أن خيار حل الدولتين «يظل مطروحًا لعدم وجود أي بدائل قابلة للتطبيق»، لكن يجب الإشارة أيضا إلى أن اللبنات المهمة الأخرى للتسوية السلمية، ليست بالضرورة موجودة ضمن الاهتمامات السياسية الغربية، ولا يتم أخذها في الاعتبار.
وفي السياق ذاته، أكد «المعشر»، أن الطريق إلى السلام يتطلب «حكومة إسرائيلية مختلفة تمامًا»، تكون «مستعدة لقبول الانسحاب على طول حدود عام 1967»، و«تفكيك المستوطنات، التي تتعارض مع القانون الدولي». وفي حين امتنعت الحكومات الغربية تاريخيًا عن الضغط على إسرائيل لحملها على الالتزام بقرارات الأمم المتحدة، والقانون الدولي؛ فقد أكد «سكازييري»، أن «الميل نحو تبني التوجهات اليمينية المتشددة» في السياسة الإسرائيلية خلال السنوات الأخيرة، يعني أن احتمالات وصول حكومة إسرائيلية معتدلة إلى السلطة، تكون مستعدة للعودة إلى المفاوضات؛ تضاءلت بالفعل.
ومع غياب ملامح الزعامة الأخلاقية والسياسية الغربية اللازمة لدفع عملية السلام قدمًا في الشرق الأوسط، أبدى المعلقون أيضًا عدم اقتناعهم بواقع خيار «حل الدولة الواحدة»، كونه لا يعد حلاً إطلاقًا. وانتقده «ماسياس»، ووصفه بأنه «مستحيل»، وحذر من أنه بمثابة سيناريو ينطوي على «الطرد النهائي للفلسطينيين من قطاع غزة، والضفة الغربية أيضًا».
وفي خضم حالة العنف وانعدام الأمن التي قد يفرضها «واقع الدولة الواحدة» – حال تطبيقه حاليًا – أشارت «موريل أسيبورغ»، من «المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية»، إلى «أن الغرب يتعمد إدارة الأزمة»، بدلاً من العمل على حلها». كما أن تصريحات «بايدن»، بأن «العمل نحو حل الدولتين يجب أن يبدأ الآن»، تُظهر مرة أخرى مدى خداع ومراوغة السياسة الغربية تجاه المنطقة.
على العموم، فإنه على الرغم من أن تصريحات القادة الغربيين تؤكد ضرورة التوصل إلى تسوية سلمية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإنهم لم يبذلوا الجهد السياسي والدبلوماسي المطلوب لتحقيق ذلك. ومع إشارة «دن»، إلى أن العدوان الإسرائيلي على غزة من المرجح أن يستمر «فترة غير معلومة»؛ يبدو أن الغرب يرتكب جرمًا لا يستهان به مع فشله في حماية المدنيين الأبرياء من الموت، والإصابة والتشريد والمعاناة التي كان بالإمكان تجنبها. وينعكس هذا الفشل أيضا في استطلاعات الرأي، وأوضحت مؤسسة «غالوب»، أن 84% من الفلسطينيين كان لديهم شيء ضئيل من الثقة في «بايدن» قبل أكتوبر، لكن الآن ليس لدى 70% منهم «أدنى ثقة على الإطلاق»، خاصة مع إشارة المؤسسة ذاتها إلى «عدم الثقة التاريخية في قدرة واشنطن على أن تكون حكمًا عادلاً».
ومع استمرار العدوان، خلص «سكازييري» أيضا إلى أن «الثقة» المطلوبة لتشكيل دولة واحدة للإسرائيليين والفلسطينيين أصبحت الآن «أبعد من أي وقت مضى عن الحقيقة والتطبيق»، ونتيجة لهذا فإن تعهد «بايدن»، المعلن بأنه «سوف يضاعف الجهود لإقامة شرق أوسط أكثر سلماً وتكاملاً وازدهاراً»، أصبح الآن تعهدًا «بعيد المنال».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك