الجميع يتذكر ما فعله بنا الفيروس المسبب لمرض كورونا الذي لم يدع أي إنسان في أي شبر من الأرض بعيدا كان أم قريبا إلا وقد نزل عليه شر هذا الوباء العصيب.
ولن ينسى أي إنسان يعيش على سطح الأرض الأعداد العظيمة من البشر الذين سقطوا فريسة لهذا الفيروس، حتى بلغ عدد المصابين مئات الملايين من الفقراء والأغنياء في كل مدن ودول العالم، فمنهم من قضى نحبه فنُقل إلى مثواه الأخير، ومنهم من أُدخل المستشفى وهو يعاني من أعراض مزمنة فسيولوجية ونفسية وعقلية لا يستطيع التخلص منها، فينتظر الأجل المرتقب من هذا المرض الغريب.
ولن تغيب عن مخيلة ونفوس أي إنسان تلك الأيام الصعبة التي عانى منها الجميع، من الشعور بالوحدة والعزلة الطوعية، والابتعاد عن الأهل والأقارب والأحبة، وعدم القدرة على الخروج من المنزل أو الشقة، والبقاء حبيسا فيه أياما وأسابيع طويلة جداً لا تكاد تنقضي، وكأنه في سجنٍ انفرادي، أو جماعي مسلوب الحرية والتحرك.
ولن تنسى دول العالم أجمع الأوضاع الاقتصادية التي خنقت ميزانية الدول، فوجهتها كلها نحو الإجراءات الخاصة بإدارة مرض كورونا، سواء من ناحية إعادة تأهيل وتوسعة المستشفيات، أو من ناحية شراء الأدوية واللقاحات والأجهزة اللازمة لهذا النوع من المرض التنفسي الحاد، أو من ناحية شراء الكمامات والمعقمات وغيرهما من احتياجات الوقاية ومنع الإصابة بالمرض.
واليوم، وبالتحديد في شهر ديسمبر، نحن أمام مشاهد مماثلة تحدث بين الحين والآخر، وفي بعض المواسم في كثير من مدن العالم الحضرية المكتظة بالسيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء. فهذه الأيام ضربت قنبلة التلوث الكثير من المدن في قارة آسيا، وبالتحديد في الهند وباكستان وبنجلادش، كمدينة نيودلهي، وهاريانا، وبنجاب، ومومباي في الهند، ولاهور في باكستان، والعاصمة دكا في بنجلادش، على سبيل المثال لا الحصر. ففي معظم هذه المدن توقفت الحياة إلى درجة كبيرة، بحيث إن المدارس أغلقت أبوابها، وتم تقنين الحركة المرورية في الشوارع الرئيسة والمزدحمة في المدن، وتم تحذير الناس من الخروج من المنازل وتجنب الذهاب إلى الحدائق والمتنزهات والمجمعات التجارية، كما أُعلنت حالة الطوارئ البيئية الصحية في بعض الأيام الشديدة التلوث في بعض المدن.
كذلك فإن أعداد المصابين بأعراض أمراض الجهاز التنفسي والقلب ارتفعت بدرجة كبيرة، فزادت أعداد المرضى الذين دخلوا المستشفيات في أقسام الطوارئ، والملايين منهم انكشفت عليهم بشدة أعراض الكحة الحادة، والسعال، وضيق التنفس، وحرقة في العينين والجلد، والتهابات في الحنجرة والجيوب الأنفية والرئتين.
فما فعله كورونا بالناس، يفعله الآن تلوث الهواء أيضاً، ولكن دون أن يحظى بالتغطية الإعلامية اليومية التي حظي بها كورونا، ودون أن يتمتع بالأولوية في الاهتمام والرعاية والإنفاق من الدول المتضررة، كما حدث في وباء كورونا.
فالهواء الجوي في هذه المدن المنكوبة بيئيا تحول إلى اللون الرصاصي في بعض الأحيان، أو الأصفر والبني في أحيان أخرى، وبدلاً من أن يكون هذا الهواء الذي يستنشقه الإنسان صحياً ومُعيناً على الحياة، وداعماً للصحة والعافية وسلامة الإنسان، ومفيداً للجسم والنفس والعقل، تحول إلى وباء مزمن يفسد الحياة، ويسبب للناس شتى أنواع الأسقام والعلل، منها الأمراض المستعصية كالسرطان، وبالتحديد سرطان الرئة، ومنها أمراض الجهاز التنفسي، ومنها أمراض القلب، والسكري من النوع الثاني، وأمراض الجيوب الأنفية (الدراسة المنشورة في 13 أكتوبر 2023 في مجلة «علوم وتقنية البيئة» تحت عنوان: «تلوث الهواء وحساسية التهاب الأنف» (rhinitis) تؤكد علاقة تلوث الهواء بهذا المرض).
فهذه القنبلة تنزل من مصادر كثيرة منها في خارج المنزل وسائل المواصلات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء، ومنها ما هو موجود في داخل المنزل كالفرن المنزلي وبخاصة الذي يعمل على الأخشاب والفحم للتدفئة والطبخ. وهذه القنبلة تحتوي على ملوثات سامة ومسرطنة، منها الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي تحمل في بطنها ملوثات خطرة أخرى كالكربون الأسود، والكبريتات، ومركبات عطرية كثيرة، إضافة إلى أكاسيد النيتروجين، وأول أكسيد الكربون، والمركبات العضوية المتطايرة. وهذه الملوثات مع بزوغ الشمس تتحول إلى مركبات مؤكسدة خطرة جداً كغاز الأوزون، وتُكون في الأفق سحباً كثيفة كئيبة تنزل على رؤوس الناس، وبخاصة أثناء حدوث الانقلاب الحراري وعندما تكون الرياح هادئة وساكنة لا تتحرك فتؤدي إلى تراكم وتجمع الملوثات وتمنع انتشارها وتخفيفها في الهواء الجوي، ما يعني ارتفاع تركيزها مع الوقت إلى أن يبلغ المستوى الحرج الذي يؤذي صحة الناس ويسبب لهم الأمراض الحادة والمزمنة، والموت في بعض الحالات الحادة. وفي بعض الأيام كان سمك وكثافة هذا التلوث والضباب الذي غطى هذه المدن واضحاً إلى درجة مشهودة بحيث إنه كان مكشوفا من الفضاء العليا من الأقمار الصناعية التابعة لناسا، حسب المقال المنشور في صحيفة الواشنطن بوست في 10 نوفمبر 2023، «الضباب الذي يخنق هذه المدينة يمكن رؤيته من الفضاء».
وجدير بالذكر فإن مثل هذه الحالات عندما تقع وتستمر ويتكرر حدوثها طوال العام، فإن لها علاوة على المردودات البيئية والصحية والاجتماعية، فلها في الوقت نفسه انعكاسات اقتصادية سلبية كبيرة، إضافة إلى التداعيات السياحية والاستثمارية، حيث أثبتت التقارير والخبرات السابقة في الصين، وتايلاند، ودول أخرى أن حالات التلوث الشديدة في الهواء الجوي، أو تدهور مياه الشرب المزمنة، تُنفِّر السياح وتجعلهم يتجنبون زيارة المدن الملوثة وعدم الذهاب إليها، وفي الوقت نفسه تجعل رؤوس الأموال والاستثمارات تهرب منها إلى دول تتمتع بالهواء النظيف النقي والصحي ومياه الشرب العليلة والسليمة. وعلاوة على ذلك فإن الرؤساء التنفيذيين للشركات الكبرى متعددة الجنسيات ينتقلون ويتحولون من أجل صحتهم وصحة أبنائهم من المدن الملوثة إلى المدن الأقل تلويثاً للبيئة.
فهذا غيض من فيض مما يستطيع تلوث الهواء إذا أُطلق سراحه دون قيود أن يفعل بنا وبمجتمعاتنا، والتاريخ منذ أكثر من قرن يؤكد لنا صحة هذه الوقائع والتداعيات التي تنجم عن تلوث الهواء الجوي.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك