منذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة، يسعى الوسطاء الإقليميون والدوليون لتسهيل اتفاق هدنة يسمح بتقديم المساعدات الإنسانية الضرورية إلى القطاع بعد ما تعرض له من قصف جوي عنيف، واجتياحه بريا من قبل قوات الاحتلال، فضلا عن محاولة إطلاق سراح الرهائن الذين أسرتهم حماس. وفي 22 نوفمبر نجحت «مصر»، و«قطر»، برعاية أمريكية في التوصل إلى اتفاق تم بموجبه وقف لإطلاق النار، وتبادل عدد من المحتجزين والأسرى بين الطرفين، والتي تعد أول انفراجة حقيقية في الحرب الدائرة في غزة.
ووفقا للعديد من المحللين، فإن موافقة إسرائيل على الهدنة وتبادل الأسرى، رغم اشتراطاتها منذ بداية العدوان أنه «لا هدنة أو مساعدات، إلا بالإفراج عن الرهائن»، يدل على فشل لعبة الاشتراطات الإسرائيلية، بل وفشل خطط حكومة نتنياهو بالقضاء على حماس إلى الأبد وجميع الفصائل المسلحة وتحرير الرهائن، كما كانت تدعي، علاوة على أن بنودها التي صيغت وفق رؤية المقاومة ومحدداتها، وعلى رأسها حركة حماس، التي أملت شروطها، وأدارت المفاوضات من موقع الثبات والقوة في الميدان؛ يعيد إثبات أن الحركة «رقم صعب لا يمكن تجاوزه»، عند الحديث عن القضية الفلسطينية، ويؤكد قدرتها على الصمود والمقاومة».
من جانبها، رأت «أنشال فوهرا»، في مجلة «فورين بوليسي»، أن «صفقة الرهائن»، لا تعني سوى «هدنة»، ولا ينبغي اعتبارها وقفاً لإطلاق النار». وذكر «جوليان بارنز ديسي»، و«هيو لوفات»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»، أن وقف القتال «بدون مسار سياسي أعم»، لم يوفر سوى فترة راحة قصيرة لمعاناة المدنيين». ورأى «أليستر بونكال»، من شبكة «سكاي نيوز»، أنها كانت «هشة للغاية»، وأن فرص انتهاكها كانت «عالية». وتساءلت صحيفة «نيويورك تايمز»، أنه «حتى مع التوصل إليها.. فإن إسرائيل حاولت الالتفاف عليها بغية تأمين إطلاق سراح المزيد من مواطنيها من قبضة حماس».
ووفقاً لـ«جيسون بيرك»، في صحيفة «الجارديان»، فإن الهدنة «سهلت الإفراج عن عشرات الرهائن، الذين تحتجزهم حماس في غزة، فضلاً عن الفلسطينيين المعتقلين لدى إسرائيل». وقد تحقق ذلك من خلال ما وصفه بيرك بـ«الدبلوماسية المحمومة»، حيث أوضح كيف كان على الاتصالات «المرور من المسؤولين الإسرائيليين إلى قطر، ثم إلى قادة حماس خارج غزة»، وأخيرا إلى قادة الحركة «داخل القطاع». وأشارت «فوهرا»، إلى أن أحد آثارها هو «زيادة الضغط الداخلي على الحكومة الإسرائيلية لتأمين إطلاق سراح الرهائن المتبقين»، سواء عبر السبل الدبلوماسية أو عن طريق القوة.
وبالنسبة للفلسطينيين في غزة، أعربت «وكالات الإغاثة الدولية»، أن مدة الاتفاق كانت «غير كافية»، لمعالجة معاناة المدنيين من عدم توافر احتياجاتهم الإنسانية الأساسية لما يقرب من شهرين، ناهيك عن تبعات سنوات الحصار التي فرضتها إسرائيل عليهم سابقًا. وعليه، طالب الخبراء والمراقبون الغربيون بضرورة الدفع نحو اتفاق سلام أكثر موضوعية؛ للحيلولة دون المزيد من العنف، وأنه حال عدم التوصل إلى ذلك؛ فإن الهجمات الإسرائيلية سوف تستمر، وسيتضاعف عدد الشهداء بلا شك.
وعلى الأرض في غزة، استشهد ما لا يقل عن 15.000 شخص حتى الآن داخل القطاع، (بينهم ما يزيد على 6 آلاف طفل، و4 آلاف امرأة)، بينما تجاوز عدد المصابين 36 ألفا (بينهم أكثر من 75% أطفال ونساء)، وتدهور الوضع الإنساني، إلى درجة أن «ينس ليركه»، المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، شبّه شمال قطاع غزة بـ«الجحيم على الأرض».
وعلى الرغم من أن «بيرك»، ذكر أن «الاتفاق سمح بوصول المساعدات الإنسانية إلى غزة»، فإن وكالة «رويترز»، أشارت إلى تهجير 1.7 مليون شخص داخل القطاع، وأن هناك نقصًا حادًا في الوقود، والغذاء، ومياه الشرب، وتوقف المستشفيات عن العمل؛ بسبب الهجمات الإسرائيلية المستمرة. وحذرت «وكالات المعونة والمنظمات الإنسانية»، من أن وقف أعمال العنف فترات قصيرة ليس كافيا لتخفيف المعاناة عن المدنيين الفلسطينيين.
علاوة على ذلك، أبلغت «كاثرين راسل»، المديرة التنفيذية لمنظمة اليونيسيف، «مجلس الأمن»، التابع للأمم المتحدة، أنه على الرغم من أن منظمتها «كانت في وضع سمح لها بتوسيع نطاق تسليم المساعدات الإنسانية التي تشتد الحاجة إليها في غزة أثناء الهدنة؛ فإن هذا «غير كافٍ». وحذر «فيليب لازاريني»، المدير العام لـ«وكالة غوث وتشغيل اللاجئين»، «الأونروا»، من أنه بعد أن هاجمت إسرائيل 69 من ملاجئ الوكالة في «تجاهل صارخ لقواعد الحرب، بما في ذلك القانون الإنساني الدولي»؛ فإن «علم الأمم المتحدة لم يعد بمقدوره توفير الحماية لشعب غزة». وعليه، أصر «جان إيجلاند»، الأمين العام للمجلس النرويجي للاجئين، على أن هذه الهدنة يجب أن «تمهد الطريق لوقف دائم لإطلاق النار»؛ لمنع المزيد من الوفيات بين المدنيين، وتوفير السلامة للذين يحتاجون إلى المساعدة الإنسانية الحيوية».
ووفقا للعديد من المحللين الغربيين، فإن «الديناميكية المتمثلة في ضرورة تخفيف معاناة السجناء والمعتقلين والرهائن، وتوفير المساعدات الإنسانية للمدنيين هي ما أدت إلى توقف مؤقت للأعمال العدائية بين الجانبين». ولهذا السبب، أدان «إيجلاند»، الكيفية التي أصبح فيها الرهائن أو الوصول إلى الإغاثة الإنسانية بمثابة «ورقة مساومة» في المفاوضات السياسية أو العسكرية»، وخاصة أن هذا الأمر يشكل «سابقة خطيرة» لم تشهدها أي من الصراعات الأخرى.
ومن وجهة نظر المراقبين، يظل الطريق نحو اتفاق سلام أكثر استدامة «غير واضح»، حاليا، وخاصة أن إسرائيل تبنت خطابًا مفاده أن الهدنة مجرد توقف مؤقت للحرب. وأشارت «فرانس24»، إلى أن هذه الصفقة «لا تمثل سوى استراحة مؤقتة للهجمات الإسرائيلية». وأوضحت «فوهرا»، أن الحكومة والجيش الإسرائيليين، ليس لديهما أي خيار سوى استمرار الحرب، وذلك بغض النظر عن الخسائر البشرية والمعاناة التي ستسببها، وهو الأمر الذي أكدته الطريقة التي أسقطت بها قوات الاحتلال منشورات على قطاع غزة تؤكد للمدنيين الفلسطينيين الراغبين في العودة إلى ديارهم، أن «الحرب لم تنته بعد».
وبالإضافة إلى المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون، فإن التزام إسرائيل بمواصلة حربها في غزة من شأنه أن يجعلها تعاني جراء مزيد من انعدام الأمن، والأضرار الفادحة. وكتب «بارنز ديسي»، و«لوفات»، أن حكومة نتنياهو ليس لديها قبول بأن حربها في غزة «ستكبدها الكثير من الخسائر بلا جدوى في المقابل»، وهو ما أشار إليه «أندرو باسيفيتش»، من «معهد كوينسي لفن الحكم المسؤول»، بأن الحرب «أصبح محكوما عليها أن تنتهي بالفشل لكلا الجانبين».
وفي تقييمه للعواقب طويلة المدى، أشار إلى أن الفشل في بناء اتفاق سلام أقوى على خلفية الهدنة المؤقتة، سيعني أن الآفاق الضئيلة للتوصل إلى حل الدولتين، سوف «تتلاشى»، وهو ما يجعل احتمالات تحقيق إسرائيل هدفها المتمثل في القضاء على حماس أيضا «ضئيلة»، وخاصة مع اشتداد المقاومة ضدها في فلسطين والمنطقة ككل.
وعلى الرغم من أن «بول نوكي»، في صحيفة «دايلي تليجراف»، أشار إلى أنه «ظاهريًا لا يوجد سبب يُذكر للتفاؤل»، فقد رأى أن «السياسة الواقعية للحرب في غزة»، يمكن أن «تزود الدبلوماسيين في كلا الجانبين بثغرة قد يتمكنون من خلالها من صياغة اتفاق سلام أكثر معنى».
ومع عدم اقتناعه بهذا الأمر، أشار «بول روجرز»، من جامعة «برادفورد»، إلى أنه «بدون انهيار حماس، أو التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار؛ فإن «الحرب سوف تستمر في العام الجديد وما بعده، بلا نهاية لها في الأفق»، لاسيما مع توقع أن الهجوم العسكري الإسرائيلي سوف يتصاعد على غرار النمط الحالي من الهجمات الجوية والمدفعية، إلى جانب استخدام القوات الخاصة، وقوات النخبة في الهجمات الفردية». وعلى الرغم من أنه رأى أن الضغوط الدولية عليها لقبول اتفاق وقف إطلاق النار سوف تتزايد، إلا أنه أوضح أن ذلك «قد يستغرق عدة أشهر».
وتكمن الأزمة الحقيقية في الحرب الحالية في افتقار القوى الغربية إلى الزعامة الأخلاقية والسياسية اللازمة للتوصل إلى عملية سلام «أطول أمدًا». وانتقد «روجرز»، كيف أن الرئيس الأمريكي «جو بايدن»، «لا يزال ملتزما بتجنب وقف إطلاق النار». ومع عدم وجود دعم واضح وقوي من «واشنطن»، لاتفاق سلام، فإن آفاقه تظل «بعيدة المنال» في الوقت الراهن. كما رفضت حكومة «ريشي سوناك»، فكرة السلام الدائم، وفي منتصف نوفمبر، رفض البرلمان البريطاني مشروع قانون يدعم وقف إطلاق النار في غزة بأغلبية 168 عضوًا.
وعليه، فإنه على الرغم من التوصل إلى اتفاق الهدنة، فإن المراقبين الغربيين مازالوا «متشائمين» بشأن وقف إطلاق نار «أكثر موضوعية»، أو «اتفاق سلام حقيقي». وفي حين خلص «باسيفيتش»، إلى أن طول أمد المسار المدمر للحرب الحالية في غزة -بلا أدنى فاعلية- «يُظهر بشكل قاطع أنه لا يوجد حل عسكري حاسم للمعضلة التاريخية الناجمة عن إنشاء تلك الدولة اليهودية في عام 1948»، وأن «التعايش المتبادل يظل الطريق الوحيد للسلام في المنطقة رغم كونه بعيد المنال في الوقت الراهن».
ومن وجهة نظر «بارنز ديسي»، و«لوفات»، فإنه على الرغم من القصف الإسرائيلي المتصاعد والغزو البري، فإن «حماس سوف تنجو بشكل شبه مؤكد من الصراع بشكل ما، وستظل جزءًا من المشهد الفلسطيني»، وإن موقفها من المرجح أن يتعزز بشكل قوي لسنوات قادمة». ومن هذا المنطلق، أصر الباحثان على أن «التركيز الدولي»، يجب أن يتجه نحو تلبية «الاحتياجات الإنسانية المتزايدة لسكان غزة، بدلا من تصور بناء نظام سياسي جديد على رأس الأنقاض».
على العموم، فإنه على الرغم من الحاجة الملحة إلى تقديم المساعدة للمدنيين العزل المحاصرين داخل منطقة الحرب الراهنة، فقد أشار «تشارلز دبليو دن»، من «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات»، إلى أن هناك رغبة ضعيفة لدى «واشنطن»، لمساعدة هؤلاء المدنيين، سواء عبر الدعوة إلى وقف إطلاق النار، أو عملية السلام، أو حتى عدم تحمل العبء السياسي المطلوب لتحقيق أي منهما. وهي الرغبة أيضًا التي أعربت عنها الحكومات الغربية، وكانت النتيجة عدم وجود ضغط يُذكر على إسرائيل لإنهاء هجماتها العسكرية على غزة بشكل دائم حتى مع توقيع الهدنة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك