من البنود العالقة منذ أكثر من 30 عاماً، وتُعتبر في تقديري الأكثر تعقيداً وسخونة والتي سيتعرض لها المفاوضون في اجتماع التغير المناخي، أو كوب 28، في دبي، هو البند المتعلق بالجانب المالي وبالتحديد صندوق المناخ، أو ما أُطلق عليه رسمياً في اجتماع شرم الشيخ في نوفمبر 2022(كوب 27) بصندوق الخسائر والأضرار(loss and damage).
فالصراع محتدم منذ أكثر ثلاثة عقود، والمعارك تتجدد في كل اجتماع للدول الأطراف في الاتفاقية الاطارية حول التغير المناخي التي وقع عليها معظم دول العالم في قمة الأرض في ريو دي جانيرو في عام 1992. وهذه المعارك غير المتكافئة يشترك فيها قطبان كبيران على المستوى الدولي، وهما: القطب الغني والثري الذي يتمتع بالنفوذ والقوة والمتمثل في الدول الصناعية المتقدمة التي بدأت أنشطتها التنموية منذ قرابة 200 عام فلوثت البيئة برمتها وتسببت في وقوع ظاهرة التغير المناخي، والقطب الثاني وهو القطب الفقير والمستضعف الذي لم ير نور التنمية إلا منذ قرابة 50 عاماً، وليس له ناقة ولا جمل في وقوع التغيرات المناخية وتداعياتها الكارثية العظيمة على الكرة الأرضية، والتي تتضرر منها بشكل رئيسي هذه الدول الفقيرة، وخاصة الدول الجزرية الصغيرة التي تضررت كثيراً من تداعيات التغير المناخي وسخونة الأرض، وبالتحديد من جانب ارتفاع مستوى سطح البحر.
ولذلك فإن الدول التي عانت منذ قرون من المردودات الكارثية للتغير المناخي تحث الدول الصناعية المتقدمة التي تسببت في وقوع هذه الكوارث المناخية على تحمل مسؤوليتها التاريخية والأخلاقية تجاه الدول الفقيرة النامية المتضررة، وتعمل على تخصيص مبالغ مالية لتعويضها عن هذه الخسائر المادية والبشرية، ومساعدتها في دفع فواتير تدمير البنية التحتية الساحلية، والممتلكات والمرافق العامة، إضافة إلى دعمها للتكيف مع هذه الظروف المناخية الجديدة والتصدي لها والتخفيف من حدة وشدة تأثيراتها على البشر والحجر والشجر.
وقد عَقدتْ الدول الجزرية في المحيطين الهندي والهادئ العديد من الاجتماعات في مطلع التسعينيات من القرن المنصرم لمناقشة دعم الدول الغنية لها لمواجهة ما ارتكبتها أيديها الآثمة من فساد عام في بيئة الكرة الأرضية برمتها. وقد جاءت الإشارة الرسمية الأولى لنوعية هذا الدعم من خلال تبني مصطلح هو «الخسائر والأضرار» في الاجتماع الذي عُقد عام 1991، أي قبل 32 عاماً، حيث دَعتْ الدول الجزرية الصغيرة الدول الصناعية الغنية إلى الدفع والمساهمة للخسائر والأضرار التي لحقت بها بسبب ارتفاع مستوى سطح البحر، إضافة إلى حاجتها الملحة الى التكيف مع هذه التداعيات والاستعداد لها للتخفيف من آثارها المدمرة، من فيضانات، وأعاصير، وتسونامي، وحرائق الغابات، والموجات الحارة.
فهذا المصطلح (الخسائر والأضرار) اختفى بعد ذلك في وثائق وأدبيات الأمم المتحدة الخاصة بالتغير المناخي، بدءاً بقمة الأرض في عام 1992 التي دعت إلى مساعدة الدول النامية لتجاوز الكوارث المناخية الناجمة عن تداعيات التغير المناخي، ولكن دون الإشارة إلى آلية محددة، وأداة واضحة لتحقيق هذه المساعدة.
واستمرت الدول النامية الفقيرة في الضغط على الدول الصناعية للقيام بواجبها وتحمل مسؤولياتها لدعمها في مشكلة لا دور لها في تكوينها ووقوعها، لكنها هي أكثر وأشد المتضررين منها. وقد بدأت هذه الجهود الماراثونية المتواصلة لعدة عقود تؤتي أكلها، ولكن ليس بشكلٍ دائم، حيث وافقت الدول الصناعية في مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية في اجتماع كوبنهاجن (كوب 15) في نوفمبر 2009 على دفع 100 مليار دولار أمريكي سنوياً بدءا بعام 2020، بحيث يغطي تكاليف خفض انبعاث الملوثات المناخية(mitigation)، وتكاليف التكيف مع الظروف الجديدة ((adaptation من خلال بناء بنية تحتية قوية قادرة على تحمل التأثيرات الناجمة عن التغير المناخي، ولكن في الوقت نفسه لم تكن هناك أي إشارة إلى مصطلح «الخسائر والأضرار»، أي التعويض عن الأضرار التي تلحق بالبنية التحتية، والخسائر الناجمة عنها.
وكالعادة، فإن الدول النامية المتضررة لم تحصل من هذا الدعم الموعود الذي تعهدت به الدول المتقدمة إلا الفتات القليل الذي لا يحقق هدف الحماية من الكوارث المناخية، فهي في نهاية المطاف مساعدة «طوعية» غير ملزمة لأي دولة، فيتفضل بها الدول الغنية على الفقراء، ولا يمكن لأحد إجبارها على المساهمة في هذا الدعم، ولذلك كان لا بد بشكلٍ مستمر من التذكير، وإحياء هذا الدعم في كل مناسبة وكل اجتماع حول التغير المناخي. ففي اجتماع باريس للتغير المناخي عام 2015 جاءت الإشارة إلى الدعم في البند رقم (8)، حيث ورد فيه أن الدول الأطراف في تفاهمات باريس: «تَعْترف بأهمية تجنب وخفض والتصدي للخسائر والأضرار الناجمة عن تداعيات التغير المناخي»، ولكن لم يدخل البند في أي تفاصيل دقيقة حول آلية الدعم.
ولذلك كان على الدول النامية الفقيرة مواصلة جهودها لنيل حقوقها من الدول المتطورة الغنية، حيث خطا موضوع الدعم المالي خطوة جادة إلى الأمام في الاجتماع الذي عقد في مدينة شرم الشيخ (كوب 27) في عام 2022، وتمكن من كسر الجليد الجاثم فوق هذه الجهود عندما وافق المجتمعون على فكرة تأسيس صندوق مناخي تحت مسمى «الخسائر والأضرار»، أي تم تحقيق هذا الصندوق الداعم للدول الفقيرة بعد عمل دؤوب لم ينقطع، وبعد خوض معارك محتدمة شديدة استمرت أكثر من 30 عاماً. وفي تقديري، فإن هذا البريق من النور الذي سطع في شرم الشيخ مازال في بداية الطريق، وستكون هناك عوائق عصيبة تقف حجر عثرة أمام رؤيتها على أرض الواقع، ثم ستكون هناك صعوبات أخرى أمام تفعيلها وأخيراً وصول أموال الدعم إلى مستحقيها من الدول الفقيرة المتضررة.
فاجتماع شرم الشيخ الذي أقر فكرة الصندوق، شكَّل في الوقت نفسه لجنة انتقالية حول تشغيل الصندوق الجديد والترتيبات للأضرار والخسائر من أجل رفع التصورات التفصيلية حول هذا الصندوق إلى اجتماع كوب 28 في دبي. وهذه اللجنة التي تم تشكيلها اجتمعت خمس مرات، كان آخرها الاجتماع الطارئ الذي عقد في أبوظبي يومي 3 و4 نوفمبر 2023، حيث اتخذت عدة توصيات منها أن يكون مقر الصندوق في البنك الدولي بصفة مؤقتة ولمدة أربع سنوات، وتكون المساهمة في الصندوق اختيارية وطوعية.
والآن أم المعارك حول هذا الصندوق ستكون في اجتماع دبي، وستتمحور حول الأسئلة التالية: من سيدفع للصندوق، هل الدول المتقدمة فقط، أم بعض الدول النامية الغنية كدول الخليج والصين؟ وكم المبلغ؟ ومن الجهات المستحقة للدعم، وما معايير الاستحقاق؟ وما مجالات الدعم؟ وهل الدعم المالي سيكون منحة أم قرضا؟ وهل المساهمة إلزامية على الدول المتقدمة الثرية، أم طوعية واختيارية لمن يرغب؟
فالاتفاق حول هذه التفاصيل المتعلقة بالصندوق هي مَرْبَط الفرس، وهي العقدة الشائكة التي يصعب حلها، وهي التي بيدها النجاح في تحويل فكرة الصندوق إلى واقع مشهود تستفيد منه الدول النامية الفقيرة والمتضررة التي ثابرت وصبرت أكثر من 30 عاماً، ثم بعد كل ذلك هل ستقوم الدول التي تعهدت بالدفع أثناء الاجتماع فعلياً بالتطوع في المساهمة السنوية لصندوق المتضررين من التغيرات المناخية؟
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك