في 17 نوفمبر أعلنت «المحكمة الجنائية الدولية»، بلاهاي، أنها تلقت طلبات من خمس دول، للتحقيق في جرائم حرب ترتكبها إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال في قطاع غزة والضفة الغربية. وقال المدعي العام للمحكمة «كريم خان»، إنه تلقى طلبًا من «جنوب إفريقيا، وبنجلادش، وبوليفيا، وجزر القمر، وجيبوتي»، للتحقيق في الأوضاع في الأراضي الفلسطينية، فيما تجري المحكمة بالفعل تحقيقًا مستمرًا حول ما يتعلق بجرائم حرب ترتكبها إسرائيل في فلسطين منذ يونيو 2014.
وكان رئيس جنوب إفريقيا «سيريل رامافوزا»، قد أعلن أن بلاده قد قدمت طلبًا للمحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في جرائم حرب ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة، وأن بلاده تعتقد أنها ترتكب جرائم «إبادة جماعية»، حيث استشهد آلاف الفلسطينيين، ودمرت المستشفيات، ومرافق البنية التحتية.
ومن المعلوم، أن إسرائيل تنتهك قواعد الصراع المسلح المتفق عليها دوليًا، بمقتضى اتفاقيات جنيف لعام 1949، التي صادقت عليها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتم استكمالها بأحكام أصدرتها محاكم دولية معنية بجرائم الحرب، كما اخترقت القانون الدولي الإنساني. ووفقًا لـمنظمة «هيومان رايتس ووتش»، شملت الأفعال التي تستوجب المحاكمة والإدانة، العملية العسكرية التي قامت بها مؤخرا في غزة، والتي تعد أقوى عمليات قصف منذ 75 عاما، والتي أدت إلى استشهاد نحو 15 ألفا (بينهم ما يربو على 6 آلاف طفل، و4 آلاف امرأة)، بينما تجاوز عدد المصابين 36 ألفا (بينهم أكثر من 75% أطفال ونساء)، وإعلان الأمم المتحدة عن كارثة إنسانية، فيما قامت قوات الاحتلال بتدمير البنى التحتية، وخاصة محطات الكهرباء، والمستشفيات، والمدارس، ودُور العبادة، ووضع القطاع الذي يضم 2.3 مليون نسمة تحت الحصار، ومنعت دخول الغذاء، والدواء، والماء، والوقود، وغيرها من الاحتياجات الضرورية. بينما الهدف العام لاتفاقيات «جنيف» -ومن ثم القانون الإنساني الدولي- هو حماية المدنيين والحد من معاناتهم أثناء الحرب، وتجريم الحصار حال استهدف مدنيين، كما أن استهداف الممتلكات المدنية مباشرة محظور تمامًا، وأكدت «المنظمة»، أن الرد العسكري الإسرائيلي ليس متناسبًا مع ما قامت به حماس.
ويتيح نظام «روما الأساسي»، للمحكمة الجنائية الدولية، سلطة قانونية للتحقيق في الجرائم المزعوم ارتكابها على أراضي الدول الأعضاء، أو التي يرتكبها مواطنو هذه الدول. فيما تأسست هذه المحكمة في 2002، وتشمل ولايتها القضائية جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية في الدول الأعضاء فيها وعددهم 123 دولة، أو التي يرتكبها مواطنو هذه الدول، وفي حين تعترف بفلسطين كعضو، وترفض إسرائيل الولاية القضائية لها، ولا تتعامل معها رسميًا؛ فإنها تعكف على التحقيق في اتهامات بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية منذ عام 2021، ولم يخلص هذا التحقيق إلى صدور أي أوامر توقيف أو اعتقال حتى الآن.
ولم يقتصر تقديم طلب المحاكمة عن جرائم الحرب الإسرائيلية على هذه الدول الخمس فقط، فقد تقدمت في 28 أكتوبر، «منظمات حقوقية مغربية»، (الائتلاف المغربي لهيئات حقوق الإنسان)، و«منظمات حقوقية فلسطينية»، (مؤسسة الحق ومركز الميزان والمركز الفلسطيني لحقوق الإنسان) في 8 نوفمبر، وتجمع ضخم من المحامين في أوروبا على رأسهم المحامي الفرنسي الشهير «جيل نوفير» في 9 نوفمبر، مطالبين المحكمة بإصدار مذكرات توقيف بحق المسؤولين عن تلك الجرائم، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، ورئيس الدولة «إسحاق هيرتزوج».
وبينت الرسالة في الوقائع التي عرضتها هذه المنظمات، نية الإبادة الجماعية والتحريض عليها، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل، وشملت إجبار الفلسطينيين على النزوح وتجويعهم عمدًا، وأن عملياتها العسكرية كانت مدمرة وقاتلة للمدنيين الفلسطينيين في غزة. وسرد البيان استخدامها لأسلحة غير مشروعة، وتدمير الكثير من المنازل والمباني المدنية من مستشفيات، ومدارس، فضلا عن البنى التحتية.
وإضافة إلى هذه المنظمات والتحركات الشعبية كانت الحكومة الفلسطينية، قد طلبت من «المحكمة الجنائية الدولية»، تحمل مسؤوليتها في التحقيق في جرائم الحرب، التي يمارسها جيش الاحتلال في قطاع غزة. وقال رئيس الوزراء الفلسطيني «محمد أشتيه»، ندعو المحكمة إلى إصدار أمر اعتقال بحق المجرمين المسؤولين عن الجرائم التي تستهدف غزة، وذكر أن «نتنياهو»، يبرر القتل والإبادة الجماعية في القطاع مستشهدًا بنصوص من التوراة.
وبينما لم تسمح إسرائيل للمدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية «كريم خان»، بالدخول إلى قطاع غزة للاطلاع على الأوضاع هناك؛ فقد أكد عند معبر رفح الحدودي، ضرورة ضمان «تمتع الأشخاص الذين يعيشون في خوف ورعب بالحقوق المتساوية، لجهة الحصول على الحماية بموجب القانون الدولي»، وأكد أن مكتبه عازم على التأكد من الدفاع عن هذه الحقوق، حينما كان ذلك ممكنًا، وحينما كانت لديه ولاية قضائية». وفي مارس 2021، أعلن مكتب المدعي العام للمحكمة أنه سيبدأ مباشرة تحقيقا بخصوص الوضع في فلسطين بمقتضى الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، بعد قرار الدائرة الأولى فيها بالأغلبية، أن عليها ممارسة اختصاصها الجنائي في هذه الحالة، وأن النطاق الإقليمي لذلك الاختصاص يمتد ليشمل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية.
وفي 21 نوفمبر، ذهبت «منظمة العفو الدولية»، إلى أن هناك أدلة على ارتكاب إسرائيل جرائم حرب في غزة، وشددت على ضرورة التحقيق فيها، وقالت إن ضرباتها المميتة وغير القانونية هي جزء من نمط موثق من الاستهتار بحياة المدنيين الفلسطينيين، وتُظهر التأثير المدمر للهجوم العسكري غير المسبوق، الذي لم يترك أي مكان آمن في غزة، وحثت المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية على اتخاذ إجراءات ملموسة وفورية لتسريع التحقيق في جرائم الحرب وغيرها من الجرائم بموجب القانون الدولي. وقالت إن تاريخ إسرائيل في الحروب يشهد أنها لم تحترم أبدًا قواعد الاشتباك، أو القواعد المنصوص عليها في القانون الدولي من احترام أماكن العبادة، والمدارس، والمستشفيات، أو الأماكن التي يلجأ إليها المدنيون للحفاظ على حياتهم.
وفيما كانت فترة أسبوعين كافية للمحكمة الجنائية الدولية؛ لإصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس الروسي «فلاديمير بوتين»، بشأن الحرب الأوكرانية؛ فإن شروعها بالتحقيق في التهم الموجهة إلى إسرائيل وقادتها السياسيين والعسكريين لم يُفتح بشكل رسمي إلا عام 2021؛ أي إنها استغرقت 6 سنوات في جمع المعلومات وتحليلها قبل فتح التحقيق، وأهم ما يعرقل فتح التحقيق في الجرائم الإسرائيلية، هو عدم انضمامها إلى نظام المحكمة، وعدم اعترافها بها أو بولايتها، وعدم اعترافها بفلسطين، ورفضها التعاون مع محققيها الجنائيين أو منحهم تأشيرات دخول، أو إتاحة تنقلهم بحرية والوصول إلى الأماكن المزمع ارتكاب جرائم فيها، والحديث مع الضحايا والشهود.
يُذكر أن «إسرائيل»، و«الولايات المتحدة»، كانتا قد صوتتا في «الجمعية العامة»، للأمم المتحدة ضد تأسيس المحكمة الجنائية الدولية عام 1998. ورغم توقيعهما على قانون المحكمة دون المصادقة عليه، فقد سحبتا هذا الاعتراف في 2002، وقامت إسرائيل بشهر سلاح «معاداة السامية» في التعامل مع المحكمة، أو انتقادها لممارساتها، كما حرضت عدة دول أعضاء على وقف تمويلها أو تقليص هذا التمويل، وعلى رأس هذه الدول ألمانيا، واليابان.
وعليه، فإنها لم تصدر طيلة السنوات الماضية مذكرات توقيف بحق أي من قادة إسرائيل المتهمين بارتكاب جرائم من ذات الاختصاص، في حين ذهب المدعي العام السابق لها إلى أنه «قد لا يكون لها اختصاص بالانتهاكات الإسرائيلية المزعومة على أساس أن النظام القضائي الإسرائيلي يتضمن بالفعل ملاحقة المتهمين بارتكاب جرائم حرب، رغم أن المحاكم الإسرائيلية لم تتحرك في هذا الشأن على الإطلاق.
وكما تبدو الأمور، وقفت الثغرات القانونية، والضغوط السياسية والمالية والإجرائية، سدًا أمام توجيه أي مذكرة توقيف ضد قادة إسرائيل المتهمين بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، وإبادة جماعية وعدوان. ورغم موقف «أيرلندا»، و«بلجيكا»، الداعم لفكرة محاسبة «تل أبيب»، فإن عمل المحكمة يصطدم بموقف متشدد من «الولايات المتحدة»، وحلفائها الأوروبيين الأعضاء في المحكمة، خاصة ألمانيا، والأمل هو أن تسرع الضغوط الدولية والشعبية في تجاوز هذا التحدي، والشروع بمحاكمة قادة إسرائيل، وعلى رأسهم رئيس الوزراء «نتنياهو».
وفي إطار هذا الواقع، قدم عضو البرلمان الأوروبي، الإسباني «مانو ميتيدا»، ملفًا كاملاً للمحكمة يتضمن انتهاكات ضد حقوق الإنسان، وجرائم حرب ارتكبتها إسرائيل، مطالبًا بمعاقبة مجرمي الحرب. كما طالبت منظمة «هيومن رايتس ووتش»، جميع الدول الأعضاء في «المحكمة»، بالإعراب عن دعمهم لدورها، معربة عن استهجانها لتناقض الاستجابة حتى الآن فيما يتعلق بالأوضاع في فلسطين، مقارنة بما حدث في أوكرانيا، التي هي أيضًا ليست عضوًا في المحكمة، كما بينت أن المدعي العام للمحكمة لم يصدر بيانًا عامًا استباقيًا، يذكر فيه إسرائيل بالتزاماتها بموجب القانون الدولي، وبولاية المحكمة للتحقيق في أفعالها، مؤكدة أن هناك حاجة ماسة إلى صوتها للمساعدة في منع المزيد من الفظائع التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي، مشيرة إلى أن ازدواجية المعايير في وصول الضحايا للعدالة، هي أمر غير مقبول، وأن الإفلات من العقاب في الجرائم الماضية قد أسهم في انتهاكات اليوم.
وارتباطا بهذه المطالبات والضغوط كان المدعي العام للمحكمة قد قام في 30 أكتوبر 2023 بزيارة مصر، وتوجه إلى معبر رفح البري، واطلع على العراقيل التي تضعها إسرائيل لمنع وصول المساعدات، وصرح أن عليها أن تعلم أنها انتهكت القانون الدولي بحربها على غزة، وأن عرقلتها المساعدات تشكل جريمة حرب، معبرًا عن حزنه لاستهداف الأطفال، مبينًا أن المحكمة ستجري تحقيقًا حول أي جرائم قد تم ارتكابها داخل الأراضي الفلسطينية.
على العموم، طبقًا للمادة (58)، من نظام «المحكمة الجنائية الدولية»، يجوز للمدعي العام إصدار أوامر إلقاء القبض على أشخاص يشتبه في ارتكابهم جرائم داخلة في اختصاص المحكمة، غير أنه إلى الآن لم يحدث شيء، ومازال مجرمو الحرب مطلقي الصراح، ومازالوا يقودون إسرائيل لارتكاب جرائم الحرب المنصوص عليها قانونًا.. فهل يدفع عجز هذه المحكمة إلى تشكيل محاكمة دولية شعبية خاصة من قبل المجتمع المدني العالمي، تضعف مكانة إسرائيل الدولية، أم يفتح الباب نحو موضوع أكثر اتساعًا وهو إصلاح النظام الدولي برمته.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك