«أدخلت مصر 12 ألف طن من المساعدات إلى قطاع غزة من خلال 1800 شاحنة بإجمالي 70% من المساعدات التي دخلت إلى غزة، وأبقت على معبر رفح مفتوحاً بالرغم من قصفه أربع مرات» تصريحات أدلى بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في الثالث والعشرين من نوفمبر 2023 خلال فعالية لدعم فلسطين باستاد القاهرة، تلك التصريحات التي تزامنت مع أخبار التوصل إلى هدنة مدتها أربعة أيام في غزة بوساطة مصرية- قطرية، ولست بصدد إعادة التأكيد مجدداً على الحروب التي خاضتها مصر من أجل القضية الفلسطينية وشارك فيها بعض أشقائها من دول الخليج العربي، إلا أن الأحداث التي شهدتها غزة منذ السابع من أكتوبر من العام الحالي والتي عكست تبايناً كبيراً في الرؤى الرسمية الغربية مع نظيرتها العربية ابتداءً بالقمة العالمية للسلام التي استضافتها القاهرة في 21 أكتوبر 2023 ولم يصدر عنها بيان ختامي بسبب التباين الشديد في الآراء، ومروراً بحوار المنامة الأمني التاسع عشر الذي كانت أحداث غزة هي محور النقاش العابر لكافة جلساته وعكست في الوقت ذاته تبايناً إضافياً في المواقف وانتهاءً باستمرار التصريحات الإقليمية مقابل تلك الدولية بشأن توصيف الوضع في غزة، تلك المواقف تثير تساؤلاً مهماً للغاية يكتسب أهميته في ذاته وبذاته للحديث عن مستقبل الأمن الإقليمي أو بالأحرى عن قدرة الدول المحورية على ضبط الصراعات الإقليمية حال حدوث تباين في المصالح بين الدول الكبرى والأطراف الإقليمية مع غياب أو تغييب دور المنظمة الأممية التي ارتضتها دول العالم كافة لحفظ الأمن والسلم الدوليين وتطبيق مبادئ القانون الدولي ذات الصلة بالسيادة والاستقلال والمساوة؟ وهنا يثار الحديث مجدداً عن أهمية الأمن الإقليمي ليس فقط كمنظمات مثل جامعة الدول العربية ومجلس التعاون لدول الخليج العربية ولكن كدول إقليمية لها تأثير في ضبط الصراعات والحيلولة دون خروجها عن مسارها المألوف وهو ما اضطلعت به مصر من خلال سياسة الردع، ففي كلمته خلال تفقد اصطفاف الفرقة الرابعة المدرعة في الجيش الثالث الميداني في محافظة السويس في الخامس والعشرين من أكتوبر2023 قال الرئيس عبدالفتاح السيسي إن «الجيش المصري يبني ويصون ويحمي ولا يعتدي» وأضاف «مهما كانت قوتك هي قوة رشيدة وهي سمة من سمات الجيش في مصر.. تبني وتصون وتحمي ولا تتعدى»، جاءت تلك التصريحات بعد أيام قليلة من التأكيد المصري الرسمي على أن مصر ترفض رفضاً مطلقاً تهجير الفلسطينيين من أراضيهم وترفض تصفية القضية الفلسطينية وهو الخطاب الذي برز منذ اللحظات الأولى للأحداث في غزة.
وبالعودة إلى الأزمات الإقليمية عبر التاريخ فقد كانت مصر حاضرة وبقوة من خلال التأثير في مسار ونتائج تلك الأزمات بما يحقق غاية استراتيجية وهي الحفاظ على توازن القوى الإقليمي لإدراك مصر أهمية تلك الغاية ابتداءً بالدور المصري خلال الحرب العراقية- الإيرانية التي استمرت زهاء ثماني سنوات وما تردد عن وجود دعم مصري في تحرير شبه جزيرة الفاو العراقية في إبريل 1988 ومروراً بالدور المصري في حرب تحرير دولة الكويت عام 1991 ضمن تحالف ضم 34 دولة قادته الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، وإعلان مصر وبكل وضوح تمسكها بعودة الحكومة الشرعية في دولة الكويت وانسحاب العراق بشكل فوري وغير مشروط وفقاً لقرارات الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية وانتهاءً بسياسة الردع من أجل تأمين الممرات المائية الحيوية للتجارة العالمية خلال الأزمات، ففي عام 2015 عندما أعلنت جماعة الحوثي التقدم نحو باب المندب أعلنت مصر تحرك أربع قطع بحرية نحو المضيق لتأمينه وكانت هناك تصريحات رسمية بأن أي وجود لقوات دول أجنبية في المياه الإقليمية لليمن سيكون بمثابة إعلان حرب، والأمثلة عديدة ومجملها أن هناك دورا رئيسيا للقوى الإقليمية المحورية خلال الأزمات ليس فقط لضبط مسار تلك الأزمات، وإنما من أجل الحفاظ على توازن القوى الإقليمي.
إن الدروس الثلاثة من الأحداث في غزة بغض النظر عما ستؤول إليه مستقبلاً ثلاثة أمور الأول: كيف يمكن تفعيل منظومة الأمن الإقليمي مجدداً، والتي تؤدي دوراً مهماً في الحفاظ على مصالح دولها؟ وهنا أشير إلى أنه لاتزال هناك حاجة إلى إطار أمني عربي لمواجهة تهديدات الأمن الإقليمي ومن ذلك المقترح المصري بتشكيل قوة عربية عسكرية مشتركة لمواجهة التحديات وصيانة الأمن القومي العربي، والذي أقرته القمة العربية السادسة والعشرين في عام 2015 وتمت إحالته للدراسة من جانب الجهات المعنية في الدول العربية، حيث تسعى كل تنظيمات الأمن الإقليمي لإيجاد آليات أمنية جماعية فاعلة لدوله الأعضاء من بينها الاتحاد الأوروبي وكذلك رابطة دول جنوب شرق آسيا، على الرغم من كونهما ليستا تنظيمات دفاعية على غرار الناتو، والثاني: أهمية دعم الدول المحورية انطلاقاً من أن الأمن الإقليمي هو حاصل جمع قدرات دوله، ولا شك أن توافق الرؤى المصرية- الخليجية الراهنة يعد ركيزة أساسية للإبقاء على توازن القوى في الأمن الإقليمي والذي يعتبر أساساً للأمن الإقليمي الذي شهد خللاً غير مسبوق منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، أما الدرس الثالث فهو كيفية العمل داخل المنظمة الأممية، ولطالما طالبت مصر بإصلاح مجلس الأمن ليكون هناك تمثيل عادل لكل مناطق العالم.
لقد اعتاد باحثو العلاقات الدولية تأكيد أن الأمن الإقليمي يدور في فلك الأمن العالمي وربما كان ذلك صحيحاً خلال حقبة الحرب الباردة وما تلاها من سنوات محدودة بيد أن الأزمات الإقليمية ثم تحولات العالم العربي عام 2011 والأحداث الراهنة في غزة قد غيرت تلك المفاهيم على نحو جذري ويمكن القول وبكل تأكيد أن حالة التأثير والتأثر هي التوصيف الصحيح للعلاقة بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي بما يعنيه ذلك من أنه لكي يكون هناك تأثير واضح للأمن الإقليمي لا بد من توافر ثلاثة متطلبات أولها: تفعيل دور تنظيمات الأمن الإقليمي التي يجب أن يكون لديها آلية أمنية مشتركة لتحقيق الردع الجماعي كمتطلب أساسي للأمن الجماعي، وثانيها: توظيف كل مقومات القوة التي لم تعد عسكرية فحسب في ظل نيل كل من مصر السعودية والإمارات عضوية مجموعة البريكس، وثالثها: تنويع الشراكات الدولية والتي أكدت الأزمات أهميتها البالغة في ظل عالم تتشابك فيه المصالح على نحو غير مسبوق.
مع أهمية الحديث عن كيفية انتهاء الأزمات، فإن الأكثر أهمية هو تأثيرها على منظومة الأمن الإقليمي ودور الدول المحورية تجاه ذلك الأمن.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك