في إطار الأحداث الحالية والتوترات المتصاعدة وإراقة الدماء المستمرة في غزة، أصبح من الضروري القيام بمحاولة جريئة لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بشكل كامل. ولا يمكن تحقيق ذلك إلا من خلال مبادرة سلام شاملة تؤخذ كاملة. وعلى مثل هذه المبادرة أن تعالج الأزمة مباشرة من خلال وقف إطلاق النار، ووقف المناوشات عبر الحدود، إلى جانب معالجة الجوانب الإنسانية، وتوفير المساعدات، وتبادل الأسرى بين الجانبين.. علاوة على ذلك، يتعين على هذه المبادرة أن تتعمق في القضية الأساسية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي وتحقيق حل الدولتين.
إن التدابير الجزئية لن تكون كافية لنزع فتيل الأزمة مع الأوضاع الحالية، إذ إن التوترات الشديدة والمصائب المفجعة الواقعة بالمنطقة تتطلب دبلوماسية جريئة وطموحة وخلاقة. إن غياب حل جوهري في ظل هذه الأزمة سيؤدي إلى استمرار دائرة العنف، وإلى المزيد من سفك الدماء. إن المسألة الآن ليست مسألة «هل» ستندلع أحداث عنف جديدة؟ بل هي بالأحرى «متى» ستندلع هذه الأحداث؟ وخاصة في ضوء القرارات السياسية التي تواجه «حماس» وزعماء إسرائيل، والتي تجعل من العودة إلى الوضع السابق لما قبل الحرب أمرا غير قابل للتصور.. وهكذا فإن كلا الجانبين سيسعى إلى تحقيق نصر كامل أو أن ينتقم على حساب الآخر، وهو أمر غير ممكن. وعلى هذا فإن المبادرة المقترحة لا بد أن تكون كبيرة بالقدر الكافي لتحقق تحولا كبيرا في الديناميكيات السياسية عند كلا الجانبين، ولتشجعهما على تجاوز الانتقام ونبذ الزعماء المتصلبين، إذا لزم الأمر.
إن الحلول المتاحة على الساحة الآن متضادة: فإما تحقيق السلام الكامل، أو الغرق في موجات انتقام مستنزفة للذات. وهذا من شأنه أن يعزز اعتقاد الفلسطينيين بأن الخسارة المأساوية التي أسفرت عن سقوط أكثر من عشرة آلاف قتيل في غزة لم تذهب سُدى، وأن يتيح الفرصة للإسرائيليين بأن يزعموا أنهم على الرغم من الخسائر البشرية، فإنهم قد نجحوا في ضمان أمنهم عبر حل نهائي. وتهدف المبادرة المقترحة إلى تحقيق تطلعات الهوية الوطنية للفلسطينيين والإسرائيليين من خلال تنفيذ حل إقامة الدولتين على حدود عام 1967، مع تعديلات طفيفة متفق عليها بين الطرفين. وعلى هذه المبادرة أن تقدم حلولا دقيقة ومحددة لوضع القدس وحق الفلسطينيين في العودة أو التعويض. ويجب أن تتضمن المبادرة خطة بروتوكولات أمنية مفصلة لحماية الجانبين من الهجمات المفاجئة في الضفة الغربية أو غزة أو إسرائيل. علاوة على ذلك، يجب أن تؤكد المبادرة ما تم إعلانه من قبل مبادرة السلام العربية التي تبنتها قمة جامعة الدول العربية في بيروت عام 2002، والتي أكدت أن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية من شأنه أن يمهد الطريق لعلاقات طبيعية مع الدول العربية بشكل عام. والوثائق المعاصرة التي تتناول تفاصيل المفاوضات العربية الإسرائيلية مليئة بالصيغ والتسويات التي تشمل كل هذه الجوانب. ومع ذلك، فإن الشيء الوحيد الذي كان ينقصنا هو الإرادة لدى القيادات السياسية المعنية.. ببساطة، إن المبادرة المقترحة غير القابلة للتفاوض هنا من شأنها أن تعالج السبب الجذري للصراع وتداعيات أزمة غزة.
إن قرارات زعماء المنطقة، باستثناءات قليلة للغاية، هي التي حددت أوضاع الحرب والسلام في الشرق الأوسط.. ولذلك فإن الخيار الأفضل هو أن ترعى دولة عربية هذه المبادرة.. ولكن العنف الذي لا يتوقف واستمرار سقوط ضحايا من المدنيين قد يجعلان الرِعاية الإقليمية لهذه المبادرة غير مجدية.
وكان الخيار الثاني الممكن لرعاية هذه المبادرة هو رعاية الولايات المتحدة لها؛ نظرا إلى دورها البارز في المنطقة منذ حرب عام 1973، ولكن عجزها حتى عن الدخول في حوار مع روسيا ودعمها الثابت لإسرائيل جعلا هذا الخيار متعذرا، وحرم الولايات المتحدة من أداء دور الوسيط المحايد للسلام.
والاحتمال الآخر هو القيام برعاية مشتركة للمبادرة بين كل من: الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، والرئيس الصيني شي جين بينج، والرئيس الأمريكي جو بايدن. وفي حين أن هذا الاحتمال قد يبدو غير مألوف في البداية، إلا أن تنوع الرعاة قد يجعل المبادرة أكثر قبولا للأطراف المعنية، على الرغم من التوترات الأخيرة بين المسؤولين الإسرائيليين وجوتيريش.
إن حل الدولتين كان قرارا من ضمن قرارات الأمم المتحدة، والتي كان لها دائما دور وحضور مهمان في المنطقة، وقد تبنت المبادئ الأساسية لعملية السلام منذ عدة عقود. وكذلك الصين، فهي تحتفظ بعلاقات جيدة مع جميع الدول العربية، وكذلك مع إسرائيل. وقد توسطت مؤخرا في الاتفاقات السعودية الإيرانية، وربما تتسع شهيتها السياسية في المستقبل، كما استنتج مبعوثها الخاص للشرق الأوسط، تشاي جون، الذي أكد مؤخرا دعم الصين لعملية السلام وحل الدولتين.
وقد تشعر الولايات المتحدة في البداية بالقلق من شراكة الصين في رعاية مبادرة السلام في الشرق الأوسط، فقد تظن أن هذا سيأتي على حساب التفوق الأمريكي بالمنطقة، ولكن في الحقيقة قد يوفر هذا السيناريو الفرصة لقيام حوار بنّاء متبادل المنفعة بين الدولتين يمتد إلى ما هو أبعد من منطقة الشرق الأوسط.
في النهاية، من المؤكد أن النجاح ليس مضمونا لهذه المبادرة المقترحة، خاصة في منطقة الشرق الأوسط شديدة التقلب، ووسط العلاقات غير المستقرة بين القوى العالمية الكبرى.. ولكن تكرار ممارسات الماضي أو الاستسلام للامبالاة لن يؤديا إلا إلى المزيد من الانتهاكات وسفك الدماء. والخيار الصعب هنا يتلخص في بذل جهود دبلوماسية كبيرة، على الرغم من كل الصعاب، بهدف حل الأسباب الجذرية للصراع، أو فإن المنطقة بأكملها ستشهد «تسونامي» من العنف الانتقامي بين المقاتلين والمدنيين على حد سواء.
{ وزير الخارجية المصري الأسبق
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك