لا نريد جلد الذات، ولكن أحداث السابع من أكتوبر والتنادي إلى مقاطعة بعض المنتجات الغربية حتى وإن كانت بسيطة، أوضحت لنا – كعالم عربي – أننا نفتقد إلى كثير من المقومات الاستهلاكية حتى وإن كانت بسيطة.
القضية ليست أنواعًا معينة من القهوة التي أعتمد عليها الشباب، أو بعض الوجبات السريعة الاستهلاكية أو أنواعا معينة من الصابون التي تعتمد عليها ربة الأسرة وما إلى ذلك، أعتقد أن الموضوع الذي يجب أن يطرح اليوم هو: ما المنتجات الصناعية الاستهلاكية التي ينتجها العالم العربي حتى يمكن من الاعتماد على نفسه لو حدثت المقاطعة بالعكس، بمعنى أنه لو أمتنع العالم الغربي والشرقي أن يزود العالم العربي والإسلامي بالمنتجات الاستهلاكية الأساسية؛ مثل الأرز والقمح وما إلى ذلك، ترى كيف يمكننا أن نعيش وأن نستمر؟
عندما نفتح الصحف العربية ووسائل الإعلام المختلفة المنتشرة على طول المنطقة العربية نجد عناوين عريضة يطلقها صناع القرار عن الصناعات الثقيلة أو التحويلية أو الاستهلاكية في الوطن العربي، غير أنها لا تعدو كونها بهرجة إعلامية دون أن تتحول إلى محاولة جادة على أرض الواقع العربي الذي يزخر بالمعرفة العلمية والأيدي العاملة ورؤوس الأموال.
وهذا يعني أننا ما زلنا نعيش في عباءة العالم الغربي، وندور في فلكهم، ونقتات على منتجاتهم الغربية، ونعيش ونحاول أن نتعايش على أفكارهم وحتى أنظمتهم وحياتهم، فهم الذي ينظمون نمط حياتنا وأفكارنا وحتى صناعتنا وملابسنا وكل صغيرة وكبيرة، وحتى لا أكون متجنيًا على عالمنا العربي تعالوا لنلقي نظرة سريعة على بعض التفاصيل.
النظام المدرسي والتعليمي: من أين جئنا بالنظام التعليمي الذي نعيشه اليوم، نظامنا اليوم مقسم إلى أربعة مستويات: الابتدائي، الإعدادي، الثانوي، الجامعي، ومن ثم من المفروض أن يدخل الإنسان حقل العمل، هل سألنا أنفسنا من وضع هذا النظام؟ ولماذا النظام بهذه الطريقة؟ هل هذا النظام الرباعي يتناسب معنا كعالم عربي؟ كم من الباحثين قام بدراسة لمعرفة مدى ملاءمة هذا النظام مع البيئة العربية والإسلامية؟ هل فكرت بعض الدول في تغير هذا النظام؟ وحتى لو فكر أحد المسؤولين التغيير فهل سيتمكن من ذلك أم سيواجه المعضلة الأزلية لا للتغيير، نحن في منطقة الراحة والنظام مستقر، فلماذا نغير؟
التخصصات الجامعية وطريقة التدريس: من الواضح أن كل التخصصات التي يتم تدريسها اليوم في الجامعات تم استيرادها من العالم الغربي، فهل هذه التخصصات تناسبنا وتناسب مجتمعاتنا؟ ذات مرة وجدنا أن العالم الغربي والشرقي اهتم بعلوم الفضاء، لذلك وجدنا أن معظم جامعاتنا نحت ذلك المنحى، اهتمت الجامعات الغربية والشرقية بالذكاء الاصطناعي وجدنا أنفسنا وأولادنا وجامعاتنا تجري خلف الذكاء الاصطناعي، تنادى العالم الغربي والشرقي إلى ما يعرف بالتنمية المستدامة وجدنا أن الجميع يتحدث عن هذه النوعية من التنمية والذكي هو من يتخصص في هذا التخصص. ليس ذلك فحسب وإنما حتى طريقة التدريس بنظام المحاضرات وخاصة النظرية، إذ أصبح النظام النظري أسهل في التدريس بدلاً من النظام التطبيقي والعملي، ذات يوم قال لي أحد المهندسين أن الجامعات العربية قليلاً ما تقوم بالتدريس التطبيقي والعملي وخاصة في الهندسة، فهل هذا الكلام صحيح؟
وسائل التواصل الاجتماعي: وجدنا أنفسنا بعد أحداث السابع من أكتوبر أننا محاصرون من قبل هذه الوسائل، الفيس بوك، الواتساب والانستجرام وغيرها، فلا تستطيع أن تكتب (غزة) أو (إسرائيل) أو ما إلى ذلك من مصطلحات حتى يزال الحساب من ذلك الفضاء الرقمي، لماذا؟ بسبب بسيط هو أن هذه الوسائل مملوكة لشركات تقف في صف إسرائيل في حربها ضد العرب، وربما هنا يأتي السؤال: أين الوسائل التواصل الاجتماعية العربية والإسلامية؟ لماذا ليس لدينا منتجاتنا الرقمية الخوارزمية الخاصة؟ أين المتخصصون من العرب والمسلمين في الذكاء الاصطناعي من هذه التخصصات، لماذا هاجروا وذهبوا يعملون في القارة الغربية أو الشرقية؟ هل ما زلنا ندور في حلقة الفكر ونعيش تحت العباءة الغربية؟
الأمن الغذائي والمائي: نعيش في عالمنا العربي والإسلامي ونحن نعتمد على المنتجات الزراعية والحيوانية القادمة من الدول الغربية والشرقية المحيطة، فنحن نأكل الأرز الذي يأتينا من تلك الدولة، والقمح من الدولة الأخرى، والبطاطس من الدولة الثالثة، من أين تأتينا المواد الغذائية الزراعية الأساسية؟ ثم المنتجات الحيوانية والمواشي هل تأتينا من السهول والحقول العربية أم تأتينا مذبوحة جاهزة أو ربما مجمدة من بعض الدول من هنا وهناك؟ وحتى في رمضان يخرج علينا بعض التجار ويبشرون بتوفر اللحوم والدواجن القادمة من تلك الدول التي تقبع خلف الحدود.
وجانب آخر وهو موضوع المياه؛ إذ نحن نعلم أنه يصب في العالم العربي ثلاثة أنهار عظيمة، وعلى الرغم من ذلك فإن الدول التي تصب فيها تلك الأنهار لا تستطيع أن تتحكم في كميات المياه التي تمر في أراضيها، والسبب لأن منابع تلك الأنهار تأتي من خارج الدول العربية. أما بقية الدول والتي تعتمد على تحلية المياه فإنها لا تملك شريان الحياة لأنه إن تعطلت تلك المحطات فإنها ستواجه أزمة كارثية.
الصناعات الاستهلاكية: لنذهب إلى الأسواق ونتفحص المنتجات حتى البسيطة منها: صابون الاستحمام بأنواعها المختلفة، صابون غسيل الملابس، الأواني المنزلية، القرطاسية، ملابسنا والأقمشة التي تصنع منها، الساعات التي نستخدمها، الحقائب التي نحملها، أجهزة الحاسوب التي نعمل عليها، السيارات التي نركبها، وغيرها وغيرها الكثير، ترى من أين جاءت؟ ومن الذي صنعها؟ هل منشأها دول عربية وإسلامية أم أنها أتت من هنا وهناك؟
وربما الكثير، ولكن السؤال المطروح هو: لماذا وصلنا إلى هذا الوضع؟ لماذا أصبحنا نستورد كل شيء، من الإبرة حتى الصاروخ كما يقال؟ وإن أرادت بعض الدول العربية أن تقوم بالصناعة فإنها تقوم بعملية الإعفاء الضريبي وتستورد المصانع الجاهزة من خارج الحدود لتقوم تلك المصانع بإنتاج منتجاتها في تلك الدولة العربية، ومن ثم تستورد العمالة الرخيصة القادمة هي الأخرى من خارج الحدود، والمستفيد الأكبر هو المصنع وذلك من خلال التسهيلات المقدمة من الدول العربية والأسواق المفتوحة لأنها تتوسط العالم، وهذا ما يساعدها إلى التصدير وامتلاك الأسواق.
وحتى نكون إيجابيين في هذا الموضوع، نقول: كيف يمكننا أن نعيد بناء وجودنا الحقيقي ودورنا البناء حتى تقف شعوبنا العربية والإسلامية وتعتمد على أنفسها في الصناعة والغذاء، ونحافظ على أسواقنا ونملؤها بالمنتجات العربية الإسلامية؟ وفي الحقيقة ربما لا يمكننا نحن هنا أن نتحدث عن الكثير، ولكن دعونا نطرح بعض الحلول التي نعتقد أنها مفيدة، منها:
أولاً: لا يمكن تغير الواقع الذي نعيشه دون قلب أنظمة التعليم رأسًا على عقب، بحيث يتم تعميم النظام التطبيقي والتأهيل المهني، وتغيير ثقافة العمل بشكل كبير، وهذا يعني التخلص من فكرة أن المواطن لا يليق به العمل في الأعمال البسيطة أو أن يعمل في ورش العمل. وليس من الضروري أن يتخرج كل الطلبة ليعملوا في المكاتب المكيفة أو المراكز الراقية، ثم نأتي بالعمالة من خارج الحدود ومن ثم نولول ونعاني من البطالة، وإنما من الضروري أن يقوم بالدور أولادها وبناتها حتى وفي أبسط الوظائف.
والأنظمة التعليمية اليوم تخرج موظفين ولا تخرج رواد عمل، ولا تخرج فنيين وعمالة محترفة، سواء كنا نتحدث عن المدارس أو حتى الجامعات، وهذا يعني أننا إن بقينا على هذا المسار فسنظل هكذا إلى مئات السنين القادمة.
ثانيًا: أشارت العديد من الدراسات أن خطط التنمية العربية وبرامج تنفيذها أيضًا اعتمدت في المجال الصناعي على مخططين ركزوا جل اهتمامهم على مشاريع بهرجة انتقائية يتم الافتخار بضخامتها أكثر من الاعتداد بكفاءتها وأدائها. كما أن هذه المشاريع اعتمدت على نقل التكنولوجيا الأجنبية دون توطينها لاحقًا من خلال صيانتها وتطويرها بالاعتماد على الأيدي العاملة المحلية.
لذلك نجد أنه من المهم التوجه إلى الصناعات المحلية الصغيرة والمتوسطة التي تعتمد على الناس المحيطين بها من خلال دمجهم في أنشطتها، وهذا يعني إقامة صناعات تعتمد على عمال من المحليين بعد تأهيلهم وعلى إنتاجهم من مواد أولية وبسيطة دون إهمال مسألة الإنتاج بمواصفات قادرة على منافسة السلع الأجنبية.
غير أن السؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن التأسيس لصناعة كهذه في ظل رفض فئات معينة تتحكم بالمصالح الاقتصادية ولا تسمح بتطوير شامل انطلاقًا من مصالحها الخاصة؟
ثالثًا: يلاحظ أن الصناعات العربية تعتمد إلى حد كبير على التكنولوجيا المستوردة بما في ذلك التكنولوجيا المرتبطة بأساليب الإنتاج ووسائله مما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج الصناعي.
رابعًا: الاعتماد – ربما – المفرط على القطاع النفطي، حيث أشارت العديد من الدراسات أنه ما زال إنتاج النفط يشكل المكون الأساسي للدخل المحلي والمصدر الرئيس لتمويل الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية في معظم الدول العربية.
خامسًا: بعض الدول العربية تعتمد بصورة ما على سياسات صناعة غير فعالة، فتشير بعض الدراسات إلى أن بعض الدول العربية تعاني من سوء توزيع في رؤوس الأموال والعمالة بين النشاطات الصناعية بصورة أدت إلى زيادة النزعة الريعية بدلاً من زيادة إنتاجية عوامل الإنتاج.
وعلى الرغم من كثير من الجهود والمحاولات إلا أن دولنا العربية – كما تشير العديد من الدراسات – لم تتمكن من وضع بصمة في سوق الصناعات العالمية الثقيلة، مكتفية بمحاولات متواضعة لعمليات تجميع لم تفلح هي الأخرى في اكتساب سمعة جيدة على مستوى العالم.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك