القرآن العظيم كتاب هداية وإرشاد، وهو برهان على وجود الله تعالى كما أنه حجة بين يدي الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) ومن بعده لدى المسلمين على صدق بلاغ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الله تعالى
والقرآن العظيم لم يقدم نفسه، ولَم يدع – حاشاه – بأنه كتاب في الكيمياء، أو الفيزياء، أو التاريخ، ولا حتى في السياسة، بل هو ومن أول يوم نزل حدد مهمته، قال تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان..) (البقرة / 185) وأن يكون ذلك من خلال شريعته الغراء التي أنزلها إلى رسوله (صلى الله عليه وسلم)، قال تعالى:(وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم إنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرًا من الناس لفاسقون) المائدة / 49. أكد الحق سبحانه أن لكل أمة شرعة ومنهاجًا، قال تعالى: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنًا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعةً ومنهاجًا..)
المائدة / 48.
واعتراف القرآن، أو نفيه أنه نزل لمثل هذه التخصصات الحديثة لا يعني أبدًا أنه لم يشر إليها من قريب أو بعيد، بل على العكس من ذلك، فقد ثبت من خلال تدبرنا لآيات الله تعالى أن هناك إشارات بالغة الدلالة على اهتمام القرآن الكريم بهذه العلوم بدليل أن الجزء الثلاثين من القرآن وهو جزء (عم) معظم آياته مهتمة بالآيات الكونية مثل السموات والأرض والجبال والبحار من مثل قوله سبحانه: (إذا الشمس كورت (1) وإذا النجوم انكدرت (2) وإذا الجبال سيرت (3) وإذا العشار عطلت (4) وإذا الوحوش حشرت (5) وإذا البحار سجرت (6) وإذا النفوس زوجت (7) وإذا الموءودة سئلت (8) بأي ذنب قتلًت (9)) سورة التكوير، وفِي هذا الجزء حديث عن: انفطار السماء، وعن التطفيف في المكاييل والأوزان، وهذه تدخل في تنظيم حركة البيع والشراء، ونجد أيضًا أن القرآن في هذا الجزء يتحدث عن: السماء والطارق، وأيضًا يتحدث عن أسئلة يطرحها القرآن على العقل يستنهض به همته في التدبر والبحث كما جاء في سورة الغاشية في الآيات (17 ، 18، 19 ، 20).
ومن يتصفح كتاب الله تعالى فسيجد أمثال ذلك كثيرا.
ومن المقاربات لبعض آيات الله تعالى في القرآن العظيم قوله تعالى، وهو يتحدث عن العلماء الذين هم أشد خشية لله تعالى من غيرهم، ويبين أن العلماء في مختلف العلوم الكونية هم الأشد خشية لله تعالى لأنهم توصلوا إلى معرفة بعض أسراره في الكون، واكتشفوا بعض سننه ونواميسه، فحق لهم أن يكونوا أشد الناس خشية لله تعالى، قال سبحانه وتعالى: (ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فأخرجنا به ثمرات مختلفًا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود (27) ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء إن الله عزيز غفور (28 )) فاطر.
وواضح من سياق الآيتين: (27 ، 28) أن المقصود بالعلماء هنا هم العلماء المتخصصون في علوم الكون، ويندرج في هذه العلوم كل ما يتصل بمصالح الناس ومعايشهم في هذه الدنيا، المطلعون على نواميس الحياة، والقرآن باهتمامه بهذا الجانب يريد أن يقول للناس، وخاصة المهتمين بكل ما له علاقة بعلوم السموات والأرض والإنسان والمخلوقات الأخرى، إنه لا حرج في الانشغال بمثل هذه العلوم، بل قد يصل الاهتمام بها درجة الواجب الذي يؤجر فاعله ويأثم تاركه، وقد يتساءل بعض المتعجلًين، فيقول: هل معنى هذا أن الخشية من الله تعالى مقصورة حصرًا على أمثال هؤلاء العلماء محروم غيرهم منها؟ ونقول لهؤلاء ولمن ينهج نهجهم.. الآيتان لا تدلان على ذلك، بل هما تشيران بأداة الحصر (إنما) على أن لهذا الصنف من العلماء قسطا وافرا من خشيتهم لله تعالى لأنهم اتضحت لهم حقائق الإيمان، فأضافوا إلى إيمانهم الفطري إيمان الدليل العلمي، فصاروا أكثر خشية لله تعالى، وهذا ما انتهى إليه الدكتور موريس. بوكاي حين قام بدراسة الكتب السماوية: التوراة، والإنجيل، والقرآن والعلم الحديث، وقاده بحثه الطويل إلى حقيقة علمية باهرة هي أن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي اتفقت آياته مع حقائق الكون الثابتة، فأصدر كتابًا بعنوان: (التوراة، الإنجيل، القرآن والعلم الحديث).
من خلال هذا الفهم السديد والراشد سوف نذكر ونقارب بعض هذه النصوص الدينية، ودور العقل في النظر في الآفاق وفِي الأنفس، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفِي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد) فصلت / 53.
ومن المقاربات للنص الديني التي نرتاح إليها، وتطمئن نفوسنا إليها قول الحق سبحانه وتعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت (17) وإلى السماء كيف رفعت (18) وإلى الجبال كيف نصبت (19) وإلى الأرض كيف سطحت (20)) الغاشية. وهذه أسئلة مشروعة في البحث العلمي، ولَم يأت السؤال عنها بـ (لماذا) لأن السؤال عنها بهذه الكيفية يعقلها حتى البدوي البسيط، فهو من خلال تعامله مع هذه المخلوقات يعلم الغاية من خلقها إلى هذه الهيئة، لكن السؤال بـ (كيف) يستلزم امتلاك من يسأل عنها قدرًا من العلوم يستعين بها العالم لفهم ما يظهر له من أسباب وحكمة.
والقرآن العظيم يحرض العقل على ولوج كثير من الميادين يستشرف بها العالم آفاق المستقبل الواعد، ويرفع الحرج عن العلماء فلا يشعرون بأي بأس في أن يعرضوا فهمهم على القرآن ليروا مدى اقترابهم من تطابق آيات الأكوان مع آيات القرآن، قال تعالى: (إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب (190) الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلًا سبحانك فقنا عذاب النار (191)) آل عمران.
والآيتان الجليلتان تشيران إشارة واضحة الدلالة على أن التفكر في جميع أحواله عبادة مشروعة، بل مفروضة كما أشار إلى ذلك الأستاذ عباس محمود العقَّاد في كتابه (التفكير فريضة إسلامية) مدللًا على أن التفكير في الإسلام فريضة وليست نافلة يثاب فاعلها، ولا يأثم تاركها، بل هو فريضة كالفرائض الأخرى.
هذا هو الإسلام، وهذه بعض المقاربات التي تسهم في فهم آيات القرآن، وإدراك مقاصده الشريفة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك