«فلسطين الحرة من النهر إلى البحر»... شعار مهم يحضر كثيرا في فعاليات وتظاهرات وكلمات متضامنة مع غزّة والضفة الغربية ضد العدوان الإسرائيلي عليهما. ليس في العالم العربي– الإسلامي، حيث الممنوع والمسموح تُحدَّد أحجامهما بميزان من ذهب، حيث يمكن للشعار أن يحلّ مرّة بحساب، ويُحْجَب مرّة بحساب آخر. إنما في الغرب الأوروبي والأمريكي، وربما أيضاً في بقية العالم الذي لا يصل إلينا صداه كما نتمنّى، أو يصل مغبَّشاً.
شعار خطير: أول من أوصله إلى أروقة الحكم الأمريكي، كانت رشيدة طليب، النائبة الوحيدة ذات الأصول الفلسطينية في الكونجرس الأمريكي. في شريط فيديو تكلّمت النائبة. ودانت سياسة رئيسها بايدن، متّهمة إياه بأنه وافق على الإبادة. وختمت كلمتها بشعار «من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرّة»، فكان أن ترتب على ذلك اقتراح من مجلس المندوبين بحجب الثقة عنها، لأنها «تدعو به إلى تدمير دولة إسرائيل»، ووفق الادعاء بأن هذا الشعار «معادٍ للسامية ومؤذٍ».
في الوقت نفسه، كان النائب العمّالي البريطاني، آندي ماكدونالد، يصرّح: «لن نرتاح، قبل أن يتمكَّن الإسرائيليون والفلسطينيون من العيش بسلام وحرية، من النهر إلى البحر...». بعد ثلاثة أيام، جُمِّدت عضويته في حزبه، مدة يحتاج إليها التحقيق بـ«النهر والبحر» الذي يقصده.
وزيرة الداخلية البريطانية، سويلا برافرمان، في رسالة تحذيرية إلى الشرطة من التظاهرات المتضامنة مع فلسطين، والتي كلّفتها الإقالة من منصبها... كتبت، في سياق تحريضها عليها: «أشجّع الشرطة على التفكير بشعار «من النهر إلى البحر ستكون فلسطين حرّة»، وهو شعارٌ يجب فهمه تعبيراً عن الرغبة العنيفة بمسح إسرائيل عن الخريطة...».
هذه أمثلة من عشرات. حيث ترى وجوهاً تغزو الفضاء الإعلامي بـ«النهر والبحر...»، وتُعاقَب. وصار الشعار ممنوعاً رفْعُه في تظاهرات بعض الدول، مثل ألمانيا (أضافت الكوفية الفلسطينية إلى محظوراتها)، فضلاً عن النمسا وهولندا. وربما حكومات أخرى، لم تصل إلى مسامعنا.
يعود هذا الشعار إلى أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية، أحمد الشقيري. آزره المذيع المصري الشهير في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، أحمد سعيد. وبقيت منظمة التحرير عليه حتى جاءت مرحلة السلام العابر في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، عندما تبنّت المنظمة حل «الدولتين».
وكان هذا واحداً من أسباب القطيعة بين ياسر عرفات والإمام الخميني، ففيما كان الأخير قد تبنّى الشعار: «فلسطين هي فلسطين من النّهر إلى البحر»، كان عرفات يشْرع في عملية التسوية ويتبنّى الدولتين، أي فلسطين بالأراضي التي احتُلّت عام 1967 (السببان الآخران للقطيعة: رفض عرفات التقرّب من نظام حافظ الأسد، ودعمه صدّام حسين في الحرب الإيرانية – العراقية).
اعتبرت حركة حماس هذا التخلّي عن «النهر إلى البحر...» بمثابة خيانة وطنية. في وثيقتها الأولى، وكان الإعلان صريحا. ولكن في النصوص اللاحقة، تأخذ مسافتها من الشعار: إذ لم تتبنّه في ميثاقها الصادر عام 1988، لتعلن مثلاً أن صراعها هو مع الصهيونية وليس مع اليهود. إلى أن أعلنت عام 2017 قبولها بدولة فلسطينية على حدود عام 1967، هي نفسها التي وافق عليها عرفات.
لكن الشعار يعود إلى لسان قادتها. رئيس المكتب السياسي (السابق) لحركة حماس، خالد مشعل، مدفوعاً ربما بحماسة الخطابة، يعلن عام 2012: «فلسطين لنا، من النهر إلى البحر، من الجنوب إلى الشمال. نحن لا نتراجع عن أية قطعة من أرضنا».
علماً أن إسرائيل تحمل الشعار ذاته، ولكن مقلوباً. حزب الليكود، في وثيقته لعام 1977، ورفضاً لقيام دولة فلسطينية إلى جانبها، ينصّ في أحد بنوده: «من النهر إلى البحر لن يكون سوى سيادة إسرائيلية». لم يتبنّ الكنيست هذا الشعار، فبقي هائماً، إلى أن عاد إليه الكنيست عام 2018، ووافق عليه، بعبارات أخرى، تنصّ على «حقّ إسرائيل في تقرير مصيرها بصفتها دولة فريدة للشعب اليهودي»... أضف إليها الآن الائتلاف اليميني المتطرّف الحاكم.
ما الذي أشاع هذا الشعار، «من النهر الى البحر...»، في حرب غزّة بالذات؟ المرْوحة الواسعة من المؤيدين والمتضامين والناشطين المتظاهرين والشخصيات مع فلسطين وأهل غزّة، ضد التمادي المنفلت من عقاله للشراسة الإسرائيلية في عدوانها على غزة وأهلها.
أولاً: مسلمون وإسلاميون وشرقيون، وبعض حكّام دول مسلمة، أو يعتنق سكانها الإسلام. ومسيحيون مؤمنون من حجّاج القدس، أو معادون للعنف. وقد أضاف إليهم البابا فرانسيس نبْرته السلمية الداعية إلى وقف الحرب. ويهود، وبعض اليهودية السياسية، الأرثوذكسية، التي ترى في نشأة إسرائيل مخالَفة لتعاليم التوراة. ثم علمانيون، يساريون، من آفاق مختلفة. تسببّ الشعار لبعضهم بانشقاقاتٍ في صفوفهم ونقاشاتٍ لا تهدأ (الفرنسيون والبريطانيون، وربما غيرهم). ومعادون للعنصرية بأشكالها كافة، وإثنيات مضطهدة في ديارها الأصلية، مثل الهنود الحمر الأمريكيين. وحركات عاملة على تقرير مصيرها بنفسها، مثل الكشمْيريين أو الإيرلنديين. ومؤسّسات الأمم المتحدة الخاصة بحقوق الإنسان وبالصحة. وجمعيات مدنية إغاثية عالمية، غير حكومية، أو منظمّات حقوق الإنسان. وتيارات ما بعد حداثية وما بعد استعمارية. والأكثر نشاطاً من بينهم طلاب الجامعات الأمريكية، الذين حوّلوا حرَم بعضها إلى مجال للجيل المسمّى «زِدْ»، والذي سبق أن استنفر ضد إسرائيل، في حروبٍ سابقة على غزّة. فضلاً عن أحزاب ذات تاريخ في مناهضة الاستعمار، وشخصيات وفلاسفة ومؤثّرين ومؤرّخين، ومثقفين وإعلاميين.
هذه المرْوحة المتنوعة من البشرية المعاصرة، تصرُخ في الساحات مع المتظاهرين «من النهر إلى البحر...». والفروقات بينها شاسعة. هذا التنوّع في الرأي أو العقيدة، يغيّر المضمون الأصلي لشعار «من النهر إلى البحر»، ويجعله قابلاً لتفسيرٍ خاصٍّ لكل فئة بعينها.
اتجاهات داخل التيار الإسلامي، مثلاً، قد يرون في هذا الشعار استبعادا لليهود من فلسطين التاريخية، وتكريسا لوجود الفلسطينيين في هذه الأرض. وإذا عدّل من الفكرة، قد يكون تعديله تكتيكياً، ديبلوماسياً، لا يذهب إلى عمقها، ولا يخوضُ نقاشاً لبلورتها.
ومع الاتجاه الإسلامي، سيأتي النظير اليهودي، الحداثوي العلماني الديموقراطي الليبرالي المعادي للعنصرية وللاضطهاد، والداعي إلى الحرّية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب بتقرير مصيرها.. ليملأ الشعار بالمعاني أو العبارات المترِجمة لفكرته، أو لينقدها أو يفكِّكها. وهكذا.
في جوابها عن الإجراء المسْلكي ضدها في الكونجرس الأمريكي، تُدافع النائبة رشيدة طليب عن شعار «من النهر...». فتقول: «هذا الشعار هو مناشدة طموحة للحرية وحقوق الإنسان، لا للموت والدمار أو الحقد». إنه يعني بالنسبة لها: «إنشاء دولة يهودية فلسطينية مزدوجة القومية مكان ما هو الآن إسرائيل والضفّة وغزّة».
تنْشد معظم الهيئات الرسمية والحزبية حلّ الدولتين. أي دولة فلسطينية بحدود الـ 1967، ودولة إسرائيل بحدود 1948. هذا المشروع، يقارب عمره نصف القرن. ولم يفلح بغير تآكل الأمل بالسلم، أو بشيء من الحقوق. أي الفشل، والفراغ. وجاء «من النهر...» ليملأ هذا الفراغ، فصار يحتاج إلى نقاشٍ جدّي. يغرف من الرؤى الجديدة القديمة مشروعاً مديداً صعباً، ولكن سيكون هناك من يبدأ التفكير فيه بشكل جدي، بعد توقّف آلة القتل الإسرائيلية في غزة.
{ كاتبة وأكاديمية لبنانية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك