في هذه المقالة الموجزة، سوف أستعرض أحد أبرز المساهمات النقديّة المُعاصرة حول النظرية السياسية وفلسفة القانون الحديث في الفكر الحقوقي الغربي، وهي مساهمة أستاذ الفلسفة السياسية الإيطالي جورجيو أغامبين Giorgio Agamben (مواليد 1942م) عندما طرح في كتاب (حالة الاستثناء) وكتاب (المنبوذ: السلطة السيادية والحياة العارية) وغيرها من مساهمات ضمن سلسلته الشهيرة التي سخرها لدراسة من أطلق عليه «الإنسان المستباح Homo Sacer» بغرض إجراء تحليل لأشكال الحياة السياسية والمراكز القانونية التي يخضع لها الأفراد والجماعات ضمن حالات الطوارئ أو حالات تعليق القانون. ففي هذين الكتابين –على الأقل– يعالج أغامبين إحدى معضلات النظام السياسي والقانوني المُعاصر الذي قد يُوقع بعض الأفراد أو الجماعات ضمن مفهوم «الإنسان المُستباح» الذي يعني به: الإنسان الذي لم يصدر ضدّه حكم قضائيّ بالإعدام، ولكنه في الوقت نفسه لو نُفذ فيه الإعدام (فعل القتل) فلا تكون هنالك جريمة على قاتله وبالتالي فإنّ دمه مهدور، والسبب أنّ هذا الإنسان إنما يقع في منطقة تُوصف بأنها «خارج القانون»، بل يُعلق فيها تطبيق القانون بوصفه حالةً استثنائية. وقد استشهد فيلسوفنا في بعض أعماله اللاحقة عند دراسته لحالة الاستثناء بما يحصل في معسكرات الاعتقال الجماعي مثلما الحال في معسكر غوانتامو وغيرها من أوضاع يعيشها المهاجرون المضطهدون في أوروبا (الذين يغرق كثيرٌ منهم في البحر) فهم الذين لا يخضعون لنفس النظام القانوني الذي يخضع له الإنسان الطبيعي أو الذات الإنسانية الطبيعية.
وبتطبيق هذه النظرية على ما نشهده اليوم من حرب عدوانية يمارس فيها الكيان الصهيوني الاستعماري سياساته التمييزية في الفصل العنصري وجرائم الإبادة الجماعية ضد مواطني فلسطين المحتلة وقطاع غزة خصوصًا. لهذا سوف نجد أنّ حالة الاستثناء (القانون المعلق) هي بالضبط ما يجري على أهل غزة الأبرياء، وبالتالي فإنّهم نموذج تطبيقي وعملي لنظريته حول «الإنسان المُستباح» فلا هم جُناةٌ يستحقون ما يواجهون، ولا هم ذواتٌ قانونيةٌ معترفٌ بها لدى سلطة القانون بحيث يستحق قاتلهم العقاب. ولعمرك إنّ ما صرّح به وزير دفاع الاحتلال من أنّ هؤلاء مجرّد حيوانات، خير شاهدٍ على النزعة العنصرية والنظرة الدونية لدى هذا الكيان تجاه أهل غزة، وبالضرورة – طبقًا لتصريحه – فإنهم لا يستحقون معاملةً قانونيةً كما تستحقها الذات القانونية الطبيعية. فقادة الكيان لا يتقبّلون دروسًا في الأخلاق لأنهم لا يتعاملون مع بشر. هذا هو «الاستثناء» بعينه.
لم يكتف أغامبين بعرض نظريته تلك، بل فاجأنا بتعليق وضعه في مدونته الإلكترونية بتاريخ (30 أكتوبر 2023م) قال فيه نصًا: (في الأيام الأخيرة، أعلن علماء بكلية علوم النبات في جامعة تل أبيب أنهم سجّلوا، باستخدام ميكروفونات خاصة حساسة نحو الموجات فوق الصوتية، صرخات الألم التي تُطلقها النباتات عندما تُقطّع أو عندما تشحّ المياه. في غزّة لا توجد ميكروفونات) انتهى النص.
يستحضر هنا أغامبين التصريحات التي يصدرها قادة الكيان، فإذا كان هذا الكيان يهتم بحقوق الكائنات الحية النباتية، فما باله لا يهتم بحقوق أهل غزة من الأبرياء القابعين في معسكر الاعتقال الكبير. فهم يصرخون وصوت صريخهم يُسمع دون ميكروفونات حساسة. في عالم اليوم، الذي يتساقط فيه قناع الإنسانية ومبادئ الحقوق المتساوية في دول الغرب واحدةً تلو الأخرى، يُسمع صوت الإنسان المُستباح وهو يذوق طعم الموت، في حين لا تسري عليه أحكام مواثيق حقوق الإنسان، لأنّ هذا الإنسان – في تصوّرهم– أقل من الإنسان القانوني، بل هو خارج النظام القانوني الموضوعي المرتبط بشخصية الإنسان أصلا.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك