من أهم محاور اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي التي وقع عليها معظم دول العالم في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في قمة الأرض في عام 1992 هو المحور المتعلق بمكافحة المصادر والعوامل التي تؤدي إلى وقوع ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض.
وقد أجمع العلماء بأن السبب الرئيسي لسخونة الأرض هو حرق الوقود الأحفوري المتمثل في البترول، والفحم، والغاز الطبيعي وانبعاث الغازات الدفيئة، أو غازات الاحتباس الحراري عند حرق هذا النوع من الوقود في السيارات، والطائرات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء وغيرها، وبالتحديد انطلاق غاز ثاني أكسيد الكربون.
فهذا الغاز موجود طبيعياً في الهواء الجوي، أي خلقه الله سبحانه وتعالى بقدر واعتدال بتركيز قرابة 280 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء الجوي، بحيث يقوم بواجبه ودوره على أكمل وجه، سواء من ناحية تكوين الغذاء للحياة الفطرية النباتية، أو إحداث التوازن في مناخ كوكبنا وفي درجة حرارتها، ولكن هذا التوازن الرباني اختل وانكسر بعد أن أطلقَ الإنسان من مصادر لا تعد ولا تحصى منذ زهاء 200 عام وفي معظم دول العالم غاز ثاني أكسيد الكربون إلى الهواء الجوي بشكلٍ مستمر وفي كل ثانية من اليوم، حتى بلغ التركيز أكثر من 422 جزءاً من ثاني أكسيد الكربون في المليون جزء من الهواء. وهنا وعندما زاد تركيزه إلى مستويات مرتفعة جداً، تحول هذا الغاز من داعمٍ للحياة على سطح الأرض إلى غازٍ ملوث للهواء الجوي يحبس الحرارة المنطلقة من سطح الأرض فيمنع انتشارها وتخفيفها ويرفع من حرارتها وسخونتها، ويسبب نتيجة لذلك كوارث مناخية يشهد الآن الجميع تداعياتها الاقتصادية والأمنية والاجتماعية والصحية.
ونتيجة لهذه الحالة الكارثية المؤثرة على استدامة عطاء كوكبنا، كان لا بد من الحد من انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون عن طريق خفض، أو منع الانبعاثات كلياً عند حرق الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي، أو بعبارة الأخرى التخلي على المدى البعيد عن استخدام كل أنواع الوقود الأحفوري ووضع حد زمني لذلك. ومنذ أن وافق المجتمع الدولي على هذه السياسة العامة في عام 1992، أي قبل ثلاثين عاماً، مازال الوقود الأحفوري يراوح في مكانه، ومازال يفرض نفسه على كل دول العالم كالوقود الأفضل والأكثر ثقة ومصداقية لتحريك عجلة التنمية، ولذلك لم يتمكن المجتمع الدولي من الاجماع على التخلص من الوقود الأحفوري، ولم ينجح في وضع سقفٍ زمني للتخلص منه كلياً، فالبديل، أو البدائل الأفضل غير متوافرة حتى الآن، ولا يمكن الاعتماد عليها كلياً.
فعلى سبيل المثال وبعد أكثر من 30 عاماً، وبالتحديد في الاجتماع رقم (26) أو كوب 26 الذي عُقد في مدينة جلاسجو البريطانية في نوفمبر عام 2021، وبعد مناقشات ماراثونية عصيبة استمرت أكثر من 14 يوماً لم يتمكن المفاوضون على الموافقة على قرار جماعي مشترك لوقف الوقود الأحفوري. وفي الدقائق الأخيرة قبل اغلاق الاجتماع، توصلت الوفود المشاركة باقتراح من الهند والدول النامية إلى صيغة قرار ضعيفة ومخففة ومرنة ومكونة أساساً من كلمة واحدة تحتوي على ثلاثة حروف فقط، وهي الخفض التدريجي لاستخدام الوقود الأحفوري عبر السنوات القادمة إلى مستويات تكون مقبولة بالنسبة للانبعاثات التي تنطلق منه (phase down)، بدلاً من الصيغة الأولية وهي التوقف عن استخدام الوقود الأحفوري والتخلص منه نهائياً بعد فترة محددة من الزمن (phase out)، أي أن المناقشات الطويلة دارت حول كلمتي (down) و (out).
وفي تقديري، فإن هذه السياسة الدولية المتعلقة بالوقود الأحفوري من حيث الاستمرار في استعماله لن تتغير على المدى القريب، وإدمان دول العالم على استخدام الفحم، أو البترول، أو الغاز الطبيعي لن يتوقف قريباً، فالوقود الأحفوري سيظل مرافقاً لكل دول العالم سنوات طويلة قادمة.
والوقائع الحالية تؤكد هذه الرؤية سواء من ناحية تمويل البنك الدولي والشركات الاستثمارية لمشاريع الفحم والنفط والغاز، أو من ناحية الاستمرار في برامج استخراج الوقود الأحفوري من تحت الأرض أو البحر، ومعظم الدول التي أعلنت في السنوات الماضية بأنها ستمتنع عن استخدام الوقود الأحفوري، عادت من جديد في تمويل المشاريع المتعلقة باستخراج الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي.
أما بالنسبة لتمويل البنوك لمشاريع الوقود الأحفوري، فقد كَتبتْ صحيفة «الفايننشال تايمز» المتخصصة في الأمور الاقتصادية في 31 أكتوبر 2023 بأن البنوك أقرضت شركات الوقود الأحفوري أكثر من 150 بليون دولار في عام 2022 للقيام بعمليات وبرامج لها علاقة بنوع من أنواع الوقود الأحفوري من تنقيب، واستخراج، وتكرير، وإنشاء محطات توليد الطاقة.
فعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلنت ألمانيا على لسان وزير شؤون الاقتصاد والمناخ في 10 أغسطس 2023 بأنها ستبدأ من جديد استخراج الفحم من المناجم، وستعمل على إعادة تشغيل ومَدِ عُمر محطات إنتاج الطاقة بالفحم إلى أجل غير مسمى، والتي تم إغلاقها في السنوات السابقة، من أجل تزويد ألمانيا بالطاقة التي تحتاج إليها للاستمرار في مشاريع التنمية وتوليد الكهرباء، أي أن سياسة ألمانيا ودول كثيرة أخرى في التخلص من الوقود الأحفوري (Phase out) والمتمثل في الفحم سيتم تأجيلها إلى سنوات قادمة غير محددة.
وهذه الردة الدولية الجديدة نحو الوقود الأحفوري يعني بأن اجتماع دبي للتغير المناخي لن يتمكن من المساس بمستقبل الوقود الأحفوري، أو وضع حدود، أو سقف زمني للتخلص من هذا النوع من الوقود. وهذا يعني أيضاً بأن ملوثات المناخ ستستمر في الانبعاث من مصادر حرق الوقود الأحفوري، وستزيد نتيجة لذلك سخونة الأرض والتداعيات الأخرى للتغير المناخي إلى مستويات كارثية، حسب ما يؤكد على هذه الحقيقة التقرير المنشور في 20 نوفمبر 2023 من برنامج الأمم المتحدة للبيئة، حيث أفاد بأن سخونة الأرض سترتفع من 2.5 إلى 2.9 درجة مئوية بحلول نهاية القرن (21) فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
ولذلك فسيركز الاجتماع بهدف خفض انبعاث غازات المناخ على تشجيع الدول لاستخدام الوقود النظيف والمتجدد، كلما تيسر ذلك للدول، وكان متاحاً لهم ومتوافراً بكثرة وبأسعار رخيصة، إضافة إلى الجانب المتعلق بتقنيات التخلص من ثاني أكسيد الكربون (carbon capture technologies) قبل انبعاثه إلى الهواء. وعلاوة على ذلك فستَطرح الدول النامية الموضوع المؤجل منذ عقود وهو تمويل الدول الصناعية المتقدمة الغنية لصندوق الخسائر والأضرار، وستكون هناك مفاجأة غير سارة ستطرحها الدول الغنية، وخاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، وهي مطالبة دول الخليج والصين بالمساهمة بحصة كبيرة في هذا الصندوق.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك