أين هو دور المثقفين والكُتّاب والفنانين والمفكّرين العرب، في هذه الجائحة، الإبادة، المحرقة، المذبحة الدموية؟ وخصوصا بعد أن أصبح واضحا أن المشروع الغربي الصهيوني لم يُبقِ أيّ مساحة للتعاطي معه، أو مع مَن يقف خلفه من الدول الساحقة الماحقة؟ أو مع القوى السياسية العربية.
لقد تصدّع دور المثقف العربي، إذ أعتبر الكثيرون أنهم «مستقلّون» أمام ما يجري، ولا علاقة، عضوية، بينهم وبين الأحداث المهولة الجارية! ما يجعل المثقف، بقصد أو بغير قصد، مُسخّراً ومأجوراً للمؤسسة الرسمية، ويؤدّي دوراً تجميليًّا لها! ويترك فراغا جارحا.
والغريب، هذه الأثناء، أن عدداً «مهما» من المثقفين يتماهى ويتبنّى ويقترب، حتى التوحّد، مع مقولات الغرب الاستشراقية والكاذبة والظالمة، بحثا عن فُتات.. ما يجعل هذا المثقف فارغاً، تماماً، من مضمونه، ومغترباً عن جذوره. وقد ظنّ هؤلاء أن اعتراف الثقافة الغربية المهيمنة بهم، سيحقق لهم الحضور! لكنّهم يتناسون أن على المثقف أن يكون ضمير شعبه، والمعبّر عن تطلعات وأحلام أُمّته، لأنه ليس مستقلّا أمام المجزرة، وليس لديه بذخ الحياد، وسيفقد قيمته الأخلاقية، وسيسأله التاريخ. ولا حاجة لنا بوعْيه المعرفي وبمعانيه الثقافية وباقتراحاته الجَمالية.
وللأسف فإن معظم المثقفين والكُتّاب والمفكّرين يدور حول نفسه، وإن امتلكوا وعي المعرفة فإنهم قد استخدموه تحت ظلال الترميز أو المجاز، أو تحت قوس التلطّف، أو في البكاء واللطم، وانهاروا، أمام الموت المخيف، وكانوا موسميين، أو نزقيين، وكتابتهم أقرب لردّة الفعل، والمناسباتية،. وراح كثير يثرثر فوق السطح، دون أن يتمكّن من التقاط الجوهرة العميقة المُشعّة، التي هي وقود المقاتل وعبقرية صموده ودافع تضحياته، أمام أعتى الأسلحة. بمعنى أن المثقفين لم يبحثوا في الجذور التي أقامت هذه الغابة المُقاوِمة، وسط هذا اليباب والتصحّر الاستسلامي، على امتداد الخريطة العربية! ولم يسألوا: كيف لهذا الفلسطينيّ أن يحقق كلّ هذا الثبات؟ وما مكوّنات رباطه وجسارته واندفاعته الأسطورية؟ ما عوامل ذلك؟ أما من «ثقافة» تقف خلف كل ذلك؟ فما هي؟
حتى الدور الثقافي الميداني الشكلاني الشعبوي الجماهيري، للمؤسسات والنقابات الأدبية والفنية والثقافية.. غاب! هل هذا الغياب يؤكد كم هي مُستَلبة، هذه الاتحادات والنقابات والمؤسسات، ويتمّ التلاعب بها؟ فلا مهرجانات ولا ندوات ولا تظاهرات واعتصامات ولا أوبريت أو أناشيد، بل بيان يتيم، خجول، مصقول بالبلاغة، وبضعة مقالات مبذولة، حذرة، بكائية أو عنترية أو وعظية.. والسلام.
ثمة قلّة قليلة من المثقفين مَنْ ظلّ مشاكساً جسوراً لا يوارب، ويواجه ويشير دون وَجل إلى مواطن الخلل والتخلّي.. لكنهم لم يشكّلوا حالة فكرية قادرة على مواجهة تخريب الوعي الجَمْعي المُمنهج، الذي يستخدمه الغرب والاحتلال وأدواتهما، ولم يطوّروا أو يشكّلوا تياراً فكرياً ذا ثقل، يؤسّس لمناعة وطنية تواجه العدميّة القومية، تجعل التساوق مع حالة التعايش مع المحتلّ ودوائر الاستعمار، عملاً مرفوضاً، صعباً بل مستحيلاً. والمحتلّ ليس إسرائيل فحسب، بل كل مَن يساندها وينطق بلسانها ويهيمن على الفضاءات الثقافية العربية.
علينا أن ننتبه، أولاً، بأن الشهداء والجرحى ليسوا أرقاماً مجرّدة، لا تقوى على البقاء، ومسطّحة، ولا نفاذ أو أثر لها! بل لكل منهم قصة وحياة عريضة، وذكريات وبيت وأحلام.. وأن فناءهم هو نفيٌ فاشيّ مبرم لكل ذلك، ولهذا فإننا مطالبون بكتابة قصة كل شهيد بعينه، وكل جريح باسمه الكامل وعنوانه وطريقة إصابته وغدره، إلى أن تفيض الصفحات بالدم والأحلام المقتولة.
إن الضحايا ليسوا رقماً نكرّره بلا معنى.. ونمشي! علينا أن نؤصّل كل مشهد ولحظة وحدث وقصة، بكل التفاصيل، لنراكم الرواية ونجعلها سبيكة صلبة، لتكون وثيقة ودليل إدانة، تفيض بكل السرديات والحكايات، عبر الكاميرا والقلم، حتى نواجه العدميّة ومحو الذاكرة والتحايل على الحقائق وتجاوزها، وحتى يعرف التاريخُ الحقيقةَ الدامغة، كاملة غير منقوصة.
إنني أتمنى على الدارسين اعتماد تسمية «أدب المذابح أو المجازر» لآلاف المجازر، التي ارتكبتها الصهيونية بحقّنا، وما كُتب عنها في تاريخنا المعاصر، مثلما لدينا «أدب السجون» و«أدب المقاومة» و«أدب المنفى».. إلخ، وعلينا أن نُحصي كل حجر هدموه، وكل شلال دم وعرق، وكل صرخة وجنازة وذرة غبار، وكل جرح وحريق، وكل سيارة إسعاف بعثروها بمَن فيها، وكل اغتيال واستهداف مبيت وكل مئذنة طوّحتها الطائرات، وكل موقف وفعل ومبادرة، وكل لحظة ومحرقة، وكل مشفى دمروه،، وكل اسم مولود مات بعد وضعه بساعات،، وكل أيام العتمة وساعات العطش، وسلسة الغارات التي جعلت القطاع محنة ممتدة، لا تنتهي، وكل تصريح مسموم، أو مسيرة تتضامن، أو دولة انحازت للشيطان، أو مسؤول انتصر لفلسطين، وكل إحصائية للضحايا والبيوت وأطنان القنابل المُحرّمة. لا ينبغي أن ننسى، أو يفوتنا شيء،. لنتابع ونكتب ونصوّر ونحفظ، لتعلم الأجيال القادمة حقيقة ما جرى، وطبيعة هذا الوحش الضاري.
باختصار إن ما يجري من إبادة؛ ما هو إلا محاولة صهيونية فاجرة، لإلغاء نتائج الساعة الأولى، مما حدث صبيحة يوم السابع من أكتوبر الماضي. لقد حرّرت غزّةُ العالم. كما فتحت قضايا الظلم في كل القارات. وكلامي عن غزّة لا يحرّرها، لكنّه يحرّرني.
{ رئيس اتحاد الكتّاب الفلسطينيين سابقا
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك