بأي نظر في احتمالات وسيناريوهات ما بعد الحرب على غزة لا يمكن العودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر.
كل شيء سوف يختلف في حسابات وموازين القوى داخل البيت الفلسطيني، أدوار السلطة ومستقبل جماعات المقاومة، برامجها وأوزانها .لا بقاء للسلطة على أحوالها مقبول.. ولا إلغاء المقاومة ممكن.
أيا ما كانت النتائج العسكرية فإن صفحة جديدة سوف تُفتح في التاريخ الفلسطيني.
العالم العربي بدوره سوف تختلف معادلاته بأثر التفاعلات في بنيته المعلنة وغير المعلنة.. والمقاربات الدولية للقضية الفلسطينية قد تنالها تغييرات جوهرية، أقرب إلى الزلازل.
المقدمات تنذر بما هو مقبل، لكنه لن يعلن كامل حقائقه في يوم وليلة فور أن تتوقف آلة الحرب الإسرائيلية عن الإبادة الجماعية لأهالي غزة. التفاعلات العميقة قد تستغرق وقتا يطول أو يقصر قبل أن تأخذ الزلازل السياسية مداها. هذا ما حدث بالضبط بعد جميع مواجهات السلاح على مدى (75) عاما من الصراع العربي الإسرائيلي.
بعد حرب فلسطين الأولى (1948)، التي أفضت إلى النكبة، نكبة فلسطين والعرب، جرت مراجعات غاضبة: لماذا حدث ما حدث؟.. وأين مواضع الخلل في النظم والأفكار والسياسات التي أفضت إلى هزيمة الجيوش العربية؟
لم يخطر ببال أحد أن تفاعلات الغضب سوف تفضي في غضون عشر سنوات فقط إلى انتقال جوهري من اليأس المخيم بعد النكبة إلى الآمال الكبرى عند إعلان الوحدة المصرية السورية (1958)، قبل أن تنكسر وتتراجع ونصل إلى ما نحن فيه.
بأثر صدمة النكبة أعاد الضابط الشاب «جمال عبدالناصر»، رئيس أركان الكتيبة السادسة في حرب فلسطين، فور عودته إلى القاهرة بناء تنظيم الضباط الأحرار من جديد وتشكيل هيئته التأسيسية، التي أطلت على المسرح السياسي الملتهب يوم 23 يوليو (1952).
كانت النكبة أحد الدوافع الرئيسية للتغيير الواسع، الذي امتد إلى المنطقة كلها. فقد جرى أوسع تمرد ثوري على الإرث الاستعماري وقادت مصر عالمها العربي وقارتها الإفريقية والعالم الثالث كله.
لم يكن ذلك متصورا عقب النكبة ولا ممكنا بأي خيال محلق، لكنه ما حدث فعلا.
شاهد العالم كله مأساة غزة رؤية عين، لم يسمع عنها من راوٍ أو مؤرخ. تفاعل وتأثر وتظاهر، وانطوى العالم العربي على جراحه وغضبه وشعوره بالمهانة. وللصور المقبضة تأثيرها العميق في تغيير مسار التاريخ، كما صور التحدي والنهوض.
إثر تأميم قناة السويس (1956) اندفعت الإمبراطوريتان الفرنسية والبريطانية، بمشاركة إسرائيل، إلى احتلال مدن القناة وإلغاء فعل التحرر الوطني. وبصياغة الزعيم الهندي «جواهر لال نهرو» قال: «إنه إلغاء للتاريخ».
في حرب السويس قاتلت مصر لاكتساب حقها الكامل في استقلال قرارها الوطني بدماء مواطنيها. وبأثر نتائجها السياسية أصبحت دولة عظمى في الإقليم وتولت أكبر وأهم الأدوار على مسارح السياسة الإقليمية والدولية . وبعد أقل من عامين نشأت أول وآخر تجربة وحدوية عربية في العصر الحديث، لكنها أجهضت بعد ثلاث سنوات ونصف السنة في سبتمبر (1961) بأخطاء في بنية التجربة والتآمر عليها بنفس الوقت.
كانت القضية الفلسطينية دائما نقطة المركز في ذلك الصراع المحتدم على مصير المنطقة.
في يونيو (1967) كادت الهزيمة المروعة أن تجهض كل أمل في أي مستقبل. استهدفت تلك الحرب إجهاض المشروع التنموي في مصر، كما إجهاض أدوارها التحررية. ولم تعلن مصر استسلامها بإرادة شعبية كاسحة يومي (9) و(10) يونيو. رفضت تنحى «عبدالناصر» ودعته إلى إعادة بناء القوات المسلحة وتصحيح الأسباب التي أفضت إلى الهزيمة.
كانت حرب الاستنزاف بين عامي (1967) و(1970) البروفة الكاملة لحرب أكتوبر (1973)، التي يعود الفضل الأول فيها إلى المقاتل المصري. حارب وضحى من أجل أن يرفع البلد رأسه مجددا، لكن السياسة خذلته بفداحة بانفتاح اقتصادي بدد طاقته الإنتاجية وصلح منفرد همش أدواره في محيطه وعالمه. كان ذلك زلزالا سياسيا مضادا.
الزلازل السياسية قد تضرب في اتجاهات متناقضة. هذا تحد جوهري يطرح نفسه في اليوم التالي للحرب على غزة. لم تكن حرب أكتوبر آخر الحروب، كما دعا وزير الخارجية الأمريكي الأشهر «هنري كيسنجر»، فقد جرت حربان أخريان على الأراضي اللبنانية، الأولى، عام (1982) باجتياح بيروت لطرد منظمة التحرير الفلسطينية خارجها.. والثانية، عام (2006) في الجنوب اللبناني لتحريره من الاحتلال الإسرائيلي. في الحربين ترتبت نتائج سياسية، برزت قوى وتغيرت معادلات واستجدت تحالفات إقليمية.
الحرب على غزة بدورها لن تكون آخر الحروب .فطالما بقي احتلال هناك مقاومة .والحقائق المستجدة سوف تلعب أدوارها في تحديد توجهات اليوم التالي.
سوف ترتفع يقينا نداءات ودعوات التسوية السياسية دون أن يكون هناك أفق يتجاوز أحاديث «السلام مقابل السلام»، أو «سلام القوة»، بصياغات «بنيامين نتنياهو .إنه «سلام بلا أرض» حسب تعبير المفكر الفلسطيني «إدوارد سعيد»، أو «سلام الأوهام» بصياغة الأستاذ «محمد حسنين هيكل».
نفس التعبيرات والصياغات ما زالت صالحة تماما رغم انقضاء أكثر من ثلاثين سنة على إطلاقها بعد اتفاقية «أوسلو».
في حرب غزة ارتفعت معدلات الكراهية بأثر حرب الإبادة والتجويع واقتحام المستشفيات وقتل الأطفال الرضع بمنع أية فرصة علاج يحتاجونها. هذه مسألة يستحيل القفز فوقها بالنسيان والتجهيل.
لأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تكتسب القضية الفلسطينية زخما سياسيا وإنسانيا غير مسبوق بفضل الإعلام البديل وثورة الاتصالات. صدمة الصور الشنيعة استدعت تظاهرات احتجاجية بمئات الآلاف في شوارع العواصم والمدن الكبرى مثل واشنطن ونيويورك ولندن وبرلين وميلان ومدريد وبرشلونة وباريس فضلا عن عديد من العواصم العربية. ولأول مرة تتبدى التداعيات الخطرة المحتملة على مصالح واستراتيجيات الولايات المتحدة من انحيازها المطلق لإسرائيل.
تحركت قوى رفض لسياسة الرئيس «جو بايدن» في أوساط المؤسسات الاستخباراتية والأمنية والخارجية الأمريكية، كما من قطاعات واسعة داخل حزبه الديمقراطي، خاصة الأفارقة الأمريكيين وحركة «أصوات يهودية» وبتعبير صريح لرئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» أمام السفراء الغربيين الذين التقى بهم في ذروة الحرب: «هذه حربكم كما هي حربنا» النور ضد الظلام، والحضارة ضد التوحش.
كانت تلك نظرة عنصرية فاحشة لا ترى في الفلسطينيين سوى «حيوانات بشرية»، كما قال وزير دفاعه، ولا يجدى معهم سوى قصفهم بقنبلة نووية كما أضاف وزير آخر!
«إنه سقوط سياسي وأخلاقي للغرب». كان ذلك تعبيرا مضادا لمفوض السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي «جوزيب بوريل».
رغم التضحيات الهائلة التي بذلت، فإن أهم النتائج السياسية للحرب على غزة إعادة إحياء القضية الفلسطينية كقضية تحرر وطني كما لم يحدث من قبل.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك