أشرت في المقال السابق إلى تأثير أحداث غزة على منظومة الأمن الإقليمي، ويعد هذا المقال استكمالاً لتلك الرؤية وأجد أنه من الضروري الحديث عن ذلك لثلاثة أولها: إن أحداث غزة أكدت مجدداً انتهاء الحدود الفاصلة بين الأمن الإقليمي ونظيره العالمي، وثانيها: إن تلك الأحداث أوضحت كيفية تأثير الأمن الإقليمي على الأمن العالمي وهو أمر أشرت إليه من قبل بأن تشابك القضايا على نحو غير مسبوق قد جعل التأثير متبادلا ولم يعد الأمن الإقليمي يدور في فلك الأمن العالمي على نحو حتمي كما عليه الحال على سبيل المثال إبان حقبة الحرب الباردة والتي اتسمت بتحالفات واصطفافات في هذا المسار أو ذلك، وثالثها: الحديث الذي أثير حول دور منظمة الأمم المتحدة تجاه تسوية الصراعات الدولية.
وتأسيساً على ما سبق توجد عدة تأثيرات للتطورات في غزة ستكون مثار اهتمام دول العالم ما بعد تلك الأزمة ومن بينها ست قضايا يمكن التركيز عليها أولها: بلا شك الحديث عن دور المنظمة الأممية تجاه حل الصراعات، صحيح أن هناك العديد من القرارات التي صدرت ومن بينها تأكيد حقوق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة ولكن المعضلة لا تبدو في القرارات ولكن في التطبيق بل إن إخفاق مجلس الأمن غير ذي مرة في تبني قرارات بشأن غزة يعيد الجدل مجدداً حول مطالب إصلاح المنظمة الأممية بما يؤمن حماية مصالح دول العالم الثالث بداخلها وإن كان ذلك المطلب قد أثير من قبل دون جدوى فلا مناص من تفكير الدول في مسألة الشراكات التي يمكن توظيفها داخل أروقة المنظمة الأممية، بل إن الأثر المباشر لذلك الإخفاق الذي لم يكن الأول من نوعه ابتداءً بقضية سد النهضة ومروراً بقضية الاعتداءات على ناقلات النفط في الخليج العربي في يوليو 2021 وانتهاءً بأحداث غزة هو أن تعثر عمل المنظمات الأممية يفسح الطريق أمام تنظيمات الأمن الإقليمي للاضطلاع بدور فاعل في حل الصراعات الإقليمية وهي التنظيمات التي منحها ميثاق الأمم المتحدة ذلك الدور في الفصل الثامن منه، وثانيها: تأثير الأزمات الإقليمية في الأمن العالمي ومنها ما تردد حول وجود توجهات غربية للطلب من الرئيس الأوكراني للتفاوض مع روسيا في ظل عدم فاعلية الدعم الغربي لتحقيق النصر من ناحية وعدم قدرة الدول الغربية على مواصلة ذلك الدعم من ناحية ثانية، وبغض النظر عن صحة ذلك من عدمه فإنه يعني أن ثمة تشابكاً واضحاً بين الأمن الإقليمي والأمن العالمي وأن للدول الكبرى مصالح أكيدة في تحقيق استقرار منظومة الأمن الإقليمي كضامن لعدم انفجار الصراعات على نحو يهدد مصالحها الحيوية ليس أقلها ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية، وسعي بعض الأطراف الإقليمية لاستغلال ما يمكن أن تراه فراغاً إقليمياً محتملاً، وثالثها: قبل أزمة غزة لوحظ وجود ما يشبه تنافساً عالمياً تجاه منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي عبرت عنه مضامين المبادرات المتتالية للقوى الكبرى منذ عام 2019 وحتى عام 2022 بيد أن نهج تلك القوى خلال الأزمات يبدو مختلفاً فلم تكن هناك مبادرات أو جهود حقيقية لمنع اتساع الصراع أو الاضطلاع بأدوار وساطة وهو ما يثير تساؤلات حول مدى قدرة تلك القوى أو رغبتها أو قدرتها على الانخراط بشكل حقيقي في تسوية تلك الصراعات، أم إن الأمر يتجاوز حدود منطقة الشرق الأوسط في النظرة الاستراتيجية لتلك القوى سواء الدور الذي تتطلع إليه في المنظومة الدولية أو ضمن علاقاتها بالولايات المتحدة الأمريكية، ورابعها: التأثيرات الاقتصادية لتلك الأزمة في الاقتصاد العالمي، صحيح أن العديد من خبراء الاقتصاد أجمعوا على أنها لا تزال محدودة وخاصة لجهة الارتفاع الطفيف في أسعار النفط ولكن في ظل وجود مصالح اقتصادية عديدة للشركات الغربية وكذلك الروسية والصينية في منطقة الشرق الأوسط فإنها تواجه مخاطر تفرض عليها أعباء مالية سوف تمثل تحدياً لعمل تلك الشركات وخاصة أن الأزمة جاءت لتضيف تحديات اقتصادية جديدة على أثر جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا، وتعد تلك التحديات أكثر حدة للدول النامية التي تعتمد بشكل رئيسي على الواردات لتأمين احتياجاتها الغذائية، وخامسها: في ظل التظاهرات التي شهدتها العديد من الدول الغربية خلال أحداث غزة يلاحظ أن هناك تأثيرا واضحا لمنظمات المجتمع المدني على حكومات الدول الغربية وفي تصوري أنه أمر مهم ويمكن استثماره في تبني تلك المنظمات وتفهمها لقضايا المنطقة عموماً وخاصة أنها تؤدي أدواراً مهمة خلال الانتخابات في تلك الدول، وسادسها: نمط الشراكات الإقليمية- الدولية في منطقة الشرق الأوسط والخليج العربي في أعقاب انتهاء تلك الأزمة، فمع التسليم بأن الولايات المتحدة لا تزال تؤدي الدور الرئيسي تجاه أمن الخليج العربي والأمن الإقليمي عموماً فإن تطور علاقات دول المنطقة مع كل من الصين وروسيا أمر لافت ولو كان على الصعد غير العسكرية، ولكن في تقديري أن مسار تلك الشراكات سوف يرتبط على نحو كبير بواقع الأمن الإقليمي بعد الحرب وحسابات المكسب والخسارة وفي الوقت ذاته أولويات كل دولة والتي تتأسس على متطلبات الحفاظ على أمنها القومي والخيارات المتاحة لديها.
ومع أهمية ما سبق وفي ظل محدودية دور المنظمة الأممية تجاه الصراعات كأحد تلك التداعيات وفي الوقت ذاته تغير أولويات بعض المنظمات الدفاعية ومنها حلف الناتو الذي اتخذ الحياد خلال تلك الأزمة ورأى أنه من غير المناسب الانخراط في ذلك الصراع، بالرغم من أن حالة التوتر وعدم الاستقرار الإقليمي تعني تزامن توتر جبهتي الناتو الغربية «أوكرانيا» والجنوبية «الشرق الأوسط» فإن ذلك قد يتيح الفرصة مجدداً لتنويع الشراكات الدولية لدول المنطقة والتي تبقى ضرورية للحفاظ على توازن القوى الإقليمي.
وفي تقديري أن النتيجة الأهم لتلك الأزمة على المستوى العالمي هو أن استراتيجيات الأمن القومي للدول الكبرى والتي أحياناً ما تشير إلى أمن منطقة الشرق الأوسط على استحياء بات عليها أن تضمن تلك المنطقة ضمن تلك الاستراتيجيات مما يعيد تأكيد أن أمن العالم يبدأ من منطقة الشرق الأوسط وينتهي في الوقت ذاته فيها مما يدعو الدول الكبرى للانخراط في تحقيق الأمن والاستقرار في تلك المنطقة من خلال أدوار فاعلة لتسوية الصراعات فيها بغض النظر عن المقترحات المطروحة ولكنها يجب أن تضمن تحقيق الأمن والحفاظ على توازن القوى الإقليمي في ظل مفهوم عولمة الأمن الذي أكدته كل الأزمات سواء الإقليمية أو الدولية والتي تتفاعل مع بعضها البعض تأثراً وتأثيراً لتنهي الحدود الفاصلة بين المستويين.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك