أقال رئيس الوزراء البريطاني، «ريشي سوناك» وزيرة الداخلية «سويلا برافرمان»، وعين مكانها وزير الخارجية «جيمس كليفرلي»، كما اختار رئيس الوزراء السابق «ديفيد كاميرون» وزيرًا للخارجية، وهي الخطوة التي جاءت كرد فعل على اتهامها بتأجيج التوترات خلال أسابيع من التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين والاحتجاجات المضادة في المملكة المتحدة، خصوصا بعد إصرارها على السماح بتنظيم تظاهرة مؤيدة لفلسطين، في «يوم الهدنة»، كما أنها تأتي ضمن التعديلات التي يجريها على فريقه قبل الانتخابات العامة المتوقعة العام المقبل.
ومنذ بداية العدوان الإسرائيلي على غزة نظم المتظاهرون المؤيدون للفلسطينيين مسيرات حاشدة عبر أكبر المدن البريطانية، بما في ذلك «لندن»، و«برمنغهام»، و«مانشستر»، و«جلاسكو»؛ وذلك للتعبير عن تضامنهم مع سكان القطاع المحاصرين، وفزعهم من دعم بلادهم للانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، والمطالبة بوقف الحرب على غزة -والتي أوضحت «منظمة العفو الدولية»، وغيرها من منظمات حقوق الإنسان، أنها تتضمن أدلة واضحة على ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين- حيث انضم إلى تلك المسيرات أكثر من 300 ألف شخص في موكب امتد على طول ثلاثة أميال، فيما وصفتها صحيفة «الجارديان»، بأنها «واحدة من أكبر المظاهرات المؤيدة لفلسطين في التاريخ البريطاني».
وعلى الرغم من أن الغالبية العظمى من هذه الاحتجاجات مرت دون وقوع حوادث، فقد اختارت «سويلا برافرمان»، وزيرة الداخلية، إثارة ما وصفه «سام فرنسيس»، في شبكة «بي بي سي»: بـ«العاصفة السياسية»، ذات الخطاب العدواني المناهض للفلسطينيين، حيث شبهت المتظاهرين بـ«الغوغاء»، وزعمت أنهم يتلقون معاملة أفضل من الشرطة، مقارنة بالجماعات اليمينية المتطرفة. وعبر مقال لها نشرته صحيفة «التايمز»، أثارت التوترات، وذلك بإلقاء اللوم على الشرطة في «لعب التفضيلات»، واتخاذ موقف متساهل تجاه الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين، ما أدى إلى اشتباك المتظاهرين اليمينيين المتطرفين مع الشرطة، وأعقب ذلك، إقالتها من منصبها لتكون المرة الثانية لها خلال عدة سنوات.
وفي مقالها التي نشرته دون موافقة الحكومة، زعمت وزيرة الداخلية -آنذاك- أن «الحركة المؤيدة للفلسطينيين»، قامت «بحشد عشرات الآلاف من المتظاهرين الغاضبين»، الذين تحركت مسيراتهم عبر لندن، وادعت أن المسيرات كانت «محرضة، ليس فقط بسبب العنف»، ولكن أيضًا بسبب «المحتوى المسيء للغاية للهتافات واللافتات والملصقات». وبزعم أن هؤلاء قد «اختبروا» قدرة الشرطة في الحفاظ على النظام العام، وصفت مسيرتهم بأنها «مسيرات الكراهية». وفي مقالها زعمت أنه في حين يُقابل «المحتجون اليمينيون والقوميون الذين ينخرطون في العدوان برد صارم»، فإنه «يتم تجاهل الغوغاء الفلسطينيين الذين يظهرون سلوكًا متطابقًا تقريبًا إلى حد كبير».
وفي حين تجاهلت أفكار ومخاوف المتظاهرين بشأن محنة المدنيين الفلسطينيين المحاصرين بغزة، والذين يقبعون تحت الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي المحتلة؛ ادعت -ومن دون أدلة داعمة- أن المسيرات الماضية والمقبلة في لندن، كانت «تأكيدًا لفرض الهيمنة، خاصة من جانب الإسلاميين»، وزعمت أيضًا، أن بعض المنظمين لديهم «صلات بجماعات إرهابية، بما في ذلك حركة حماس.»
وبالتوازي مع المعارضة القوية للمظاهرات الداعمة للقضية الفلسطينية، تصدرت أيضًا عناوين الأخبار لمحاولتها حظر تنظيم احتجاج في وسط لندن في ذكرى «يوم الهدنة». ووفقًا لـ«راونسلي»، «حاولت إرهاب مفوض شرطة العاصمة لندن من أجل تحقيق ذلك». و«في نظر الكثيرين في حزبها، وخارجه»، فإن وزيرة الداخلية «سعت إلى تقويض الشرطة»، وكذلك «المبادئ الأساسية للمجتمع الحر»، من خلال تقليص الحق في الاحتجاج، وإصدار أوامر للشرطة باتباع توجيهات سياسية.
وعلى الرغم من أن انتقاداتها غير المسؤولة، والتحريضية بشأن المتظاهرين المؤيدين للفلسطينيين في لندن هي ما أدت بشكل مباشر إلى اندلاع اشتباكات بالقرب من النصب التذكاري، بين الشرطة والمتظاهرين اليمينيين؛ أوضح «بيتر ووكر»، في صحيفة «الجارديان»، أن «الدافع الأساسي»، لإقالتها كان «مقالها» -السابق الإشارة إليه- وأوضح أنه كما هو الحال مع جميع المقالات التي كتبها وزراء الحكومة قبل نشرها في وسائل الإعلام الوطنية، تم تقديم مقالها للحكومة للموافقة عليه، ولكن تم تجاهل «التعديلات الجوهرية»، التي طلبها مجلس الوزراء.
من جانبه، أشار «ووكر»، إلى أنه تم إقالتها من الحكومة في أعقاب «أسابيع من الجدل والتي بدت فيها، وكأنها «تتبنى أجندتها السياسية اليمينية المتشددة». وعلى سبيل المثال، أشارت إلى وصول طالبي اللجوء إلى بريطانيا في قوارب صغيرة، عابرين القناة الإنجليزية باعتباره «غزوًا»، كما تلقت سيلًا من الانتقادات عقب اقتراحها قوانين جديدة لتقييد استخدام الخيام من قبل المشردين في بريطانيا، معربة عن اندهاشها من أن الكثيرين يعتبرونها مجرد خيار لأسلوب الحياة، فيما دافعت عن خطة الحكومة لإرسال طالبي اللجوء إلى رواندا.
وتتمتع «برافرمان»، أيضًا بتاريخ حافل في تجاهل تعليمات رؤسائها الحكوميين، حيث قامت «ليز تروس»، سلف «سوناك»، بإقالتها أيضًا من منصب وزيرة الداخلية في أكتوبر 2022، بعد الكشف عن إرسالها معلومات سرية إلى عضو آخر في البرلمان من عنوان بريد إلكتروني خاص بها.
وعليه، أثار سلوك وزيرة الداخلية انتقادات شديدة في الأوساط السياسية البريطانية. ووصف زعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين، المعارض، السير «إد ديفي»، تعليقاتها وأفعالها بأنها «مخزية»، كما شجبت وزيرة الداخلية في حكومة الظل، «إيفيت كوبر»، سلوكها ووصفته بأنه «غير مسؤول إلى حد كبير»، وانتقدها زميلها في الحزب «جوناثان رينولدز»، ووصفها بأنها «خارجة عن السيطرة، ومثيرة للانقسام بصورة يرثى لها»، وأنها «ليست الشخص الذي ينبغي أن يتولى حقيبة الداخلية».
ويُعد دور وزير الداخلية أحد «المناصب الكبرى للدولة» في المملكة المتحدة، إلى جانب رئيس الوزراء، ووزير المالية، ووزير الخارجية. ومن بين الأسماء البارزة في السياسة البريطانية الحديثة التي شغلت هذا المنصب يأتي كل من «دوغلاس هيرد»، و«راب بتلر»، و«كينيث كلارك»، و«جيمس كالاهان»، و«مايكل هاورد»، مع وزراء من حزب المحافظين الأحدث، بما في ذلك «تيريزا ماي»، و«آمبر رود»، و«بريتي باتل».
وباعتباره أحد الأدوار السياسية الأكثر حساسية في بريطانيا، وفي ضوء التوترات الشديدة التي يشعر بها المجتمع جراء الحرب المستعرة في غزة؛ رأى «أندرو راونسلي»، في صحيفة «الأوبزرفر»، أن «وزير الداخلية المسؤول»، يجب أن يكون شخصا «ينتقي كل كلمة بحرص شديد»، على أن «يسعى إلى أن يكون له تأثير مهدئ»، من أجل «الحفاظ على سلمية الشارع»، خاصة بمناسبة ذكرى «يوم الهدنة»، مستشهدا بكيف أن برافرمان «اتخذت خيارا متعمدًا لرفع درجة الاحتقان»؛ من خلال «استفزازات تحريضية متعمدة». وفي مقدمة هذه الأفعال كان الخطاب المناهض للفلسطينيين، وإنكار حق آلاف البريطانيين في إظهار تضامنهم مع المدنيين المحاصرين بغزة.
ومع ذلك، فإن سلوكها يشير إلى فشل أكبر في قمة هرم القيادة السياسية البريطانية، والذي أظهره أيضًا السير «كير ستارمر»، زعيم حزب العمال المعارض، الذي أخفق في التعبير عن الاستياء العام من فشل حكومة «سوناك»، في محاسبة إسرائيل على ما اقترفته من انتهاكات بحق المدنيين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، وإظهار التضامن من أجل حماية حقوق الإنسان للشعوب في جميع أنحاء العالم، وليس فقط في الغرب.
وفي حين أنها كانت أبرز سياسية في بريطانيا عبرت عن ازدرائها للقضية الفلسطينية وحقوق الآلاف من المتظاهرين السلميين في إظهار عدم رضاهم عن سياسات حكومتهم؛ يجب الإشارة إلى النهج الذي اعتمدته السياسة البريطانية بشكل عام من خلال ترددها الواضح في انتقاد الجرائم الذي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وعدم دعوتها إلى وضع حد لمعاناة المدنيين هناك، والمساعدة في إيصال المساعدات الإنسانية التي يشتد حاجة القطاع إليها، حيث افتقرت استجابتها إلى الزعامة الأخلاقية، والسياسية، والدبلوماسية الدولية. وأيد «سوناك»، «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، كما استخدم ممثلها لدى الأمم المتحدة، حق النقض (الفيتو)، وامتنع عن التصويت على قرارات تدعو إلى «وقف إنساني»، وكامل لإطلاق النار.
وعلى وجه الخصوص، أشار السير «كير ستارمر»، في مجلس العموم، إلى أنه مع موقف الحكومة الذي يدعم إسرائيل عبر الزعم بأن لديها «الحق في الدفاع عن نفسها»، موضحا أن الحكومة تحت قيادته لن تنحرف عن هذه المواقف. وعندما سُئل عما إذا كان يعتقد أن قوات الاحتلال الإسرائيلي قد انتهكت القانون الدولي، أجاب بفتور أنه سيكون من «غير الحكمة»، بالنسبة إليه التعليق على هذا الأمر.
وعلى الرغم من كثرة عدد الاستقالات بحكومة الظل الخاصة بـ«ستارمر»، بسبب سياسته تجاه إسرائيل، بما في ذلك استقالة الوزير «عمران حسين»؛ إلا أن زعيم حزب العمال، قاوم أيضًا المطالب المتزايدة داخل الحزب، والتي تدعو إلى دعم اقتراح الحزب الوطني الأسكتلندي، بمطالبة الحكومة «بالانضمام إلى المجتمع الدولي في الضغط على جميع الأطراف للموافقة على وقف فوري لإطلاق النار».
ودعا ما يقرب من 70 نائبًا من حزب العمال إلى وقف إطلاق النار، بما في ذلك 17 من قادة الحزب، بالإضافة إلى أكثر من 250 عضوًا بمجلس حزب العمال في جميع أنحاء البلاد. علاوة على ذلك، لا يزال «ستارمر»، يصر على أن «الهدنة الإنسانية»، هي «الحل الوحيد الموثوق». وعليه، أدانته حركة «مومنتوم» اليسارية ووصفته بأنه «منعزل تماما عن حزبه والجمهور بشكل عام»، في حين تساءل سلفه «جيريمي كوربين»، عما إذا كان معارضو وقف إطلاق النار «سيعيدون النظر والتفكير في تكلفة وحشيتهم»، كما انتقدت «منظمة العفو الدولية»، موقفه «الغامض وغير الواضح»، بشأن محنة المدنيين داخل غزة، واتهمته بالفشل في إظهار «القيادة الواضحة والإنسانية التي تحتاجها هذه الأزمة المستمرة منذ عقود».
على العموم، فإن الفشل الذي تورط فيه حزب المحافظين الحاكم أيضًا جراء الأضرار التي أحدثتها «برافرمان»، كوزيرة للداخلية قبل إقالتها من مجلس الوزراء، يوضح كيف أن أصحاب المناصب الرسمية ذات النفوذ والثقل الكبيرين في مضمار السياسة البريطانية، أصبحوا لا يمتلكون الآن السلطة لممارسة أدوار تتطلب فطنة أو لياقة سياسية لإدارة الأزمات السياسية والاجتماعية، وتخفيف حدة المواقف المتوترة، وتمكين الأدوار الدبلوماسية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك