أظهر العدوان الإسرائيلي على غزة مدى افتقار الدول الغربية في مقدمتها «الولايات المتحدة»، للزعامة الأخلاقية والدبلوماسية والسياسية، فيما يتعلق بكيفية تعاملها مع استخدام العنف المسلح بحق المدنيين. وعلى وجه الخصوص، يتجلى هذا الفشل، في انتهاج «واشنطن»، «سياسة ثابتًة»، بحماية إسرائيل من الإدانة والمساءلة الدوليين، بدلًا من الوفاء بالتزاماتها نحو القانون الدولي.
وتبدو ازدواجية المعايير الأمريكية، والغربية بشكل عام «جلية»، فيما يتعلق بمعاملتها المتباينة للإسرائيليين والفلسطينيين. ففي حين دعت دول المنطقة إلى وقف إطلاق النار الفوري لإنهاء الصراع، وتوفير الإغاثة لملايين المدنيين المحاصرين داخل غزة، فقد أرسلت «واشنطن»، البوارج الحربية والطائرات والجنود لمساعدة إسرائيل وطرحت فكرة «هدنة إنسانية»، من شأنها وقف مؤقت للحرب بشروط إسرائيلية، تفتح الباب أمام جيشها لاستئناف مهمته في تدمير القطاع، ليصبح غير صالح للعيش لمن يتبقى من سكانه.
وفي الوقت الذي تقف فيه أمريكا في طليعة الموقف الغربي المتناقض، يحاول كبار مسؤوليها وقف تصعيد الصراع دبلوماسيًا. وقام وزير خارجيتها «أنتوني بلينكن»، بزيارة الشرق الأوسط ثلاث مرات منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر. ومع ذلك، رأى «باتريك وينتور»، في صحيفة «الجارديان»، أن المساعي الدبلوماسية الأمريكية «يبدو أنها قد تعثرت»، مع عجز بلينكن»، عن إقناع «نتنياهو»، بقبول فكرة «الهدنة الإنسانية» في غزة، وفشله في إرضاء الشركاء الآخرين بالمنطقة، الذين أدانوا بشدة الجرائم التي ترتكبها إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين، وانتقدوا بشكل صريح المواقف الغربية وخاصة الأمريكية.
وفي حين كتب «ديفيد سانجر»، في صحيفة «نيويورك تايمز»، أن «البيت الأبيض»، يواجه «محدودية في النفوذ» على إسرائيل، فإن الواقع يُظهر كيف أن «بايدن»، و«بلينكن»، قد واجها ذلك، منذ توليهما منصبيهما في يناير2021، وأخفقا في محاسبة إسرائيل على انتهاكاتها المستمرة بحق المدنيين الفلسطينيين، وخاصة بعد أن أعادت تأكيد دعمها الكامل للجيش لفرض أي انتقام تريده، وهو أمر يهدم بشكل كبير الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وينال من سمعتها، كونها قد نصبت نفسها الراعية الأولى لعملية السلام والقانون الدولي والعدالة والحرية.
ومنذ بداية العدوان على غزة، حرصت «إدارة بايدن»، على تأطير الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، باعتباره حربا من جانب واحد (حماس)، وانشغلت بتجريم هذه الحركة، وتجاهلت الانتهاكات الإسرائيلية المستمرة، وتناولت الهجوم الذي قام به الفلسطينيون، وكأنه نوبة غير مبررة من عنف وكراهية، وليس مجابهة الاحتلال منذ 55 عامًا، والحصار منذ 16 عاما. وفي السياق ذاته، جرمت المقاومة الفلسطينية، وأبرزت الاحتلال الإسرائيلي على أنه في وضع الضحية، أو المُعتدى عليه، وأن ما تقوم به المقاومة الفلسطينية إرهابًا ضد المدنيين الإسرائيليين، فيما ركز المسؤولون الأمريكيون على ادعاء قتل إسرائيليين، بينما تم تجاهل التقارير التي أثبتت استشهاد الآلاف من الأطفال والنساء والمسنين الفلسطينيين، وتدمير المباني والمساجد والمدارس والمستشفيات والبنى التحتية.
وللتدليل على ذلك، قال «بايدن» في مؤتمر صحفي من إسرائيل بعد عملية طوفان الأقصى: «لو لم تكن هناك إسرائيل لكان على الولايات المتحدة أن تخلقها لحماية مصالحنا في المنطقة، وسنستمر في دعمها». وأثناء عمله نائبا للرئيس الأمريكي الأسبق، باراك أوباما، صرح بأنه «ليس عليك أن تكون يهوديا لكي تكون صهيونيا.. أنا صهيوني.. وإذا كنتُ يهوديا فسأكون صهيونيا». وأثناء زيارته لإسرائيل، بعد أحداث غزة قال «بلينكن»: «أنا ممتن لأن أكون هنا في إسرائيل.. أتحدث بشكل شخصي، وأتيت كيهودي»، مكررا المزاعم الإسرائيلية بأن «حماس» ذبحت الأطفال وحرقتهم»، وهي التصريحات التي تعكس الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل والالتزام التاريخي بحمايتها، كهدف محوري لواشنطن على اختلاف إداراتها، والذي ظهر في تغاضيها عما ترتكبه من جرائم ومذبح بحق المدنيين الفلسطينيين، وحجم الكلفة البشرية والإنسانية في غزة.
ومع استمرار الحرب، أكدت موقفها المتمثل في أن لإسرائيل «الحق في الدفاع عن نفسها». وعلى رغم أنها أضافت في الأسابيع التي تلت ذلك شرطًا بأن يكون ذلك متوافقًا مع القانون الدولي فيما يتعلق بحماية المدنيين، وحقوق الإنسان؛ بيد أن الواقع على الأرض، أظهر قيام قوات الاحتلال بشن حملة من القصف المتواصل والغزو البري، باعتراف وقبول ودعم من القادة الغربيين، أبرزهم «جو بايدن»، و«سوناك»، و«ماكرون»، و«شولتس».
ومع ارتفاع أرقام الضحايا في غزة، و(استشهاد ما يربو على 11300 شخص، منهم أكثر من 4500 طفل)، وإعلان الأمم المتحدة عن كارثة إنسانية، ونزوح 70% من سكان القطاع، بسبب محاولات قوات الاحتلال قطع أوصاله، وعزل غزة، والمدنيين المتبقين فيها؛ فشلت «الولايات المتحدة»، وحلفاؤها بريطانيا وفرنسا وألمانيا في إظهار القيادة الأخلاقية لبقية العالم، وأظهرت «تقصيرًا واضحًا»، في واجبها الدولي المتمثل في منع الصراعات وتخفيف المعاناة عن المدنيين.
وفي منتصف أكتوبر، استخدمت حق النقض (الفيتو)، ضد مشروع قرار في مجلس الأمن، يدعو إلى (هُدنة إنسانية)، وإنشاء منطقة آمنة لتوصيل المساعدات، وتم ذلك بالتزامن مع رفضها إدانة انتهاكات إسرائيل، وعدم الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وأصرّت مُمثلتها في الأمم المتحدة «ليندا غرينفيلد»، على أنه بما أن القرار الأُممي لم يُشِر إلى حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، فإن «إدارة بايدن» لن تدعمه.
وبالمقارنة مع الحرب الأوكرانية، ففي حين قدّمت «واشنطن»، ومعها العواصم الأوروبية؛ السلاح الوفير للأوكرانيين لتنظيم دفاعهم عن أرضهم، وأمدّتهم بالمساعدات المالية والاقتصادية، وفتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين، وأدانت روسيا بزعم استهداف المدنيين، بما في ذلك تبني قرارات الأمم المتحدة ضدها، ودعمت قرار «المحكمة الجنائية الدولية»، بإصدار مذكرة اعتقال، بحق «بوتين»؛ فقد استخدمت «الولايات المتحدة»، حق النقض (الفيتو)، ضد قرار يدعو إلى وقف إطلاق النار في غزة من قبل إسرائيل.
وفي مؤتمر صحفي عُقد بالبيت الأبيض يوم 25 أكتوبر، ردد «بايدن»، المزاعم الإسرائيلية أن «حماس» تختبئ وراء المدنيين، وبدلًا من التعبير عن ذعره، إزاء معاناة هؤلاء المدنيين وما حل بهم، تحدث عن تعاطفه لما يعنيه هذا الواقع من (عبء إضافي على إسرائيل)، ورغم علم المسؤولين الغربيين أن الحرب البرية على غزة التي بدأت يوم 28/10 تحصد المئات كل يوم من الشهداء إضافةً إلى سقوط الآلاف من الجرحى والمصابين مُنذ 7/10، فقد أيدوها ودعموها، وأكّد «بايدن»، أنه لم يطلب من «نتنياهو»، تأجيل أو إلغاء الغزو المخطط له، باعتبار أن (هذا هو قرارهم)، وهذا يجافي الحقيقة.
وبينما يبحث آلاف المدنيين الفلسطينيين المحاصرين في غزة عن مأوى من الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة والغزو البري، وبدلاً من الانضمام إلى الدعوات الدولية لوقف إطلاق النار؛ حاولت «إدارة بايدن»، وحلفاؤها الغربيون الدفع بفكرة «الهدنة الإنسانية»، مع محاولة «بلينكن»، تبرير موقفه باعتبار أن وقفًا كاملاً لإطلاق النار «من شأنه أن يترك حماس في مكانها»، ويمنحها القدرة على «إعادة تجميع صفوفها وتكرار ما فعلته».
من جانبه، أوضح «ريتشارد ستانفورث»، من «منظمة أوكسفام»، أنه «لا توجد قوانين محددة تحكم الممرات الإنسانية، أو المناطق الآمنة»، مشيرا إلى أن القانون الدولي ينص على أنه لا ينبغي أن تكون هناك حاجة لإنشاء مثل هذه الممرات، حيث يجب على إسرائيل أن تتخذ جميع الاحتياطات اللازمة لتجنب الأهداف المدنية، مما يشير إلى أن إصرار الغرب على «الهدنة الإنسانية»، هو اعتراف منها باستهداف إسرائيل للمدنيين في غزة، بما يتعارض مع القانون الدولي.
وعلى الرغم من الإخفاقات الواضحة في الجوانب العملية لـ «الهدنة الإنسانية»، وكيف أن «هدنًة مؤقتًة»، بدلاً من وقف إطلاق النار الدائم، من شأنه مساعدة إسرائيل على إحكام قبضتها على غزة، والاستعداد لحملة أخرى من الهجمات الجوية والبرية والبحرية ضد المناطق المكتظة بالسكان، لا يزال «بلينكن»، يروج لها في المنطقة. ومع اهتمامه، بما شبهته «ألكسندرا شارب»، في مجلة «فورين بوليسي»، بـمسار «الدبلوماسية المكوكية، التي استخدمها «هنري كيسنجر» خلال حرب عام 1973، فقد فشل في إقناع دول المنطقة بدور بلاده، وأهمية التقدم نحو السلام، وحماية حقوق الإنسان والقانون الدولي، وبات الولاء الكامل لإدارة بايدن، إزاء حماية إسرائيل من المساءلة الدولية، «سمة بارزة»، لهذه العملية الدبلوماسية.
وبعد الجولة الثانية التي قام بها إلى المنطقة، خلص «وينتور»، إلى أنه «لم يحرز أي تقدم»، سواء فيما يتعلق بإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة، أو حتى تلبية مطلب دول الغرب بعودة الرهائن الإسرائيليين. كما أن هناك دليلاً واضحًا على أن «واشنطن»، باتت تفقد بسرعة الثقة الضئيلة التي تركتها لدى قادة المنطقة، وهو ما يتضح من عدم استقبال الرئيس التركي «أردوغان»، لبلينكن، بسبب «الدعم غير المحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة إلى إسرائيل».
وفي حين أوضحت «شارب»، أن الجولة الأخيرة من مناقشاته مع الحكومات الإقليمية بالمنطقة، تركزت على (حماية المدنيين الفلسطينيين، وتعزيز تدفقات المساعدات، وزيادة عدد المواطنين الأجانب المسموح لهم بمغادرة غزة)، إلا أنه لا يمكن أن نغفل كيف أن هذه هي النقاط التي يجب على الدبلوماسيين الأمريكيين إثارتها مع الإسرائيليين مباشرة، ومحاسبة حليفهم بشكل مباشر بشأنها.
علاوة على ذلك، فإن اعتماد وزير الخارجية الأمريكي على الحكومات العربية في المنطقة يشير أيضًا إلى مدى تقلص قدراته على التأثير على الإسرائيليين إلى الحد الذي تبدو فيه حكومة نتنياهو راضية بتجاهل شروط والمطالب الأمريكية عمدًا. وأشار «سانجر»، إلى كيف رفض «نتنياهو»، أي التزام من الجانب الإسرائيلي، وبدلاً من ذلك، أصر على أن حكومته سوف تنفذ «انتقامًا كاسحًا» ضد القطاع.
وبهذا المعني، اعترف «سيث مولتون»، عضو الكونجرس الأمريكي، بوجود «تاريخ طويل من إدراك رؤساء الولايات المتحدة أنهم لا يملكون قدرًا كبيرًا من النفوذ على إسرائيل كما كانوا يعتقدون». وأشار «سانجر»، إلى أن «بايدن»، «فوجئ في لقاءاته الخاصة بعدم رغبة نتنياهو في التراجع عن الهجمات على المناطق ذات الكثافة السكنية. ومع ذلك، فإن افتقاد النفوذ الأمريكي ضد إسرائيل لا يبرر فشلها الذريع في لفت الانتباه إلى الانتهاكات الإسرائيلية ضد المدنيين الفلسطينيين، وإدانة القصف المتعمد للمناطق المكتظة سكانيًا، وهو ما أدى إلى مقتل آلاف المدنيين وإصابة وتشريد مئات الآلاف الآخرين.
ولم تفشل «واشنطن»، في ذلك فحسب، بل أمدت إسرائيل بدعم مادي وعسكري بمليارات الدولارات، وأرسلت أكبر حاملة طائرات «جيرالد فورد»، وأتبعتها بحاملة أخرى «ايزنهاور»، فضلا عن مستشارين أمنيين وعسكريين. وعلى الرغم من أن «بلينكن»، قد صرح بأنه يتفهم «حجم القلق العميق»، بشأن «الخسائر الفادحة التي يتحملها الفلسطينيون»، نتيجة لهذا الصراع، فإن تجاهل بلاده للخسائر الفادحة في صفوف المدنيين، يعكس بدلًا من ذلك، قبولا بهذا العدد من الضحايا، كإجراء تنفذه إسرائيل لتحقيق أهدافها العسكرية.
ومن المعلوم، أن العديد من الأسلحة المستخدمة ضد المدنيين الفلسطينيين مصدرها «الولايات المتحدة»، كجزء من التمويل الذي يقدمه «البيت الأبيض»، لإسرائيل سنويًا، والبالغ 3,8 مليارات دولار. ورغم أن نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي، «جون فاينر»، أصر على أن إمداد «واشنطن»، بالأسلحة والصواريخ لإسرائيل يأتي ضمن ضرورة توفر كافة التطمينات والضمانات المتعلقة بـ«قانون النزاعات المسلحة»، وأن هناك مخاوف تثار مع الدول التي تستخدمها، إلا أن صحيفة «نيويورك تايمز»، أوضحت أن إسرائيل تستخدم منذ بداية الحرب على غزة «قنابل موجهة زنة 1000، و2000 رطل، وهي من أكبر القنابل التي قد يتم اللجوء إليها في أي ترسانة عسكرية»، ضد المناطق الحضرية في غزة، على الرغم من أنه «لم يكن من المتصور على الإطلاق استخدامها في منطقة كثيفة السكان».
وبدلاً من انتقاد إسرائيل لاستخدام مثل هذه الذخائر ضد المدنيين، كما فعلت «واشنطن»، مع موسكو عام 2022، فقد ذكرت «الصحيفة»، أن «الخارجية الأمريكية»، وافقت على طلب بقيمة 320 مليون دولار من إسرائيل لشراء ذخائر وقنابل دقيقة جديدة موجهة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS).
على العموم، مع إخفاق «الولايات المتحدة»، في التعامل مع ما يحدث من جرائم في غزة، ومعالجة المعاناة الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين، يبدو أن نظرتها لنفسها باعتبارها الراعية الأولى لحقوق الإنسان، والحرية، والقانون الدولي، لا تتناسب مع واقعها، باعتبارها مؤيدة لحكومة وجيش يقومان بالتدمير المنهجي والفصل العنصري لشعب أعزل تعرض لحصار دام 16 عاما. وعليه، فقد باتت بفعل تلك التصرفات، تفتقد لصفة الوسيط النزيه، وتضاءلت الثقة الدولية فيها إلى الحد الذي باتت معه (مُنعدمة).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك