بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على دخول قضية التغير المناخي في جدول الأعمال الأممي، مازال العالم يدور في حلقة مفرغة لا يستطيع الخروج منها، ولا يتمكن من أن يتخذ القرارات الحاسمة والإجراءات الدامغة التي تستطيع بشكلٍ جماعي مشترك من مواجهة وعلاج هذه المعضلة الشائكة والمهددة لاستدامة عطاء كوكبنا، وبقاء الحياة عليه، فتارة يتقدم خطوة إلى الأمام، وتارة أخرى يتأخر مائة خطوة، بل ويرجع إلى نقطة الصفر.
ففي عام 1992، في قمة الأرض التاريخية التي عُقدت في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية، وقعتْ معظم دول العالم على اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية حول التغير المناخي، وكان هذا التوقيع والاجماع الدولي تمهيداً لعمل المجتمع الدولي لتطوير معاهدة دولية ملزمة تقوم من خلالها دول العالم بوضع حدود وأهداف واضحة لخفض انبعاثاتها من الغازات المتهمة بحدوث التغير المناخي وارتفاع سخونة الأرض، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون، إضافة إلى وضع آلية، أو صندوق خاص بالمناخ يُمول من الدول الصناعية المتقدمة والغنية المسؤولة تاريخياً عن وقوع التغير المناخي، وذلك من أجل مساعدة الدول النامية والفقيرة المتضررة والمنكوبة على مواجهة هذه التداعيات المناخية، ودعمها مالياً وتقنياً على التأقلم والتكيف مع تداعيات التغير المناخي كارتفاع مستوى سطح البحر، ووقوع الكوارث المناخية المتمثلة في الفيضانات، والأعاصير، وحرائق الغابات، والجفاف والتصحر.
فقد جاء اجتماع الدول الأطراف الأول، كوب 1(COP 1) لتطوير معاهدة دولية مشتركة والتفاوض عليها في برلين بألمانيا في 1995، حيث توصلوا بعد عامين في كيوتو باليابان في عام 1997 على بروتوكول «كيوتو» الذي وضع أهدافاً وحدوداً للانبعاث للدول الصناعية المتطورة والمتقدمة بحيث تُخفض هذه الدول الانبعاثات من الغازات الملوثة بنسبة 5% من مجموع الانبعاثات بحلول عام 2012. ولكن هذا البروتوكول لم يكن جامعاً وشاملاً، فقد استثنى الدول النامية بما فيها الصين من هذا الالتزام والتعهد بخفض الانبعاث. وكانت النتيجة أن هذا البروتوكول لم ير النور من حيث شمولية التنفيذ، فلم تطبق الكثير من الدول هذا البروتوكول، ولم تلتزم ببنوده، بل وإن الدولة التي تعد تاريخياً المتهمة برفع سخونة الأرض، والتي تنبعث منها النسبة الأعلى من ملوثات المناخ وهي الولايات المتحدة الأمريكية لم تُصادق عليه، مما قل من قيمته على المستوى الميداني والتشريعي، فاضطر المجتمع الدولي من جديد إلى البحث عن معاهدة أخرى تشمل جميع دول العالم وتكون ملزمة. وعلاوة على ذلك فإن الدول الصناعية الغنية والثرية لم تف بالتزاماتها المالية التي تعهدت بها للمساهمة في صندوق المناخ الداعم للدول النامية الفقيرة التي لا ناقة لها ولا جمل في وقوع الكوارث المناخية وسخونة الأرض.
وبعد اجتماعات سنوية فاشلة استمرت 18 عاماً، توصلت دول العالم في اجتماع باريس عام 2015 إلى تفاهمات ضعيفة طوعية وغير ملزمة لأحد، بحيث تقوم كل دولة حسب ظروفها، وإمكاناتها، إلى وضع أهداف وحدود تُخفض فيها من مستوى الملوثات التي تنبعث منها، وتقوم بوضع خطة وطنية تتضمن هذه الأهداف والحدود وكيفية بلوغها، وأُطلق عليها «المساهمات القومية المحددة» (Nationally Determined Contributions, NDCs). وكان الهدف من ذلك هو منع ارتفاع درجة حرارة الأرض أكثر من درجتين من مستويات ما قبل الثورة الصناعية، علماً بأن درجة حرارة الأرض حسب التقديرات العلمية ارتفعت قرابة 1.1 إلى 1.8 درجة مئوية.
ولكن هذه الخطوة البسيطة لإنقاذ كوكبنا من شرور سخونتها أيضاً لم تنفذ ولم تر النور لسببين رئيسين. أما الأول فإن كثيرا من الدول، وبخاصة التي لها الدور الكبير في وقوع التغير المناخي وارتفاع انبعاثاتها لم تقدم أية خطط وطنية، ولم تخفض من نسبة انبعاثاتها، وثانياً فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعد الأولى من ناحية التلوث المناخي على المستوى الدولي فقد انسحبت من هذه التفاهمات في عهد الرئيس السابق ترامب، ما يعني أن أهداف التفاهمات المعنية بعدم رفع درجة حرارة الأرض لن تتحقق ميدانياً، بل وإن تقارير الهيئة شبه الحكومية حول التغير المناخي قدَّرت بأن الأرض تسير نحو ارتفاع حرارتها قرابة 3 درجات مئوية فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
ومن جانب آخر فإن دول العالم فشلت أيضاً في تفعيل صندوق المناخ طوال العقود الماضية منذ قمة الأرض في 1992، وبالتحديد من ناحية مساهمة الدول الصناعية المتقدمة في تمويل الصندوق حسب الاتفاقيات التي تمت في الاجتماعات. ولذلك تم إحياء موضوع الصندوق من جديد، وبالتحديد في اجتماع شرم الشيخ (كوب 27) الذي أَطلق موضوع الصندوق تحت مسمى جديد هو «الخسائر والأضرار» (Loss and Damage)، وشكَّل لجنة انتقالية لوضع تفاصيل الصندوق، ومن بينها الدولة التي ستستضيف هذا الصندوق، وهل سيتم تعويض الدول الفقيرة المتضررة، وما الدول التي ستستحق التعويض، ومن الذي سيسهم وما النسبة، وهل هذه المساعدات تكون على شكل منح أم قروض، علماً بأن هذه اللجنة حتى الآن لم تصل إلى أية توصيات محددة بالإجماع، ولذلك سيتحول الموضوع برمته إلى اجتماع دبي، أو كوب 28 في 30 نوفمبر.
ولكن هناك تطورات على الساحة الدولية قرأتُ عنها مؤخراً حول الدول التي ستسهم في الصندوق، حيث إن المفهوم السابق المستمر لأكثر من ثلاثين عاماً كان يصب في أن الدول الصناعية الثرية المسؤولة عن وقوع ظاهرة التغير المناخي هي التي ستتحمل العبء الأكبر من ميزانية الصندوق، فهي مسؤولة أخلاقياً أمام العالم، وبالتحديد أمام الدول الفقيرة والنامية المتضررة كثيراً من الكوارث المناخية، والتي لم تلعب هي أي دور تاريخي في تلويث الأرض ورفع حرارة كوكبنا ووقوع هذه الكوارث.
فقد نَشرتْ وكالة «بلومبيرج» خبراً في 11 نوفمبر 2023 تحت عنوان: «الاتحاد الأوروبي سيطلب من الإمارات مستضيفة الاجتماع (24) أن تدفع لصندوق الأضرار والخسائر». وهذا الخبر يشير إلى انكشاف تغير في السياسات المتعلقة بالإسهام في الصندوق، وأن الاتحاد الأوروبي ومعه الولايات المتحدة الأمريكية ينويان مطالبة الإمارات وباقي دول الخليج بتمويل هذا الصندوق، وتخفيف العبء المالي عليهم، إضافة إلى طلبهم بوجود مرونة لمساهماتهم بحيث تكون طوعية وغير إلزامية. وهذا يؤكد أن الدول الغربية الصناعية التي عاثت في بيئتنا فساداً لأكثر من قرنين تُخطط الآن للتنصل من تعهداتها وواجباتها، والتخلي عن تحمل مسؤولية إفسادها لبيئة كوكبنا، والهروب من التزاماتها المالية التي اتخذتها في الاجتماعات السابقة.
ولذلك أتوقع أن الدول الصناعية الغربية ستنزل بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ لمطالبة دول الخليج على تحمل حصة الأسد في هذا الصندوق، مما يؤكد الحاجة إلى التنسيق في المواقف بين دول الخليج من جهة والدول الأخرى المعنية كالصين من جهة أخرى، ونبذ المجاملة والملاطفة مع هذه الدول التي لا ترقُب فينا إلا ولا ذمة، وليس لها أي عهد ولا التزام سوى تحقيق مصالحها.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك