لقد غيرت غزة المعادلة السياسية في فلسطين.
علاوة على ذلك، من المرجح أن تؤدي تداعيات هذه الحرب المدمرة إلى تغيير المعادلة السياسية في الشرق الأوسط برمته، وإعادة مركزة فلسطين باعتبارها الأزمة السياسية الأكثر إلحاحا في العالم لسنوات قادمة.
منذ قيام إسرائيل، بتيسير من بريطانيا وبحماية من الولايات المتحدة ودول غربية أخرى، كانت الأولويات إسرائيلية بالكامل.
«الأمن الإسرائيلي»، و«التفوق العسكري» لإسرائيل، و«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وغيرها الكثير، هي التي حددت الخطاب السياسي الغربي حول الاحتلال الإسرائيلي والفصل العنصري في فلسطين.
إن هذا الفهم الأمريكي الغربي الغريب لما يسمى الصراع، والذي ينص على أن الظالم لديه «حقوق» على المضطهدين، قد مكن إسرائيل من الحفاظ على احتلالها العسكري للأراضي الفلسطينية والذي استمر أكثر من 56 عامًا.
كما أنها مكّنت إسرائيل من إهمال جذور هذا «الصراع»، أي التطهير العرقي لفلسطين في عام 1948، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين الذي حرموا منه فترة طويلة.
وفي هذا السياق، تم رفض كل مبادرة فلسطينية عربية للسلام، حتى أن «عملية السلام» المفترضة، أي اتفاقيات أوسلو، تحولت إلى فرصة لتل أبيب لترسيخ احتلالها العسكري، وتوسيع مستوطناتها، وحصار الفلسطينيين في بانتوستان. مثل المساحات المهينة والفصل العنصري.
لقد اصطف بعض الفلسطينيين، سواء أغرتهم الهبات الأمريكية أو حطمهم شعورهم بالهزيمة، لتلقي ثمار السلام الأمريكي الإسرائيلي ـ من الفتات المثير للشفقة ومن الهيبة الزائفة، والألقاب الفارغة، والسلطة المحدودة، التي منحتها إسرائيل نفسها والتي أفرغتها من كل محتوى.
ومع ذلك، فإن الحرب الإسرائيلية على غزة بدأت بالفعل في تغيير الكثير من هذا الوضع الراهن المؤلم.
إن تأكيد إسرائيل المستمر أن حربها القاتلة هي ضد حماس، وضد «الإرهاب»، وضد الأصولية الإسلامية، وكل ما عدا ذلك، ربما يكون قد أقنع أولئك الذين هم على استعداد لقبول الرواية الإسرائيلية للأحداث في ظاهرها.
ولكن مع تراكم جثث الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، والآلاف منهم من الأطفال، في مشارح مستشفيات غزة، وفي الشوارع بشكل مأساوي، بدأت الرواية تتغير.
إن جثث الأطفال الفلسطينيين المسحوقة، وعائلات بأكملها لقيت حتفها معًا، تقف شاهدة على وحشية إسرائيل، وعلى الدعم غير الأخلاقي من حلفائها، وعلى وحشية النظام الدولي الذي يكافئ القاتل ويوبخ الضحية.
من بين جميع التصريحات المتحيزة التي أدلى بها الرئيس الأمريكي جو بايدن، ربما كان التصريح الذي أشار فيه إلى أن الفلسطينيين يكذبون بشأن إحصاء قتلاهم هو الأكثر لا إنسانية.
ربما لم تدرك واشنطن ذلك بعد، لكن تداعيات دعمها غير المشروط لإسرائيل ستكون كارثية في المستقبل، وخاصة في منطقة سئمت الحرب والهيمنة والمعايير المزدوجة والانقسامات الطائفية والصراع الذي لا نهاية له.
لكن التأثير الأكبر سيكون محسوسا في إسرائيل نفسها.
عندما ألقى السفير الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، رياض منصور، خطاباً عاطفياً قوياً في 26 أكتوبر، لم يستطع حبس دموعه. صفقت الوفود الدولية في الجمعية العامة للأمم المتحدة دون توقف، مما يعكس الدعم المتزايد لفلسطين، ليس فقط في الأمم المتحدة، ولكن في مئات المدن والبلدات، وفي زوايا لا حصر لها من الشوارع حول العالم.
عندما ألقى سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، جلعاد إردان، الذي كان رأس الحربة في الكثير من الأكاذيب التي نشرتها تل أبيب، خاصة في الأيام الأولى للحرب، كلمته، لم يصفق أحد.
ومن الواضح أن الرواية الإسرائيلية قد انهارت، وتحطمت إلى ألف قطعة. والواقع أن إسرائيل لم تكن معزولة إلى هذا الحد من قبل. وهذا بالتأكيد ليس «الشرق الأوسط الجديد» الذي تنبأ به نتنياهو في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر.
وبسبب عجزها عن فهم كيف تحول التعاطف الأولي مع إسرائيل بسرعة إلى ازدراء صريح، لجأت إسرائيل إلى التكتيكات القديمة.
وفي يوم 25 أكتوبر 2023م، طالب إردان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بالاستقالة لأنه «غير مؤهل لقيادة الأمم المتحدة». إن جريمة غوتيريش التي يفترض أنها لا تغتفر تشير إلى أن «هجمات حماس لم تحدث من فراغ».
وفيما يتعلق بإسرائيل والمحسنين الأمريكيين، فلا يجوز لأي سياق أن يلوث الصورة المثالية التي خلقتها إسرائيل للإبادة الجماعية التي ترتكبها في غزة.
في هذا العالم الإسرائيلي المثالي، لا يجوز لأحد أن يتحدث عن الاحتلال العسكري، أو الحصار، أو غياب الأفق السياسي، أو غياب السلام العادل للفلسطينيين.
وعلى الرغم من أن منظمة العفو الدولية قالت في بيانها إن كلا الجانبين ارتكبا «انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي، بما في ذلك جرائم حرب»، إلا أن إسرائيل مازالت تهاجمها، متهمة هذه المنظمة بأنها «معادية للسامية».
لأنه، في تفكير إسرائيل، لا يُسمح حتى لجماعة حقوق الإنسان الدولية الرائدة في العالم بوضع الفظائع في غزة في سياقها أو التجرؤ على الإشارة إلى أن أحد «الأسباب الجذرية» للصراع هو «نظام الفصل العنصري الإسرائيلي المفروض على جميع الفلسطينيين».
ولم تعد إسرائيل تتمتع بالقوة المطلقة، كما تريدنا أن نعتقد. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن «جيش إسرائيل الذي لا يقهر» - وهي العلامة التجارية التي سمحت لإسرائيل بأن تصبح، اعتبارا من عام 2022، عاشر أكبر مصدر عسكري دولي في العالم - تحول إلى نمر من ورق.
هذا هو فعلا أكثر ما يثير غضب إسرائيل. وقال عضو الكنيست السابق، موشيه فيجلين، في مقابلة مع صحيفة «آروتس شيفا-إسرائيل ناشيونال نيوز»: «لم يعد المسلمون خائفين منا». ولاستعادة هذا الخوف، دعا السياسي الإسرائيلي المتطرف إلى حرق «غزة إلى رماد فورا».
لكن لا شيء سيحول غزة إلى رماد، حتى لو كان أكثر من 12 ألف طن من المتفجرات التي أسقطت على القطاع في الأسبوعين الأولين من الحرب قد أحرقت بالفعل ما لا يقل عن 45% من الوحدات السكنية في القطاع، وفقا لمكتب الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة.
إن غزة لن تموت لأنها فكرة قوية راسخة في قلوب وعقول كل عربي ومسلم وملايين البشر حول العالم.
تتحدى هذه الفكرة الجديدة الاعتقاد السائد منذ فترة طويلة بأن العالم يحتاج إلى تلبية أولويات إسرائيل وأمنها وتعريفاتها الأنانية للسلام وجميع الأوهام الأخرى.
وينبغي للمناقشة الآن أن تعود إلى حيث كان ينبغي لها أن تكون دائماً: أولويات المضطهَدين، أي الفلسطينيين، وليس المضطهِدين، أي المحتلين الإسرائيليين.
لقد حان الوقت أن نتحدث عن الحقوق الفلسطينية والأمن الفلسطيني وحق الشعب الفلسطيني، بل واجبه، في الدفاع عن نفسه.
لقد حان الوقت لكي نتحدث عن العدالة –العدالة الحقيقية – التي تكون نتيجتها غير قابلة للتفاوض: المساواة، الحقوق السياسية الكاملة، الحرية وحق العودة.
لقد علمتنا غزة كل هذا وأكثر من ذلك بكثير. لقد حان الوقت الآن لكي نستمع إلى ما تقوله غزة.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك