في 7 أكتوبر قامت حركة حماس بعملية عسكرية أشعلت بها المنطقة والعالم وأبرزت نقاط ضعف كبيرة في استعدادات النظام الصهيوني كما أثرت في مواقف الدول والمجتمعات العربية. وفي حسابات الربح والخسارة لهذه العملية فإن هناك بعض الآراء تقول إن حماس جانبها الصواب في حساباتها وإن الثمن الذي يدفعه الشعب الفلسطيني كبير مقارنة بالمكاسب. هذا الرأي ينطلق من زاوية إنسانية متأثرا بفداحة الطيش الصهيوني والعدوان الكبير الذي تشنه على قطاع غزة والذي يستهدف القضاء على أي نوع من المقاومة في غزة. غير أن ما دفع حماس إلى هذا التحرك، كما يبدو، حسابها بأن القضية الفلسطينية في طريقها نحو التصفية وأن الصهيونية العالمية ورأس حربتها وداعميها يسعون إلى دفع الفلسطينيين للقبول بالأمر الواقع والرضوخ تحت الاحتلال وترك القيادة الصهيونية تخطط للتوسع في قضم المزيد من الأراضي الفلسطينية وصولا إلى «إسرائيل الكبرى».
اليوم وبعد كل ما حدث هل يمكن العودة إلى ما قبل 7 أكتوبر على المستوى الرسمي والاستمرار في التعامل مع القضية على أنها قضية فلسطينية بحته تُختزل في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، أم إن التوجه العربي يدرك ضرورة التعامل معها على أنها قضية أمنية تخص وجود الدول العربية فرادا ومجتمعين وإن الكيان الصهيوني ومن يقف خلفه من دول ومنظمات ليس لديه أدنى نية بقبول هذا الحل وإنها تسعى إلى ما هو أبعد من ذلك؟
هذا ما خلصت إليه حماس وأقدمت على هذه العملية لتوصيل هذه الرسالة إلى الأمة وإلى العالم، وقد نجحت في ذلك ضمن أهداف محددة نحو إقامة دولة فلسطينية وتحرير الأقصى. السؤال الذي ينبغي طرحه الآن هو ما الاستراتيجية التي سوف تنتهجها الأمة في مواجهة هذا التحدي الوجودي. كيف ستدير هذه المعركة الكبرى وما الفرص التي أتاحتها هذه الجولة من الصراع؟ هل هناك مكاسب تحتاج إلى استثمار؟ وإخفاقات تتطلب المعالجة؟
من أهم المكاسب التي تحققت في هذه الحرب الغاشمة على غزة، والذي هو بحق انتصار للقضية الفلسطينية، هو أن شعوب العالم أدركت حقيقة الصراع ورأت الحقوق الفلسطينية تنتهك وكشفت التضليل الذي تمارسه الحركة الصهيونية والضغط الذي تفرضه على الدول الغربية والتغلغل في أدق تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والنفوذ الكبير على سير الانتخابات التشريعية والرئاسية والسيطرة شبه المطلقة على الإعلام الغربي الذي جندته للإمعان في تضليل الشعوب وطمس حقائق القضية الفلسطينية. اليوم، وبسبب ما قامت به حماس، انجلت الصورة وانكشفت الأكاذيب.
على أثر ذلك خرجت مظاهرات ضخمة في معظم مدن العالم وخاصة المدن الغربية بما فيها نيويورك معقل الصهيونية العالمية وفي لندن ربيبتها وصانعتها. وتحدثت فعاليات كثيرة واستقال أعضاء في مجالس نيابية وفي بعض الحكومات من مناصب وزارية وقيادية. كذلك برز عدد كبير من المفكرين والصحفيين والدبلوماسيين وحتى قدامى العسكريين، ومن بينهم يهود، تحدثوا في صالح عدالة القضية الفلسطينية.
من المبادئ العسكرية المهمة «مبدأ استثمار النصر». ومن ما شهدته الساحة الدولية في هذه الفترة يتضح أن هناك أربعة مسارات يمكن للأمة أن تستثمرها في هذه المعركة المصيرية. المسار الأول لغة المصالح واستغلال التحولات التي تحدث في المشهد الجيوسياسي والتعددية القطبية التي تُرتسم ببروز الصين كقوة صاعدة وروسيا كقوة موجودة في الساحة لها تمثيل في مجلس الأمن، والاتحاد الأوروبي وارتباطه التاريخي بالمنطقة وكيف يمكن استغلال التناقضات الواضحة بين مواقف الحكومات وتوجهات الشعوب، بالإضافة إلى محاولة تغيير الموقف الهندي غير المشرف. المسار الثاني، وقد يكون الأهم، العمل الإعلامي الموجه نحو شعوب العالم وبصفة خاصة الاتحاد الأوروبي والقارة الأمريكية، لإبراز مقومات القضية الفلسطينية وحقيقة المشروع الصهيوني وجرائمه منذ نشأته. والمسار الثالث التوجه الحقوقي بتشكيل فرق من المحامين لتقديم دعاوى في المحاكم الدولية والجهات الدولية الأخرى المعنية. والمسار الرابع اقتصادي يدعو إلى مواصلة حملة المقاطعة وتنظيمها بحيث تؤسس منظمات مجتمع مدني تقوم بحصر الشركات التي تناصر الصهيونية العالمية وتطرح البدائل المناسبة لبضائعها.
هذه المسارات وغيرها ينبغي أن توضع في إطار استراتيجي عربي/إسلامي تُجند له طاقات الأمة لتحديد كيفية استثمارها وما ينبغي عمله في فهم مواقع القوة لدى المنظمات الصهيونية وما طبيعة الضغط الذي تمارسه على الحكومات الغربية وكيف يمكن اختراق هذا الضغط من خلال الجماهير الغربية التي استيقظت وأبدت تفهمها للقضية الفلسطينية.
التحدي الذي يواجه الأمة هو كيف تبقي على هذا الزخم الجماهيري العالمي والموقف الشعبي العربي الموحد وإن تفاوتت آراء ومواقف بعض الحكومات العربية. لم يحدث أن اجتمعت الآراء العالمية والضغط الجماهيري العالمي إلى هذا الحد، ويذكرنا ذلك بما حدث في روديسيا (زيمبابوي لاحقا) ودولة الفصل العنصري جنوب إفريقيا، والمظاهرات التي جابت مدن العالم دعما لقضية السكان الأصليين. على الأمة أن تجند طاقاتها لاستثمار هذا الانتصار الإعلامي والإنساني وتحويله إلى نصر سياسي لصالح القضية الفلسطينية. فعندما يخاطب الدبلوماسيون الأمريكيون قيادتهم بخطورة الموقف الأمريكي والدعم اللامحدود الذي تقدمه للصهيونية العالمية وذراعها إسرائيل فإن أمريكا تضع نفسها في صف الباطل. وإذا كانت القمة العربية التي انعقدت دعت إلى «تكثيف وتوحيد الجهود العربية والإسلامية» فهذا الدعم العالمي للقضية الفلسطينية، وإن أتى تلقائيا، لا يمكن أن يستمر ويكبر تلقائيا. لذلك فإن المهمة كبيرة وعلى الأمة أن تكون على قدر المسؤولية وتجند كل القدرات والإمكانات والموارد لخدمة القضية الوجودية العربية. على الحكومات دور وعلى المجتمع المدني العربي الإسلامي دور أكبر.
drmekuwaiti@gmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك