إزاء تواصل جرائم الحرب التي ترتكبها إسرائيل في فلسطين، لم يعد خافيا على الرأي العام العالمي، الانحياز الأعمى للحكومات الغربية لإسرائيل، وتحايلهم على هذه الجرائم، وتزييفهم للحقائق بتجاهل واقع الاحتلال، والفصل العنصري، والحصار منذ عقود طويلة.
وعلى وجه الخصوص، فإن «الاتحاد الأوروبي»، الذي يرفض العدوان على أوكرانيا، ويعلن أن احتلالها «كارثة يجرمها القانون الدولي»، ويلزم «فرض عقوبات قاسية»، على موسكو، ومناصرة الأوكرانيين؛ هو نفسه، الذي تعايش مع الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية منذ عام 1967، دون أن يناصر قضيتهم، أو يفرض عقوبات على المحتل، وهو يرتكب جرائم حرب متتالية، ويفرض عقابا جماعيا على شعب اعترفت له قرارات الشرعية الدولية بالحق في تقرير مصيره وفي دولته المستقلة.
وبعيدًا عن الدعوات الفاترة لإسرائيل بالالتزام بالقانون الدولي، وتجنب وقوع إصابات في صفوف المدنيين، فقد غابت المُساءلة بشكل كبير. وأدى الدعم الغربي القوي لدولة الاحتلال مُنذ فترة طويلة ورفض انتقادها من قبل حكومات الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وأوروبا، تحت قيادة «أورسولا فون دير لاين»، رئيسة المفوضية الأوروبية، إلى منحها مطلق الحرية في قتل المدنيين الفلسطينيين دون مساءلة.
وعلى الرغم من كون «الاتحاد»، في السابق مؤيدًا لدفع عملية السلام في الشرق الأوسط، وأكبر مانح للمساعدات الإنسانية للفلسطينيين؛ فقد افتقرت استجابته للكارثة الإنسانية في قطاع غزة، إلى المبدأ الأخلاقي، والزعامة السياسية، والمُساءلة، والفكر الاستراتيجي، حيث تبنى موقفًا مؤيدًا لإسرائيل دون تقدير لتسبّب أفعالها في تفاقم الكارثة بالمنطقة.
وعلى نطاق واسع، اتُّهمت «فون دير لاين» -التي تتولى القيادة السياسية للاتحاد الأوروبي مُنذ عام 2019- بالتصرف خارج نطاق مسؤولياتها، وواجهت الكثير من الانتقادات لسلوكها الشخصي خلال هذه الأزمة، وعلى وجه الخصوص، بدلًا من اتباع اتفاقيات الاتحاد الأوروبي والتشاور مع الدول الأعضاء، بشأن السياسة المتفق عليها تجاه الحرب في غزة، حاولت استرضاء القادة الغربيين، وقامت بزيارة غير مصرّح بها للقاء «نتنياهو»، في منتصف أكتوبر، لتقديم دعمها الثابت له؛ وفقًا لما صرّح به «جو بارنز» في صحيفة «التليغراف».
وفي حالات التصعيد السابقة والتوترات في الشرق الأوسط، غلب على الدبلوماسيين الأوروبيين صوت العقل والوساطة؛ لدفاعهم عن حقوق الإنسان للمدنيين بموجب القانون الدولي، ما ساعد على الحد من نطاقات العنف في المنطقة. وتُعد «بروكسل» واحدة من أقوى المدافعين في الغرب عن ضرورة حل الدولتين، وتوفير دولة قومية للفلسطينيين. وأشارت بوابة المساعدات الإنسانية «ريليف ويب»، إلى أن الاتحاد الأوروبي؛ كان دائمًا أكبر مانح دولي للفلسطينيين، حيث قدّم ما يربو على (2.2 مليار يورو)، مخصصات بين عامي 2020 و2021، بالإضافة إلى أكثر من (930 مليون يورو)، كمساعدات مباشرة لمساعدة المدنيين على تلبية احتياجاتهم المعيشية الأساسية.
ومع ذلك، أعرب «بيير فيمونت»، من مركز «كارنيجي أوروبا»، عن أسفه لأن الدبلوماسية الأوروبية، تختفي تدريجيًا من الجغرافيا السياسية للمنطقة في السنوات الأخيرة، ويبدو الآن أنه «لا يوجد مجال للمبادرة»، حيث انتهى النهج المشترك لعملية السلام في الشرق الأوسط الذي حدّده الاتحاد الأوروبي، مُنذ إعلان البندقية عام 1980، بعد أن تمّ «تقويضه» بشكلٍ خاص، جراء التناقضات في السياسة الخارجية الأمريكية.
ويتبدى تشوه دور أوروبا وتناقضه أكثر في خريف عام 2023، في كيفية اصطفاف السياسة الأوروبية، تحت قيادة «فون دير لاين»، بشكلٍ وثيق مع سياسة إسرائيل في الأراضي المحتلة، في حين قضى الاتحاد الأوروبي معظم العام الماضي في انتقادها؛ بسبب ضمّها المستمر للأراضي الفلسطينية بالضفة الغربية والقدس الشرقية، فضلًا عن انتهاكها للقانون الدولي.
وردًا على هجمات حماس في أوائل أكتوبر 2023، أكدت «فون دير لاين»، ما أعلنه القادة الغربيون، مثل الرئيس الأمريكي «بايدن»، ورئيس الوزراء البريطاني «سوناك»، والرئيس الفرنسي «ماكرون»، والمستشار الألماني «شولتس»؛ من دعمهم القوي لإسرائيل في حربها على المدنيين في غزة. وبدلاً من إصدار دعوات تحذير، ووقف التصعيد لتجنب صراع إقليمي أوسع، تبنت ما أسمته «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها». وفي معرض حديثها أمام البرلمان الأوروبي في منتصف أكتوبر، أصرّت أيضًا على أن «نقطة البداية الأساسية» لرد أوروبا على الصراع الدائر يجب أن تكون «الوقوف بجانب إسرائيل» في تلك الفترة المظلمة.
ومع تصاعد الحرب في غزة، وقيام إسرائيل بتوسيع حملتها لتشمل أيضًا غزوًا بريًا واسع النطاق أدّى إلى تجزئة القطاع إلى قسمين، وتسجيل «المفوضية السامية لحقوق الإنسان»، ارتكاب جرائم حرب ضد المدنيين، مثل «الإخلاء القسري غير القانوني» للمدنيين الفلسطينيين؛ انضمت «فون دير لاين»، إلى زعماء غربيين آخرين في فشلهم في اتخاذ موقف أخلاقي، والدعوة إلى إنهاء الحرب، وحماية أرواح المدنيين، وهو واقع يتناقض بشكلٍ صارخٍ مع دعواتهم الفورية لروسيا لإيقاف «عمليتها العسكرية الخاصة» في أوكرانيا في فبراير 2022.
وعلى خُطى الحكومتين الأمريكية والبريطانية، أيدت «رئيسة المفوضية»، فكرة إنشاء «ممرات إنسانية ووقف مؤقت لإطلاق النار في غزة، بدلًا من الوقف الكامل، كما تراجع «الاتحاد الأوروبي»، أيضًا عن تقديم مساعداته إلى القطاع، حيث قطع في البداية كل التمويل، ثم ضاعف مخصصاته عبر مصر ثلاث مرات، ووقّع عقدًا بقيمة (40 مليون يورو)، مع وكالات الأمم المتحدة العاملة في غزة.
ومع ذلك، فإن رفض «فون دير لاين»، وحلفائها السياسيين في «بروكسل» الانضمام إلى دعوات أوسع لوقف إطلاق النار، يُظهر كيف أن حدود دعمهم السياسي لإسرائيل غير محدودة، كما هو الحال بالنسبة إلى قادة «بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وأمريكا»، وأبعد من التزاماتهم المعلنة بحماية حقوق الإنسان، ودعم سيادة القانون على المستوى الدولي.
وعلى الرغم من أنها الشخصية الأبرز في الاتحاد الأوروبي على المستوى الدولي، فمن المهم تأكيد مدى تعارض مواقفها وقيادتها مع موقف العديد من الحكومات الأوروبية وأعضاء البرلمان الأوروبي والمسؤولين على حد سواء. وعلى سبيل المثال، أعربت حكومة «بيدرو سانشيز» في إسبانيا -التي تتولّى حاليًا الرئاسة الدورية للمجلس الأوروبي- عن دعمها لـوقف إطلاق النار الفوري في غزة، والسماح بتقديم المساعدات التي تشتد حاجة المدنيين إليها.
وفي الوقت نفسه، نأى مسؤولون حكوميون بارزون آخرون بأنفسهم عن موقف «فون دير لاين»، ودعوا إلى محاسبة إسرائيل بشكلٍ جدي. وفي نهاية أكتوبر، طالبت رسالة مقدمة من 76 عضوًا في البرلمان الأوروبي من مختلف الأطياف السياسية؛ القيادة السياسية للاتحاد الأوروبي، بدعم «وقف فوري لإطلاق النار»، وحثّت على ممارسة مسؤوليتها لاتخاذ إجراءات عاجلة للحيلولة دون وقوع كارثة. وأعرب «مايكل هيغينز» الرئيس الأيرلندي، عن أن رئيسة المفوضية «لا تتحدث باسم أيرلندا» في دعمها غير المقيد لإسرائيل. في حين شجبت «بيترا دي سوتر»، نائبة رئيس الوزراء البلجيكي؛ كيف أن إسرائيل تتجاهل القانون الدولي والمطالبة بوقف إطلاق النار، مؤكدة أنه آن الوقت لفرض عقوبات عليها.
بالإضافة إلى ذلك، أصدر المسؤولون الأوروبيون أيضًا انتقادات مباشرة للسلوك الشخصي لرئيسة المفوضية. وذكرت صحيفة «بوليتيكو»، أن المشرعين والدبلوماسيين الأوروبيين يشكّكون في أنها تتجاوز مقتضيات وظيفتها، وتستبعد حكومات الاتحاد الأوروبي من عملية صنع القرار؛ لتحكم بدلًا من ذلك من خلال مجموعة صغيرة من المستشارين بموجب مراسيم. وأضافت الصحيفة أن «فون دير لاين»، تعتمد على مجموعة من المساعدين، بقيادة مستشارها السياسي الرئيسي «بيورن سيبرت»، وأنها نادرًا ما تتشاور مع الفريق المكون من 27 مفوضًا للاتحاد الذي تقوده. وفي هذا السياق، فإن زيارتها غير المقررة إلى إسرائيل –السابق الإشارة إليها- كانت مجرد واحدة في قائمة مطولة من الأمثلة، حيث فشلت في استشارة العواصم الأوروبية قبل اتخاذ قرار سياسي مهم، الأمر الذي فاجأ كبار المسؤولين الأوروبيين الآخرين.
ومع ذلك، فإن انتقاد سلوكها الشخصي يمتد أيضًا إلى قمة الاتحاد. وأكّد «جوزيب بوريل»، المُمثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية، أنه لا يحق لمسؤولي «بروكسل»، تمثيل الاتحاد من جانب واحد على صعيد مواقف السياسة الخارجية، وأكّد أنه هو الذي سيقود مثل هذه المناقشات بين المسؤولين من الدول الأعضاء، وأشارت «ناتالي لوازو» النائبة الفرنسية في البرلمان الأوروبي، إلى أن تدخلها في السياسة الخارجية الأوروبية ليست من صلاحياتها.
وانطلاقًا من تدخّلها المُفرط في السلطة، تجنبت «فون دير لاين»، المُساءلة أمام المشرعين الأوروبيين، كما هو الحال عندما غادرت مناقشة البرلمان الأوروبي، حول سياسة الاتحاد تجاه الحرب في غزة، قبل الرد على أية أسئلة من البرلمانيين. وشجب «باري أندروز»، العضو الأيرلندي بالبرلمان الأوروبي، هذا التصرف ووصفه بأنه «مُخزٍ وغير محترم»، واتهمها كذلك بـ«إحداث ضرر لا يمكن إصلاحه لمصداقية بروكسل؛ بسبب فشلها في توجيه الاتهام لإسرائيل بارتكاب جرائم حرب».
ومستشهدًا بأدلة على استخدام إسرائيل للفسفور الأبيض في هجماتها على الأهداف المدنية في انتهاكٍ واضح للقانون الدولي؛ أدان «ميغيل كريسبو»، العضو الإسباني بالبرلمان الأوروبي، الزعيمة الأوروبية؛ بسبب صمتها المتواطئ، بشأن الاعتداء على المدنيين الفلسطينيين. وقد أدرك هذه الحقيقة أيضًا أكثر من 800 مسؤول داخل الاتحاد الأوروبي، والذين كتبوا مباشرةً إليها لانتقاد دعمها غير المنضبط لإسرائيل، وسلّطوا الضوء على أنهم، تحت قيادتها، بالكاد يعترفون بقيم الاتحاد؛ بسبب المعايير المزدوجة التي تتبعها «بروكسل»، في معاملتها للأوكرانيين والفلسطينيين.
وعلى النقيض من دعمها غير المحدود لإسرائيل، ورغبتها في وضع نفسها كزعيمة غربية كبرى إلى جانب «بايدن»، و«سوناك»، و«ماكرون»، من خلال توجهها لإسرائيل ولقائها «نتنياهو»، أشار «خورخي ليبوريرو»، من شبكة «يورو نيوز»، إلى كيفية تبنّي «بوريل»، موقفًا أكثر انتقادًا لإسرائيل فيما يتعلق بحربها في غزة، حيث قام بما لم تفعله «لاين» من خلال توضيح كيف أن الحق في الدفاع عن النفس، مثل أي حق آخر تحكمه حدود، وأن إدانة مأساة واحدة لا تمنعنا من إدانة مأساة أخرى. وفي حين رفضت اقتراح وقف إطلاق النار، اقترح «بوريل»، أربعة مبادئ للسياسة الأوروبية تجاه الأزمة في غزة؛ مثل إدانة «حماس»، والمطالبة بإطلاق سراح الرهائن، وإظهار الإنسانية تجاه السكان المدنيين في غزة، ومطالبة الحكومات الأوروبية بإظهار التماسك السياسي للتحدث بصوت واحد، وتأكيدهم الالتزام بمعالجة الأسباب الجذرية للصراع الفلسطيني، وإقرار سلام عادل في المنطقة.
وتماشيًا مع عقود من السياسة الأوروبية تجاه الشرق الأوسط، أعاد «بوريل»، تأكيد ضرورة حل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية، مشيرا إلى أن عدد المستوطنين الإسرائيليين في الأراضي المحتلة قد تضاعف ثلاث مرات مُنذ اتفاقيات «أوسلو» الموقّعة منتصف التسعينيات، وأن مساحة الدولة الفلسطينية المحتملة، قد تقلّصت وتحولّت في متاهة من المساحات المنفصلة عن بعضها البعض. وعلى الرغم من اعترافه بأن احتمال التوصّل إلى هذه النتيجة يبدو بعيد المنال حاليًا، فقد أكّد مجددًا أن المجتمع الدولي، ليس لديه أي شيء آخر ليُقدمه. وفي انتقاد لتصرفات «فون دير لاين»، الأحادية الجانب لدعم إسرائيل باسم الاتحاد الأوروبي، حذّر أيضًا من أن الطريقة التي ننقل بها موقفنا من هذا الصراع ستُحدد دور أوروبا عالميًا لسنوات عديدة قادمة.
على العموم، فإن سياسة الاتحاد الأوروبي تحت قيادة «فون دير لاين»، والتي شبّهها أحد الدبلوماسيين الأوروبيين بسلوك الملكة، وليس بمسؤول ديمقراطي، افتقرت إلى المبدأ الأخلاقي، والإدراك السياسي الذي أظهره كذلك زعماء «واشنطن، ولندن، وباريس، وبرلين». وفي إشارة إلى الغضب المُتزايد لدى الدول والحكومات العربية إزاء الاصطفاف القوي، بين الاتحاد وإسرائيل، أشار «جوليان ديسي»، و«سينزيا بيانكو»، و«هيو لوفات»، من «المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية»؛ إلى أن الأوروبيين بحاجة الآن إلى مشاركة أكثر فعالية، بالشراكة مع الحلفاء الإقليميين في تسهيل وضع حدٍ لهذا الصراع، ووقف الخسائر بين صفوف المدنيين.
ومع ذلك، يجب تأكيد أن المواقف التي انتهجتها رئيسة المفوضية تجاه إسرائيل، تمت معارضتها بشدّة عبْر الدول الأعضاء في الاتحاد والبرلمان الأوروبي، حيث ظهرت دعوات صريحة بوقف إطلاق نار فوري، وإنهاء الأعمال الانتقامية العنيفة التي تقوم بها دولة الاحتلال في غزة.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك