قبيل اندلاع حرب إسرائيل الواسعة النطاق على قطاع غزة في أكتوبر 2023، شهد سوق الطاقة العالمي تعثرًا بالفعل في تعافيه البطيء من جائحة فيروس كورونا، وما ألم به من أضرار طويلة الأمد جراء حرب أوكرانيا المستمرة. وكانت كاثرين بورتر، مستشارة الطاقة، قد كتبت في صحيفة «التليغراف»، أن هناك «سببًا وجيهًا للقلق بشأن التبعات الاقتصادية لهذه الحرب، في ظل انخراط إسرائيل الآن في حملة قصف مدمر على قطاع غزة، وتعريض التوازن الأمني الدقيق في الشرق الأوسط للخطر من خلال قرع طبول الحرب مع النظام الإيراني، مما يدق ناقوس الخطر من أن المزيد من تصعيد هذا الصراع سيكون له آثار وخيمة على الاقتصاد العالمي».
كان هناك تأثير فوري في سوق النفط منذ بداية هذه الأعمال العدائية، حيث ارتفعت الأسعار إلى 90 دولارًا للبرميل، وتساءل المعلقون الغربيون عما إذا كانت تصرفات إسرائيل يمكن أن تؤدي إلى قيام الدول العربية المصدرة للنفط في أوبك بمقاطعة أسواق معينة تدعمها مثلما فعلت في عام 1973. وحتى لو لم يتحقق هذا السيناريو، كما يعتقد عديد من المراقبين، فإن تداعيات المواجهة بين الولايات المتحدة وإسرائيل من ناحية، وإيران من ناحية أخرى يمكن استشعارها بقوة في سوق النفط، مع احتمالية حظر الصادرات من طهران، وبالتالي انخفاض النفط المتاح للتداول بالتجارة الدولية، فضلًا عن المخاوف المستمرة بشأن أمن مضيق هرمز على حركة الشحن التجاري، والتي ظهرت على السطح مرة أخرى.
بالنسبة إلى سوق الطاقة العالمية، تمثل الحرب على غزة تطورًا غير متوقع آخر في دوامة الأحداث الأخيرة. مع ارتفاع سعر برميل النفط إلى أكثر من 120 دولارًا في يونيو 2022 عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، ثم استقرار السوق وانتعاشه ببطء، مع تراجع الأسعار إلى مستوى منخفض بلغ 70 دولارًا للبرميل في مايو 2023، وهو ما حدا بأعضاء منظمة «أوبك»، إلى إجراء تخفيضات على حصص إنتاجهم لدعم أسعار صادراتهم من الطاقة. لذلك، قبل السابع من أكتوبر، بلغ سعر برميل خام برنت أقل بقليل من 80 دولارًا للبرميل، وكان السوق يشهد ما وصفته وحدة الاستخبارات الاقتصادية بمجلة «الايوكونوميست» حركة من «البيع» بين المصدرين وسط تزايد الطلب من الصين.
في أعقاب حملة القصف الإسرائيلية على غزة، قفزت الأسعار العالمية، مع ارتفاع خام برنت في الأيام التالية إلى ما يزيد على 86 دولارًا للبرميل، ثم 88 دولارًا للبرميل في الأسبوع التالي، و90 دولارًا للبرميل بنهاية أكتوبر. وعلى الرغم من استقرار الأسعار بحلول السابع من نوفمبر عند 81 دولارًا للبرميل بعد حالة الذعر الأولى في الأسواق، إلا أن خوفا شديدا يبقى قائم من خبراء الصناعة حول كيفية تأثير أي تصعيد، خاصة فيما يتعلق بإيران، في قطاع الطاقة الحيوي في المنطقة. على الرغم من أن إسرائيل وفلسطين لا تعتبران مصدرين رئيسيين في حد ذاتهما، إلا أن شاول كافونيك، من بنك «كريدي سويس»، أشار إلى أن «احتمال نشوب صراع أوسع نطاقا» يمكن أن «يمتد إلى الدول الكبرى المنتجة للنفط» وبالتالي يؤثر في استقرار وأمن بقية منطقة الشرق الأوسط.
وفي تقييم «آدم توز»، الخبير الاقتصادي مدير المعهد الأوروبي في جامعة كولومبيا: هناك «لعبة جيوسياسية ضخمة» تجري في سوق الطاقة العالمية بين المصدرين الرئيسيين مثل المملكة العربية السعودية والمستهلكين مثل الولايات المتحدة، وأوضح أن الخوف من أن تنال المتغيرات من الوضع الهش الحالي؛ مستشهدًا بكيفية قيام إدارة بايدن خلال العام الماضي بغض الطرف عن تجارة النفط المتنامية والمعقدة والمربحة بشكل متزايد بين إيران والصين، كتب توز عن كيفية قيام استراتيجية عدوانية فائقة من قبل إسرائيل أو الولايات المتحدة ضد إيران يُمكن أن تؤدي إلى سيناريوهات مرعبة مثل إغلاق مضيق هرمز أمام الشحن التجاري.
واعترفت بورتر أيضًا بوجود مخاطر كبيرة تتعلق بمسارات عبور حركة الطاقة في المنطقة، لكنها أضافت أنه حتى في حالة تجنب الصراع مع إيران ووكلائها، فإذا قام الغرب بالتطبيق الصارم للعقوبات على مبيعات النفط الإيرانية، سيكون لهذا تأثير استقطاع كميات كبيرة من النفط الإيراني من السوق العالمية، وبالتالي ممارسة ضغط تصاعدي على الأسعار.
وفي سيناريو تتورط فيه إيران بشكل مباشر في الصراع، قدر بوب ماكنالي، رئيس مجموعة «رابيدان» للطاقة، أن أسعار النفط العالمية قد ترتفع بما يصل إلى 10 دولارات للبرميل. ومع ذلك، وبالذهاب إلى أبعد من ذلك، حذرت وكالة «بلومبرج» من أن التصعيد قد يؤدي إلى ارتفاع السعر إلى 150 دولارًا للبرميل. وقد ردد البنك الدولي هذا الشعور، والذي اقترح دفعًا نحو سعر 157 دولارًا للبرميل، والذي أعرب كبير الاقتصاديين لدى البنك الدولي، إندرميت جيل، عن أسفه لصدمة الطاقة المزدوجة لكل من النفط والغاز في المنطقة.
ووفقًا لعرض بلومبرج لثلاثة سيناريوهات محتملة للحرب – أن تظل «محصورة» في غزة، أو أن تمتد إلى لبنان وسوريا، أو أن تبدأ إسرائيل حربًا مباشرة مع إيران، فإن كل سيناريو سيؤدي إلى زيادة أسعار النفط، وارتفاع التضخم، وتباطؤ النمو، فضلًا عن أنه كلما امتد الصراع على نطاق أوسع، أضحى تأثيره عالميًّا وليس إقليميًّا.
كما أن هناك عنصرا آخر يتمثل في تناول النقاش حول تأثير العدوان الإسرائيلي عام 2023 على سوق الطاقة العالمية، ومعرفة ما إذا كانت أوبك ستفرض حظرًا نفطيًا على إسرائيل والدول التي دعمت حربها في غزة. وعند إجراء العديد من المقارنات بين هذا الصراع والحرب العربية الإسرائيلية عام 1973، أثار المراقبون الغربيون احتمال اتخاذ إجراء مماثل في سوق الطاقة، ومع خفض مستويات الإنتاج إلى 25 في المائة عن المستويات العادية السابقة، ومع ارتفاع أسعار النفط إلى أربعة أضعاف تقريبًا في الولايات المتحدة وغيرها من الأسواق المتضررة، يظل هناك قلق واضح بشأن كيفية تأثير ذلك الحظر المحتمل في الاقتصاد العالمي.
واستنادًا إلى عدم اقتناعه بهذا الخطر المحتمل، رأى «جريجوري جوس» رئيس قسم الشؤون الدولية في كلية بوش للخدمات العامة والشؤون الحكومية في جامعة تكساس، (إيه آند إم)، أن المخاوف من فرض حظر نفطي آخر مبالغ فيها، وأن صناع السياسات في دول الغرب يشعرون بالقلق من هذا الأمر. إن هذا الاحتمال يجب أن يقترن بالشعور بالارتياح من حقيقة أن الظروف اليوم تختلف كثيرًا عن تلك التي كانت سائدة في عام 1973.
ومع ذلك، فإن آخرين أقل اقتناعًا بتجنب وقوع اضطرابات كبرى، خاصة مع تسليط «بورتر» الضوء أيضًا على كيف أن الاقتصاد العالمي أصبح أقل اعتمادًا على نفط الشرق الأوسط كما كان من قبل، حيث يسهم الآن بحوالي تلبية ثلث الطلب العالمي على النفط (وهو ما يعد انخفاضًا من مستوى 40 بالمائة قبل خمسين عامًا). ومع ذلك، فقد حذرت من الكيفية التي يمكن أن يتأثر بها سوق الغاز الأوروبي بشدة من جراء الحرب طويلة الأمد في غزة.
وفي الوقت نفسه، كتبت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجلة الإيكونوميست أنها «لا تتوقع أن تفرض أوبك حظرًا نفطيًا على حلفاء إسرائيل» مثل ذلك الذي أدى إلى أزمة عام 1973، لكنها مع ذلك حذرت من أنه إذا «تصاعدت الحرب إلى صراع إقليمي أوسع نطاقًا» فإن ارتفاع الأسعار فوق الـ 100 دولار للبرميل يمكن أن يصبح بسهولة حقيقة واقعة.
ومع استنتاج وحدة الاستخبارات الاقتصادية في مجلة الإيكونوميست البريطانية أن أسعار النفط العالمية ستظل حساسة للغاية حيال حرب إسرائيل على غزة وسوف تتأثر إلى حد كبير بـردود فعل الدول الأخرى في الشرق الأوسط تجاه هجوم إسرائيل المستمر على الفلسطينيين وأي منطقة إقليمية أخرى. ومع تصاعد التوترات، سلطت المؤسسات المالية العالمية الضوء أيضًا على تداعياتها على الاقتصاد العالمي الأوسع. وفي الأيام الأولى للصراع، على سبيل المثال، حذر كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من «آفاق مظلمة جديدة» قد تخيم على الاقتصاد العالمي بالفعل. وبالمثل، حذرت وكالة بلومبرج الأمريكية من أن خطورة حقيقة أن الحرب الإسرائيلية في غزة سوف تزعزع استقرار الاقتصاد العالمي، ويمكن أن تدفعه إلى الركود إذا انجذبت المزيد من الدول بشكل مباشر أو غير مباشر لهذه الحرب.
إن القلق إزاء وضع سوق الطاقة العالمية يجب أن يوضع في سياق آخر، وهو كيف أصبح الوصول إلى النفط والوقود أمراً مستحيلاً بالنسبة إلى سكان غزة، الذين يتعرضون للقصف الجوي الإسرائيلي المستمر فضلًا عن الغزو البري واسع النطاق. وفي الوقت نفسه، حللت «بورتر» أن اندلاع حرب كبرى أخرى في الشرق الأوسط يعد بمثابة حدث غير متوقع في ديناميكيات سوق الطاقة، وهو ما يحتم احتياج البلدان إلى التفكير بعناية شديدة حول كيفية احتفاظها بإمكانية الوصول إلى الطاقة المطلوبة، لدفع اقتصاداتهم وسط تلك التوترات، وتجنب التورط في تداعيات وآثار ركود على غرار فترة السبعينيات، كما حدث مع أولئك الذين تأثروا بأزمة النفط عام 1973، ولا يخفى في الوقت ذاته ما قامت الحكومة وجيش الاحتلال الإسرائيلي بقطع استيراد الوقود عن قطاع غزة في إطار الحصار الكامل المفروض. وفي هذا السياق، كتبت «راشيل ويلسون» و«لو روبنسون» و»إيمي أوكروك» من وكالة سي إن إن عن أن نقص الوقود أدى إلى شل حركة العمل بالمستشفيات، وشبكات المياه، والمخابز، وعمليات الإغاثة التي تقوم بها الأمم المتحدة، وأن التهديدات بانهيار البنى التحتية الحيوية التي تفتقد إلى الوقود أدى إلى تفاقم الكارثة الإنسانية في قطاع غزة. ومن الواضح بالنسبة إلى بقية العالم أن تصعيد حرب إسرائيل ضد قطاع غزة، وخاصة احتمالات تورط إيران بشكل مباشر فيها، سوف يخلف عواقب عميقة على الاقتصاد العالمي، وتعطيل حركة تدفق الصادرات من منطقة الشرق الأوسط. ولهذا السبب وحده، خلص «توز» إلى أن الأمريكيين يجب أن يكون لديهم مصلحة جدية في الحفاظ على توازن سوق النفط، ولكن في حين رأى أن أسعار النفط ربما تهدأ مرة أخرى في نهاية المطاف، فقد حذر أيضًا من أن تكلفتها بالنسبة إلى المستهلكين لن تشهد انخفاضًا في أي وقت قريب. وبالإشارة إلى الكيفية التي من المتوقع أن تلتزم بها المملكة العربية السعودية بحصص الإنتاج المنخفضة التي اتفقت عليها مع شركائها في أوبك بلس... حتى نهاية الربع الأول من عام 2024، توقعت وحدة الاستخبارات الاقتصادية التابعة لمجلة الإيكونوميست البريطانية أن تظل أسعار النفط والغاز مرتفعة عند مستوياتها الحالية» وتكون قريبة من المستويات الحالية بقية العام الحالي، وكذلك «حتى عام 2024. وعلى الرغم من أن المعلقين والمنظمات الغربية قد خفضت في الوقت الحالي توقعاتهم بأن يتخذ أعضاء أوبك إجراءات ضد إسرائيل ومؤيديها في سوق الطاقة الدولية، كما فعلوا في عام 1973، فمن المهم تأكيد كيفية الرد على سلوك إسرائيل، خاصة فيما يتعلق بقصف المناطق المدنية المكتظة بالسكان ومقتل الآلاف من المدنيين، وهو ما سيؤثر في سياسات الحكومات، وصناع القرار في الشرق الأوسط.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك