تساؤلات عديدة أثيرت –ولاتزال– حول تأثير أحداث غزة على منظومة الأمن الإقليمي وهي تساؤلات مشروعة في ضوء ثلاث حقائق أولها: التشابك غير المسبوق بين قضايا الأمن الإقليمي على نحو مغاير لما دأب عليه الباحثون في معالجة تلك القضايا من خلال كتاباتهم من أن هناك الإقليم الخليجي ثم الدائرة العربية وتبلور مناطق جديدة تنخرط فيها قوى إقليمية وأخرى دولية ومنها منطقة شرق المتوسط، إلا أن الحديث الآن يدور عن تشابك للمصالح ووحدة التحديات، وثانيها: إن الأطراف المؤثرة في معادلة الأمن الإقليمي لم تعد الدول فحسب بل الجماعات دون الدول وكذلك بعض القوى الدولية ولو من منظور غير عسكري، وثالثها: الحديث القديم الجديد عن الأطراف التي يمكنها ضبط إيقاع الصراعات الإقليمية لتكون ضمن حدودها الدنيا وعدم تحولها إلى مواجهات تحتم على بعض الأطراف الإقليمية الانخراط فيها نحو صراع ربما تكون بدايته معروفة ولكن تبقى نهاياته تحتمل كل السيناريوهات.
في الأزمات وخاصة تلك التي تتضمن مواجهات عسكرية فإن وضع تصورات لمسار تلك المواجهات أمر تكتنفه صعوبات عديدة ولكن ما يهمني في هذا الأمر هو القضايا التي ستكون محل نقاش واهتمام بعد تلك الأحداث، وأتصور أن هناك قضايا عديدة ولكن يمكن اختيار ست قضايا أساسية أولها: بالطبع القضية الفلسطينية والتي أضحت محل اهتمام دول العالم كافة على المستويات الرسمية والشعبية وهو ما عكسته التغطية الإعلامية والفكرية لتلك الأحداث بشكل غير مسبوق وفي تصوري أنه لا بديل عن إيجاد السبل الكفيلة بتطبيق حل الدولتين وهو أمر كان محل اهتمام الكثير من النخب العربية والغربية على حد سواء ولكن في ضوء تلك المستجدات هل يتم الانتقال من المقدمات إلى النتائج مباشرة؟ أي الانطلاق من القرارات الأممية السابقة نحو تطبيق ذلك الحل؟ أم أن هناك جهودا أخرى مطلوبة؟
وإذا كان الأمر كذلك ما الأدوار المطلوبة سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي، فضلاً عن أدوار المنظمات المعنية أيضاً على المستويين الإقليمي والعالمي؟ وهي تساؤلات يجب أن تكون محل اهتمام كل دول المنطقة بالدرجة الأولى، بمعنى آخر هل سوف تمثل نتائج الأحداث الراهنة في غزة فرصة لكل الأطراف أم إنها سوف تضيف تعقيداً جديداً في مسار حل القضية الفلسطينية؟، وفي تقديري إن تلك الأحداث أكدت وبما لا يدع مجالاً للشك أن هناك تأثيرات طالت الدول كافة بما يعنيه حتمية انخراط تلك الدول ضمن جهود متكاملة لإيجاد حل لذلك الصراع، فضلاً عن متطلبات إعادة البناء، وثانيها: أنماط التحالفات الإقليمية مستقبلاً، فقبل تلك المواجهات كان هناك تيار يستهدف الحفاظ على توازن القوى والأمن الإقليمي في مقابل تيار آخر يرى أن التوتر الإقليمي يمثل فرصة لتعزيز أدواره الإقليمية من ناحية وإدارة القضايا الخلافية مع الدول الغربية من ناحية ثانية، ولكن في ظل إثارة قضايا عديدة خلال تلك الأزمة فإن الحديث يدور حول ثبات أو تغير ذلك التصنيف، وثالثها: الدور الذي تضطلع به الدول المحورية تجاه الأزمات، صحيح أنه كانت هناك مسار تعاون إقليمي ضم كلا من مصر والأردن والعراق ولكن الحديث يدور أيضاً حول كيفية العمل خلال الأزمات وخاصة أن الدول الثلاث ذات تأثير في مجريات الأمن الإقليمي وتقع في مفاصله الحيوية وكان واضحاً أدوار تلك الدول خلال أزمة غزة وخاصة كلا من مصر والأردن وتوافق العراق مع رؤية الدولتين، ورابعها: الحديث المتجدد عن الدور الذي يجب أن تضطلع به جامعة الدول العربية تجاه الأزمات العربية، صحيح أن انفجار تلك الأزمات وفي وقت متزامن يمثل عبئا على عمل تلك المنظمات ليس فقط على الصعيد الإنساني ولكن على الصعيد السياسي لجهة وضع قراراتها موضع التطبيق، لم تكن تلك التنظيمات ببعيدة عن الأزمة ومن ذلك إعلان المجلس الوزاري لدول مجلس التعاون في 17 أكتوبر 2023 تقديم دعم فوري للمساعدات الإنسانية لقطاع غزة بقيمة 100 مليون دولار مع الدعوة أيضاً إلى الوقف الفوري لإطلاق النار ، فضلاً عن القمة العربية الطارئة التي استضافتها مدينة جدة أول أمس في الحادي عشر من نوفمبر الحالي، وفي تصوري أن تنظيمات الأمن الإقليمي مدعوة الآن وأكثر من أي وقت مضى إلى حل الصراعات الإقليمية حيث إن انحسار دور تلك التنظيمات يتيح الفرصة لتدويل الأزمات من ناحية وتوظيف الأطراف الإقليمية لتلك الأزمات بما يعزز نفوذها من ناحية ثانية بما يعنيه ذلك من إطالة أمدها، وخامسها: أمن الخليج العربي، فمع أن دول الخليج العربي ليست من دول التماس المباشر مع تلك الأحداث ولكنها معنية بها بدرجة كبيرة، فقبل أحداث غزة أثير الجدل حول مسار العلاقات الخليجية الأمريكية، والتي اتخذت تطورًا نوعيًّا مع بعض أطراف المنظومة الخليجية من خلال توقيع اتفاقيات أمنية واتخذت توتراً مع البعض الآخر على أثر قضايا خلافية والمجمل كان الحديث عن طبيعة الالتزامات الأمنية المستقبلية بأمن الخليج العربي، ولكن من خلال مسار الأحداث في غزة ربما ترى الولايات المتحدة أن دعم أمن دول الخليج العربي يجب أن يكون أولوية على نحو مغاير لما تردد بشأن زيادة الاهتمام بإدارة الصراع مع الصين في بحر الصين الجنوبي في كون أن التهديدات لم تعد تقليدية بل إن اندلاع الأزمات أضحى يحدث بلا مقدمات ومؤشرات محددة، وسادسها: آليات حل الصراعات الإقليمية ليس من منظور من يضطلع بالدور لأنه في الصراعات المعقدة والممتدة لا يوجد قائد واحد على الدوام ولكن خلال كل أزمات الأمن الإقليمي التي شهدتها المنطقة كان التدخل العسكري والردع حاضراً وبقوة ولكن هذا النهج يفرض خيارات صعبة على الدول بل إنه يترك آثاراً تمتد سنوات على منظومة الأمن الإقليمي التي تعاني من معضلات منها الخلل في توازن القوى والخلافات الحدودية، وهنا سوف يثار الحديث مجدداً عن الأدوار الإقليمية لحل تلك الصراعات بما يضمن تسويتها بعيداً عن خيار التدخل العسكري.
ويعني ما سبق حقيقة مؤداها أن منظومة الأمن الإقليمي بعد أحداث غزة ستكون على نحو مغاير لما قبلها سواء من حيث اللاعبين أو القضايا والأولويات بل وأنماط التحالفات ومسار الأزمات الإقليمية كافة وخاصة إن بعضها به مواجهات بين دول وجماعات دون الدول، والحديث في الوقت ذاته عن تكتيكات الحروب اللامتماثلة في خضم ذروة الاهتمام بتوظيف التكنولوجيا أيضاً خلال الصراعات المسلحة، ومجمل القول إن الحديث ما بعد غزة وإن انطلق منها ولكنه سوف يطال منظومة الأمن الإقليمي بأسرها.
{ مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك