حوادث رأيناها، وتصريحات قرأناها في الأيام الماضية، وكلها أيقظت ذاكرتنا نحو سنوات الحرب الباردة العصيبة في الستينيات من القرن المنصرم، وأحْيت لدينا كابوس التجارب النووية العقيمة التي كانت تُجريها الدول المتقدمة الكبرى في البر والجو وتحت الأرض وفي المحيطات، إضافة إلى الأسلحة الذرية التي كانوا يتسابقون في نيل سبق تطويرها وإنتاجها بمختلف أنواعها وأشكالها وشدة وقوة تدميرها، والفوز في تحقيق القُدرة على التدمير الشامل النوعي والكمي لأكبر مساحة جغرافية وقتل أكبر عدد من البشر.
ومن هذه التصريحات ما أدلى بها وزير التراث في الكيان الصهيوني «عميحاي إلياهو» في الخامس من نوفمبر 2023 في مقابلة إذاعية عن إمكانية استخدام القنبلة النووية ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في غزة. وهذا التصريح المخيف يؤكد تعطش الكيان الصهيوني الهمجي والبربري للقتل الشامل للأبرياء والمدنيين، إضافة إلى أنه يُقدم الدليل الدامغ على امتلاك هذا الكيان لأسلحة الدمار الشامل الذرية، والتي لا يعترف بها رسميًّا حتى الآن.
كذلك من الحوادث المؤسفة تلك الخطوة الخطيرة جداً التي اتخذها الرئيس الروسي بوتين، والتي قد تهدد العالم من جديد وتحيي في نفوسنا مخاطر الماضي الأليم، وحقبة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي، والتي جعلت العالم يعيش على فوهة بركان عظيم كاد أن ينفجر في أية لحظة. فهذه الخطوة تُعيد العالم مرة ثانية إلى الوراء أكثر من ستين عاماً، وتفجر مرة أخرى السباق النووي المتمثل في تفجيرات الأسلحة الذرية، وتحقيق السبق في إنتاج قنبلة الدمار الشامل التي لها قدرة على التدمير المطلق الأكبر في تاريخ البشرية.
فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين وقع في 2 نوفمبر 2023 على قانون لانسحاب روسيا من معاهدة «الحظر الشامل للتجارب النووية» (Comprehensive Nuclear-Test-Ban Treaty)، مما يُبطل ويلغي العمل بوقف التجارب النووية في روسيا، وهذا يعني أن روسيا الآن في حل من أمرها بالنسبة إلى التجارب النووية، وهي طليقة وحرة تفعل ما تشاء، دون أية قيود، أو ضوابط، أو إحراجات من المجتمع الدولي، وآخرها التجربة التي أجرتها من غواصة نووية في 6 نوفمبر 2023، وهي عبارة عن إطلاق صاروخ عابر للقارات، وقادر على حمل 6 رؤوس نووية، أي سحق وتدمير ستة أهداف في ثانية واحدة.
وجدير بالذكر، فإن روسيا وأمريكا وقعتا المعاهدة في عام 1996، كما صادقت عليها موسكو في عام 2000، في حين أن أمريكا لم تتخذ هذه الخطوة ولم تصادق عليها حتى الآن، كذلك فإن هناك دولاً تمتلك السلاح النووي ولم توقع أيضاً عليها مثل الصين، والهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، والكيان الصهيوني، ولذلك فالمعاهدة تحولت اليوم إلى حبرٍ على ورق، ولم تجد أبدا طريقها نحو التنفيذ.
كما وقع رئيس الوزراء الروسي ميخائيل ميشستن في التاسع من نوفمبر 2023 قراراً بسحب روسيا من المعاهدة مع اليابان التي تمت توقيعها في 13 أكتوبر 1993، والمتعلقة بخفض واحتواء المخزون النووي، أي إلغاء المعاهدة وانتهاء العمل بها، والرجوع مرة ثانية إلى الأسلحة النووية وتطويرها وتخزينها.
ومثل هذه الحوادث والممارسات والتصريحات تؤذن بالبدء من جديد في الحرب الدولية الباردة، واحتدام السباق على تطوير وإنتاج السلاح النووي، ولكن الفرق اليوم أن الحرب كانت في القرن الماضي بين دولتين أو قطبين فقط، وأما اليوم فقد دخلت الصين على الخط كقطب كبير لا يمكن الاستهانة بقوتها أو تجاهلها، ثم كوريا الشمالية أيضاً، أي إن السباق القاتل يشترك فيه أربع دول.
أما الصين فقد دخلت حديثاً في سباق التسلح النووي وتحولت إلى قوى عظمى بامتلاكها مختلف أنواع الأسلحة النووية، سواء أكانت قنابل ذرية تُلقى من الطائرات فتنزل بقوة الجاذبية إلى موقع الهدف، كما هو الحال بالنسبة إلى قنبلتي هيروشيما وناجازاكي التقليدية القديمة، أو الرؤوس النووية التي تُحمل على صواريخ باليستية عابرة للقارات، وتكون عادة مكونة من عدة رؤوس، أي يمكن إلقاء أكثر من قنبلة نووية في وقت واحد وإصابة أكثر من هدف في الوقت نفسه، وأخيراً السلاح النووي الذي يُطلق من الغواصات. وقد أشار التقرير السنوي للبنتاجون الصادر في 20 أكتوبر 2023 تحت عنوان: «التطورات العسكرية والأمنية المتعلقة بجمهورية الصين الشعبية» إلى توجهات وبرامج الصين النووية العسكرية من حيث زيادة ميزانية الدفاع بنسبة 7.1%، وامتلاكها حالياً قرابة 500 رأسٍ نووي، وسيرتفع هذا العدد إلى زهاء 1500 بحلول عام 2035.
وهذا هو الحال بالنسبة إلى القطب الرابع، وهو كوريا الشمالية التي تستعد للحرب بزيادة مخزونها من الأسلحة النووية، والذي يقدر حالياً بنحو 35 إلى 63 رأساً نووياً، حسب تقرير «معهد العلوم والأمن الدولي». كما أنها تُجري تجارب مستمرة للصواريخ عابرة القارات القادرة على حمل رؤوس نووية عدة، حسب تقرير لجنة الكونجرس حول «الموقف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية»، والصادر في 15 أكتوبر 2023، والذي خَلص إلى أن: «كوريا الشمالية تعمل باستمرار على توسيع وتنويع قوتها النووية، ما يزيد من تهديدها لأمريكا وحلفائها». أما الرأس النووي الأكبر فهو الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك حالياً أكثر من 5244 رأساً نووياً، حسب التقارير الدورية التي ينشرها «معهد إستكهولم الدولي لأبحاث السلام». وتعمل أمريكا منذ أكثر من عقد من الزمن على تحديث الأسلحة القديمة، وتطوير أسلحة نووية جديدة، حيث أعلنت وزارة الدفاع في 27 أكتوبر 2023 تطوير وإنتاج نوعٍ حديث من قنبلة بي 61(B61) وهي «قنابل الجاذبية التكتيكية»، ويُطلق عليها (B61-13)، وهي النوع الأخير من سلسلة قنابل تُنتج منذ الستينيات عند بدء الحرب الباردة وقوتها 360 كيلوطن، أي أشد من قنبلة هيروشيما (15 كيلوطن) بأكثر من 24 مرة، وقادرة على قتل الملايين في ثانية واحدة، إضافة إلى موت مئات الآلاف بعد فترة قصيرة من الزمن من البشر والشجر والحجر من الحروق وعند التعرض للإشعاعات القاتلة والمسرطنة.
وعلاوة على القنبلة «الغول» (B83_1) التي قوتها 1.2 ميجاطن، وهي أقوى قنبلة صنعها الإنسان حتى الآن، فإن أمريكا بدأت في عهد أوباما بإنتاج قنابل نووية صغيرة من نوع (B61_12) وقوتها 50 كيلوطن، وهي موجهة ودقيقة جداً ويمكن التحكم فيها أكثر وحملها على صواريخ، حسب التقرير المنشور من «اتحاد علماء أمريكا» في 27 أكتوبر 2023 تحت عنوان: «إدارة بايدن تُقرر إنتاج قنبلة نووية جديدة للتخلص من القنابل القديمة». فمع سباق تطوير وإنتاج أسلحة الدمار الشامل من الدول المتقدمة والنووية، فإن تجارب الانفجارات النووية ستستمر وبوتيرة أسرع وأشد حتى تُعلن إحدى الدول انتصارها وفوزها في السباق. ومع كل هذا الزحف نحو التفوق العسكري النووي النوعي والكمي من دول كثيرة، لا أجد من الدول العربية من يستعد لدخول هذا السباق العالمي!.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك