انتصر المسلمون في بدر وكانت أول مواجهة بين الكفر والإيمان، ولقد تحقق لهم النصر رُغم قلة عددهم وعدتهم، وانهزم أمامهم المشركون رُغم تفوقهم في العدد والعتاد، ولقد استقر في عقيدة المسلمين أن النصر من عند الله تعالى يهبه لمن يشاء من عباده المؤمنين إذا استقاموا، وحققوا ما طلبه الله تعالى منهم في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد / 7.
هذا المبدأ الإسلامي العظيم له ما بعده، وسوف نؤجل الحديث عنه حتى يحين أوانه، ونعود إلى انتصار المسلمين في بدر وهم أذلة، ونطمئن إلى مستقبل الإسلام مع أعداء الحق وهم كفار قريش في بداية الدعوة الإسلامية، وأعداء الحق في كل زمان ومكان، وهكذا استقر في وعي المسلمين أن للنصر أسبابه، كما أن للهزيمة أسبابها، فمن أخذ بأسباب النصر، ثم توكل على الله تعالى انتصر على عدوه، ومن تقاعس وترك الأسباب، ورفع كفه إلى الله تعالى يده دون الأخذ بالأسباب، فإن الهزيمة هي مصيره ونهايته.
ويجب على المسلمين ألا ينسوا أن من آيات النصر على الأعداء إعداد القوة لمواجهة الأعداء عملًا بقوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) الأنفال / 60.
ومن الممكن أن نصنف هذه الآية الجليلة على أنها آية للردع لأن الإسلام لا يحرص على القتال ولا يسعى إليه، بل هو يطلب السلام ويحرص عليه، وتأملوا قول الحق سبحانه وتعالى: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) الأنفال / 61.
انتصر المسلمون في بدر، ولكنهم هزموا في أحد، ولم تكن الهزيمة بسبب قلة العدد والعدة، ولكن اختل شرط من شروط النصر وهو الطاعة لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وكان لابد أن ينهزموا لأنهم لو انتصروا مع مخالفتهم للرسول الأعظم (صلى الله عليه وسلم) لهان أمر رسول الله عندهم، وقالوا: عصينا الرسول (صلى الله عليه وسلم) وانتصرنا، فكان لزامًا عليهم وحتمًا أن ينهزموا وينتصر الرسول (صلى الله عليه وسلم). وفي حنين هُزِمَ المسلمون رُغم عددهم وعدتهم العظيمة ، فقد كان عدد الًمسلمين يربو على اثني عشر ألفًا حتى إن أحد المسلًمين قال: لن نهزم اليوم عن قلة، فوقعت لهم الهزيمة في بداية المعركة التي وصفها الله تعالى في القرآن العظيم وصفًا دقيقًا جامعًا مانعًا، قال تعالى: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26)) التوبة.
وإذا كانت هزيمة المسلمين في أحد نصرًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فإن هزيمتهم في حنين هي انتصارٌ للمبدأ الإسلامي ولمعادلة الإيمان القائلة: (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد / 7.
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) يقول للجيش المتوجه لقتال الكفار: (أيها الناس اعلموا أنكم لا تنتصرون على عدوكم بكثرة عددكم وعدتكم، ولكن تنتصرون عليهم بطاعتكم لله تعالى ومعصيتهم له جل جلاله، فإذا تساويتم معهم في المعصية كانت الغلبة لهم لأنهم أكثر منكم عدة وعددا، واعلموا أن الله تعالى قد أعزنا بالإسلام، ولو طلبتم العزة في غيره لم يزدكم إلا ذلًا.
أما القائد الملهم خالد بن الوليد (رضي الله عنه) فكان يحمس الجيش بقوله لقائد الروم: «جئتك بقوم يحبون الموت كما تحبون الحياة!»
ومن آيات النصر والهزيمة قوله تعالى: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون) آل عمران / 160.
الآية الجليلة العظيمة تتحدث في يقين ثابت عن أن المسلمين إذا أخذوا بأسباب النصر نصرهم الله تعالى ولا غالب لهم، وإذا تخلوا عن أسباب النصر خذلهم الله تعالى فمن ذا الذي ينصرهم من بعده، وليس أمام المسلمين إلا أن يتوكلوا على الله تعالى وهو نعم المولى ونعم النصير.
إذًا، فبعد تجديد الولاء لله تعالى، والدخول في حصنه الحصين، فإن الله تعالى سوف يحوطهم برعايته، ويهيئ لهم أسباب النصر والتأييد في سلمهم وحربهم، وفي قوتهم وضعفهم، وفي سقوطهم ونهضتهم، ويحسن بنا قبل أن ننهي القول في هذه القية أن نتفكر في قوله تعالى: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة / 40.
والعجيب أننا حين نتدبر قوله تعالى: فقد نصره الله !! نجد أن الحق سبحانه وتعالى قد أثبت النصر بأسلوب تميز القرآن العظيم عن غيره من الكتب السماوية فضلًا عن غيرها من الكتب الوضعية، فعطف بـ (الفاء) التي تفيد التعقيب والترتيب حيث لا زمن بين العطف والمعطوف عليه، ثم دخلت (الفاء) على (قَدَّ) التي تفيد التحقيق، ثم جاء الفعل الماضي (نصر) ليؤكد تحقق النصر لرسول الله (صلى الله عليه سلم) وهو مطارد من خصومه، وليتحقق وعد الله تعالى له بالنصر والتأييد في قول الرسول (صلى الله عليه وسلم) لا تحزن إن الله معنا، وكانت بداية التأييد واضحة جلية في شعور رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بالاطمئنان والسكينة
هذا هو الإسلام وهذه بعض آياته الواضحات على ارتباط النصر والهزيمة بالأسباب، فمن أخذ بأسباب النصر أعانه الله تعالى، ونصره على عدوه، ومن أهمل شيئًا من أسباب النصر وكله الله تعالى إلى نفسه، وتخلى عنه.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك