لم يكن بوسع الضابط الشاب، الذي تجاوز بالكاد الثلاثين من عمره، وهو يصل بقطار عسكري إلى غزة يوم 3 يونيو 1948 أن يتوقع، أو يمر بخاطره، أن تجربة الحرب في فلسطين سوف تحكم الخطوط العريضة لتوجهاته وتدفعه ــ بعد توقف معاركها والعودة إلى القاهرة ــ إلى إعادة بناء تنظيم «الضباط الأحرار» من جديد وتشكيل هيئته التأسيسية، التي أطلت على مسارح السياسة الملتهبة يوم 23 يوليو 1952.
لم تكن الحرب في فلسطين تجربة عابرة في التاريخ العربي الحديث. فلقد تغير كل شيء بعدها، السياسات والخيارات والنظم.
تحت وهج النيران في فلسطين اكتشف جمال عبد الناصر هويته العربية، وأن مصير مصر يرتبط بما يحدث ويتفاعل في عالمها العربي.
تلك حقيقة لا يمكن نفيها في ظل ما سجله «في دفتر يومياته الشخصية»، التي كتبها على مكتب فوقه لمبة جاز أثناء حرب فلسطين.
على مدى ستين سنة كاملة لم يتح لأحد من معاونيه ومقربيه وأسرته نفسها أن يدخل في علمه أنه كتب يوميات أثناء الحرب، وأنها في عهدة الأستاذ محمد حسنين هيكل، منذ عام 1953 حتى حصلت عليها ونشرتها عام 2009.
كانت الأجواء محبطة في ميادين القتال، والجاهزية العسكرية في أدنى درجاتها.
حشدت الوكالة اليهودية 81 ألف مقاتل معظمهم ضباط اكتسبوا خبرة عسكرية في سنوات الحرب العالمية الثانية، فيما كانت أعداد الجيوش العربية مجتمعة 37 ألف ضابط وجندي!
وكانت أعداد الطائرات التي في حوزة القوات الصهيونية 78 طائرة عند بداية الحرب فيما لم تتجاوز الـثلاثين طائرة على الجانب العربي، حسب ما أورده هيكل في «العروش والجيوش»، وهو كتاب مرجعي من جزأين أهميته في قدر توثيقه، حيث يتضمن سجلاً كاملاً للبرقيات العسكرية المصرية أثناء الحرب.
«إن يوميات الحرب هي في العادة أكمل مستند تاريخي لصورة ميدان القتال والخلفيات السياسية الواصلة إليه، ثم الاعتبارات الشخصية والإنسانية المتسربة بالضرورة إلى المواقف والتصرفات» ــ كما كتب أستاذ الوثائق هيكل.
»كانت الحرب في جوهرها صداماً بين مشروعين، مشروع صهيوني استكمل عناصر قوته يعمل على إعادة رسم خرائط المنطقة ومشروع قومي عربي تائه في كواليس الحكم وفوق مسارح الأحداث يبحث عمن يجسده لمواجهة طوارئ الأحداث المشتعلة بالنيران والمخاوف.«وهذه حقيقة لا يمكن إنكارها.
«يوميات الحرب»، تأخر نشرها لعقود طويلة حتى قرب نهاية القرن العشرين، كما حدث تماما في يوميات عبد الناصر الخطية.
في المرتين احتفظ بودائعه قبل أن يقرر نشرها، المرة الأولى ــ بقرار منه حتى يضع وثائقها في عهدة التاريخ والباحثين.. والمرة الثانية ــ بإلحاح مني حتى تنجلي الصورة الكاملة، وكان ذلك من حسن الحظ حيث أحرق الأصل فيما جرى لبيت هيكل الريفي من تدمير نال من الوثائق المودعة فيه.
كان دخول الجيوش العربية حرب فلسطين بالطريقة التي جرت بها مقدمة هزيمة محققة.
وكان رأي الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين والمتحدث الأول باسم شعبهاــ أن تُسند مهمة المواجهة العسكرية إلى جماعات المتطوعين ودعمها بالسلاح والمال، على أن تبقى الجيوش رابضة على الحدود متأهبة ومستعدة.
تثبت وقائع الحرب على غزة الجارية الآن صحة ما ذهب إليه الحاج أمين الحسيني حيث تدافع المقاومة بكل ما تملك من إرادة وسلاح لإثبات حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم بأنفسهم.
بدا درس الماضي حاضراً في الذاكرة الفلسطينية، لم يغادروا القطاع المحاصر، ولا وافقوا أياً كان ترهيب السلاح وأشباح الموت الماثلة على «التهجير القسري»، أو تكرار ما جرى عام 1948.
نسبت إلى رجلين، أكثر من غيرهما، مسؤولية الهزيمة العسكرية في تلك الحرب.
الأول ــ اللواء المصري أحمد المواوي، قائد حملة فلسطين، وقد نالته انتقادات حادة من الضابط الشاب جمال عبدالناصر في دفتر يومياته.
بعد الحرب حاول المواوي أن يبرئ ساحته، كاشفاً عن مخاطبات كتبها لقياداته يحتج فيها على إرسال القوات من دون تدريب كافٍ، أو أسلحة لازمة.
والثاني ــ الجنرال الإنجليزي جون جالوب، الذي أسندت إليه القيادة العامة للجيوش العربية، وكانت إدارته للحرب من عَمان التزاماً كاملاً بالاستراتيجية البريطانية، لم يتجاوز خطوط التقسيم المنصوص عليها في قرار الأمم المتحدة، حين كان متاحاً التقدم وكسب الأرض، فيما كانت الدولة العبرية الوليدة تتوغل فيما تستطيع أن تصل إليه دون اعتبار لأي قرارات دولية.
ما جرى بالضبط في عام 1948 حرب إقليمية اقتصرت على بعض الدول العربية وإسرائيل، التي تأسست للتو.
شبح الحرب الإقليمية يخيم الآن على نطاق أوسع وأخطر، لا أحد يريدها، لكن حساباتها يمكن أن تفلت بسيناريو أو آخر. والاختبار السياسي والعسكري والاستراتيجي هذه المرة أخطر وأفدح مما جرى قبل 75 عاماً حيث يراد التصفية النهائية للقضية الفلسطينية دون جدوى.
إننا أمام انقلاب استراتيجي محتمل قد يغير كل معادلات الإقليم، حساباته ونظمه وموازين القوى فيه.
الصمود الأسطوري للمقاومة هو انتصار للقضية الفلسطينية وللضمير الإنساني.
إحياء الذاكرة يساعد على فهم ما قد يحدث تالياً.
يوميات رجل «يوليو» جمال عبدالناصر تكتسب قيمة إضافية إذا ما قُرئت الأحداث التي توقف عندها وأبدى غضبه بسببها في سياق واحد مع ما تكشف من وثائق وشهادات إسرائيلية، خاصة مذكرات ديفيد بن جوريون مؤسس الدولة العبرية.
بقدر حجم الأثر، الذي خلفته تلك الحرب، فإن مضاهاة الروايات بكل تقاطعاتها يكشف وينير القصة الكاملة ومدى ما خلفته من جراح عميقة في الوجدان العربي ما زالت ماثلة حتى الآن.
عندما صدرت للضابط الشاب جمال عبدالناصر أوامر الانسحاب من الخليل يوم الخميس 21 أكتوبر قبل أن يلغي ما كتبه عن ذلك في دفتر يومياته: حيث يقول:
«..إن انسحابنا سيعرّض جميع السكان في عراق سويدان وبيت جبرين إلى التشريد»
«تصورت منظر الأطفال والنساء والعائلات عند انسحابنا».
نقف الآن أمام نفس المآسي الإنسانية بصورة مضاعفة آلاف المرات.
إذا كان هناك من يعتقد أن كل شيء سيعود إلى عهده القديم بعد توقف النيران فهو واهم.
ثم كتب بخط يده: «سنقاوم إلى آخر رجل.. لقد فقدنا الإيمان في قيادة الجيش.. وقيادة البلاد»..
في هذه اللحظة ولدت الثورة في قلب رجل واستقر عزمه على إعادة تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار«.
تكاد تكون تلك العبارات الصريحة لضابط في ميدان قتال ــ بدواعي غضبها ــ البداية الحقيقية لقصته كلها، كأنها نقطة تنوير مبكرة في نص روائي طويل.
لا شيء يولد في التاريخ من فراغ. وإذا لم ندرك الحقائق كما هي نكون كمن يغالط نفسه بالأوهام المحلّقة.
{ كاتب صحفي مصري
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك