كان من الصعب على الفلسطينيين في هذا العصر أن يتخيلوا أن تتكرر مجازر عام 1947 و1948 وكذلك عام 1967 بحقهم وبحق أبنائهم ومستقبلهم، ليس لأنهم مختلفون عن غيرهم من الشعوب التي ظُلمت وارتُكبت عمليات قتل واسعة ضدها وأُجبرت على النزوح من موطنها التاريخي في هذا العصر، بل لأن المجتمع الدولي، ممثلاً بالقوى الغربية، قد تبنى منذ بداية عهد النكبة، والظلم التاريخي الذي لحق بالشعب الفلسطيني، المسؤولية تجاه هذا الشعب. فتأسست وكالة غوث اللاجئين لرعاية ملايين الفلسطينيين الذين رحلوا قسراً عن موطنهم، ناهيك عن مئات القرارات التي صدرت عن الأمم المتحدة التي أكدت حقوق الفلسطينيين الوطنية في مقدمتها حق تقرير المصير، وعدم شرعية ممارسات الاحتلال وصولاً بالضغط على الفلسطينيين بتوقيع اتفاق أوسلو في عام 1993، بعد محاصرة قيادة منظمة التحرير وتجفيف مواردها ومقومات بقائها. نحن اليوم نقف أمام هذا العالم لنذكره أن ما حصل في غزة في السابع من أكتوبر، ويحصل في الضفة الغربية، وإن كان على نطاق أضيق، يحمل ذات المعطيات والملامح، والتي تتمثل باستمرار الاحتلال وتعسفه في التعامل مع الفلسطينيين، ومواصلة التنكر لحقوقهم المشروعة، ومحاصرته سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزة. لقد تمادى العالم الغربي في دعم نظام الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين على حساب الشعب الفلسطيني، طوال السنوات الماضية، مواصلاً ضغوطه على هذا الشعب، ومراقبته لممارسات الاحتلال غير القانونية والأخلاقية، والتي تقوض أي حلول مستقبلية لهذا الشعب، رغم إقرار الدول الغربية جميعا وبشكل رسمي بعدالة القضية الفلسطينية، ولكنها اكتفت بالتنديد بممارسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين، مع مواصلة دعمها في كل المجالات.
في هذا الهجوم الأخير على غزة، تتبنى الدول الغربية كعادتها مواقف إسرائيل وتدعم هجومها على غزة، وتروج لسيناريوهات الاحتلال المبنية على مقاربة واحدة تتمثل بالنصر وهزيمة حركة حماس في غزة، وتنتظر دون رحمة تحقيق تلك النتيجة وإن كان ذلك على حساب شعب ينزف أمام عيونهم، في تجاهل أو تناسٍ لما وصل إليه حال الفلسطينيين عبر العقود الماضية، والذي جاء نتيجةً لعدم تحمل الدول الغربية لمسؤولياتها بإنصاف الشعب الفلسطيني في مواجهة مخططات الاحتلال، وعملها الدؤوب مع الاحتلال على تحييد خيارات الشعب الفلسطيني وتقويض طموحاته الوطنية تدريجياً.
من الملاحظ أن السيناريوهات التي تتداولها الدول الغربية لما بعد الهجوم الحالي على غزة تتبنى جميعاً ما خرج عن مؤسسات الاحتلال الأمنية، وبات العالم الغربي يتابع حالة الاستنزاف اللاأخلاقي واللاإنساني في غزة، بانتظار تحقق المقاربة الإسرائيلية، والتي تتعامل بسيناريوهاتها المختلفة مع المواطنين في غزة كدُمى تتحكم بها قوة الاحتلال، بدعم غربي مطلق، وصمت عربي مريب، واحتقار لمنظومة القانون الدولي ممثلةً بمنظماتها ومحاكمها ومعاهداتها.
هناك عدد من الحقائق من الصعب أن يتجاهلها المرء عند قيامه ببلورة سيناريوهات ما بعد الهجوم على غزة، قد يكون أهمها الأهداف التي تتطلع إسرائيل إلى تحقيقها بعد هزيمة غزة، حيث لم تُخفِ نيتها بتهجير الفلسطينيين، لمواصلة ما يسمى «حرب الاستقلال» التي بدأتها عام 1947. ومن بين تلك الحقائق والمعطيات أيضاً نتائج اتفاقية أوسلو للسلام التي أبرمت قبل ثلاثة عقود، بتبني ودعم أمريكي غربي، بهدف منح الفلسطينيين الاستقلال الوطني، والنظر إلى حال الفلسطينيين اليوم، في ظل انعدام خياراتهم ودفعهم إلى حالة من اليأس في ظل ممارسات الاحتلال والضغوط الدولية المستمرة عليهم، لتقويض أي خيارات ممكنة.
وهناك حقائق ميدانية، تؤثر بشكل رئيس على السيناريوهات المستقبلية، أهمها القوة والإمكانيات العسكرية الإسرائيلية الهائلة، والمدعومة أمريكياً بشكل استثنائي عموماً، وإضافي يدعو إلى السخرية في هذا الهجوم، في ظل نجاح قوة الاحتلال بإسقاط عشرات الآلاف من القتلى والجرحى في صفوف المدنيين الفلسطينيين، وإخفاء جيش الاحتلال لخسائره البشرية المتصاعدة في هجومه البري المتواصل على غزة، بهدف تجنب توتير الجبهة الداخلية الإسرائيلية المتأججة أصلاً، واستبسال المقاومة الفلسطينية في غزة رغم أن الآفاق تبدو بالغة الصعوبة.
وتبقى إمكانية وحدود توسع الجبهة الشمالية حاضرة بقوة ضمن تلك المعطيات والحقائق، في ظل متابعة حدود تحملها لحالة الاستنزاف المتواصل لأهل غزة، والتي قد تمتد نيرانها إلى جميع أرجاء المنطقة، معرضة المصالح الغربية لأخطار وخسائر إضافية على تلك التي تستنزف على الجبهة الروسية -الأوكرانية.
كلها سيناريوهات سلبية، وحتى وإن نجح الاحتلال بتحييد المقاومة في غزة، فمقاومة الاحتلال عموماً لن تنتهي في فلسطين، إلا عندما ينسحب الاحتلال من فلسطين. فإذا افترضنا مجازاً أنه تم القضاء على مسلحي الفصائل الفلسطينية المقاومة في غزة، فالفلسطينيون لن يسلّموا أبداً طالما لم يحصلوا على حقوقهم المشروعة.
ولعله من المفيد اليوم أن تثبت الولايات المتحدة أنها قطب قادر على تحقيق العدالة في هذا العالم وليس العكس. قد يكون تدخل الولايات المتحدة لوقف الهجوم الإسرائيلي على غزة اليوم، والتوصل إلى صفقة تنقذ المحتجزين والأسرى لدى حركة حماس، السيناريو المرجح اليوم، في ظل تصاعد الرفض الشعبي الأمريكي وبعض الجهات الرسمية والتشريعية الأمريكية، ناهيك عن المواقف الرسمية لمعظم دول العالم، التي عكسها التصويت في الجمعية العامة، والمواقف الشعبية العارمة التي تجتاح شوارع عواصم العالم أجمع.
دعونا نراجع ما جاء في كلمة أنطوني بلينكن في قمة السبع الكبار، لنخرج بمقاربة واقعية لوقف الهجوم على غزة الآن، قبل استفحال كوارث إنسانية، ستبقى وصمة عار جديدة على جبين العالم بحق الفلسطينيين. أكد بلينكن ضرورة العمل اليوم وعدم الانتظار للغد» لضمان أن يعيش الفلسطينيون والإسرائيليون، كل في دولته، بإجراءات متساوية، من الأمن والحرية والكرامة»، إذ رفض في كلمته إعادة احتلال غزة أو الاقتطاع من أراضي القطاع. وعليه، على الولايات المتحدة اليوم الضغط على نتنياهو لوقف الهجمة على غزة، وهو الذي يواجه معارضة وانتقاداً لسلوكه وسياساته داخل الشارع الإسرائيلي نفسه، والعودة إلى الفلسطينيين أنفسهم لترتيب بيتهم الداخلي أولاً، بعد منحهم الأمل بحل قضيتهم حلاً عادلاً، يضمن الاستقلال والحرية لهذا الشعب، والأمن والسلام لهذه البقعة المقدسة من الأرض.
{ كاتبة وباحثة فلسطينية
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك