يبحثُ المصابون بالأمراض المزمنة غير المعدية في البحرين وفي كل دول العالم عن أسباب ومصادر تفشي هذه الأسقام والعلل التي تزيد أعداد الذين يسقطون فريسة لها وتتعاظم سنة بعد سنة، مثل السرطان، وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب، وداء السكري.
ويُجمع الأطباء بأن هناك أسباباً تقليدية معروفة منذ عقود للإصابة بهذه الأمراض والعلل، مثل العامل الوراثي وحَمْل الإنسان لجينات من آبائه وأجداده تجعله أكثر عرضة وقابلية من غيره للوقوع في شرها، إضافة إلى العوامل المتعلقة بسلوك الإنسان اليومي وعاداته وتصرفاته من ناحية التدخين، وممارسة الرياضة وبذل الجهد العضلي، ونوعية وكمية الوجبات الغذائية التي يتناولها كل يوم.
وفي المقابل هناك عامل جديد بدأ يظهر على السطح بقوة ومصدر حديث أخذ ينكشف فيفرض نفسه كسبب قوي، بل وأشد حسماً في الإصابة بهذه الأمراض من الأسباب التقليدية القديمة، وهو تشبع الهواء الجوي بكميات وأنواعٍ لا تعد ولا تحصى من شتى أنواع الملوثات السامة والخطرة والمسببة للسرطان، سواء في بيئة المنزل الداخلية، أو البيئة الخارجية. ولهذه الملوثات التي يستنشقها الإنسان في الهواء الجوي مصادر كثيرة متزايدة وموجودة في كل مدن العالم الغنية والفقيرة، منها السيارات، ووسائل المواصلات الأخرى، والمصانع ومحطات توليد الكهرباء، إضافة إلى مصادر تلوث الهواء في البيئات الداخلية كالفرن المنزلي الذي يعمل بالغاز أو الخشب والفحم، وحرق البخور والعود والتدخين، وآلاف المنتجات المنزلية والشخصية التي لا يستغني الإنسان عن استخدامها بشكل يومي.
ولذلك ينكب العلماء منذ سنوات على سبر غور دور تلوث الهواء في الوقوع في هذه الأمراض المزمنة، سواء من ناحية أعداد المصابين، أو من ناحية كيفية وآلية عمل الملوثات في جسم الإنسان للإصابة بكل مرض من هذه الأمراض، وهناك الكثير من الأبحاث والدراسات التي تُنشر سنوياً لمناقشة هذه الظاهرة الحديثة نسبياً والتعرف على تفاصيلها من قرب.
ومنها الدراسة المنشورة في الهند في الأول من نوفمبر 2023 حول العلاقة بين تلوث الهواء الجوي في البيئات الخارجية وإصابة الناس بداء السكري من النوع الثاني، حيث هدفت الدراسة إلى إثبات أن التعرض سنوات طويلة للملوثات في الهواء الجوي يزيد من مخاطر الإصابة بداء السكري من النوع الثاني. وهذه الدراسة نُشرت في «المجلة الطبية البريطانية» (British Medical Journal) تحت عنوان: «التعرض للجسيمات الدقيقة، ومؤشرات نسبة السكر في الدم وحالات مرض السكري من النوع الثاني في اثنين من المدن الهندية». وقد شملت عينة الدراسة أكثر من 12 ألفا من سكان مدينتي دلهي وتشناي ولمدة سبع سنوات، حيث توصلت إلى أن ارتفاع تركيز الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكرومتر (PM 2.5) بنسبة 10 ميكروجرامات من الدخان في المتر المكعب من الهواء الجوي يؤدي إلى 0.40 زيادة في تركيز سكر الجلوكوز في الدم (fasting plasma glucose)، و0.021 وحدة زيادة في الهيموجلوبين السكري (glycosylatedhemoglobin). فنتائج هذه الدراسة تؤكد أن أي ارتفاع في نسبة الدخان الذي ينبعث من السيارات والمصانع وغيرهما يؤدي إلى زيادة في مخاطر الوقوع في وباء السكري من النوع الثاني، وبعبارة أخرى فإن هناك علاقة بين التعرض للملوثات فترة طويلة من الزمن ولو كانت بنسبٍ منخفضة والإصابة بالسكري من النوع الثاني.
وهناك كثير من الدراسات الدولية الشاملة التي نُشرت في مجلة «لانست صحة الكوكب»(Lancet Planetary Health)، منها المنشورة في يوليو 2022 تحت عنوان: «تقديرات وأنماط العبء الدولي لمرض السكري من النوع الثاني الناجم عن تلوث الهواء بالجسيمات الدقيقة في الفترة من 1990 إلى 2019، تحليل للمعلومات من دراسة عام 2019 للعبء الدولي للأمراض». وقد شملت الدراسة 204 دول، وخلصت إلى أن خمس الحالات المرضية لداء السكري من النوع الثاني في عام 2019 على المستوى الدولي كان بسبب التعرض للدخان في الهواء الجوي، كما أفادت نتائج الدراسة بأن نحو 3.2 ملايين إنسان حول العالم يصابون بالسكري لأسباب بيئية لها علاقة بتلوث الهواء، كذلك تسبب المرض في 3.78 حالات وفاة لكل مائة ألف إنسان، إضافة إلى 167 حالة إعاقة لكل مائة ألف من السكان.
كما نُشرت دراسة في سبتمبر 2023 تحت عنوان: «التعرض قبل الحمل وقبل الولادة لملوثات الهواء وخطر الإصابة بداء سكري الحمل»، حيث تمت دراسة العلاقة بين التعرض للجسيمات الدقيقة وثاني أكسيد النيتروجين والأوزون ومخاطر الإصابة بسكري الحمل، وخلصت إلى أن مخاطر التعرض لهذا المرض تزيد مع التعرض للهواء الملوث.
علاوة على الدراسة المنشورة في 22 يونيو 2023 تحت عنوان: «العبء الدولي والإقليمي والوطني لمرض السكري من 1999 إلى 2021 مع توقعات الإصابة بالرمد حتى 2025». وقد أفادت الدراسة إلى أن السكري يعد من أهم أسباب حالات الوفيات والإعاقة على المستوى الدولي ويؤثر في كل دول العالم، حيث بلغ عدد الحالات 529 مليونا في عام 2021، وهذه الحالات سترتفع إلى 1.31 بليون بحلول عام 2025، معظمهم من النوع الثاني من داء السكري الذي له علاقة بتلوث الهواء وعوامل أخرى.
وهناك العديد من الآليات التي تم اكتشافها مؤخراً حول كيفية عمل الملوثات عندما تدخل في جسم الإنسان فتصيبه بالأمراض المزمنة غير المعدية كداء السكري، ومعظمها يتركز في أن الملوثات الموجودة في الهواء الجوي، وبخاصة الدخان أو الجسيمات الدقيقة المتناهية في الصغر تدخل إلى الرئتين في أعماق الجهاز التنفسي فتتراكم فيها، ثم تنتقل إلى الدورة الدموية، ومنها إلى خلايا كل أعضاء الجسم، سواء أكانت خلايا المخ أو القلب فتسبب لها الالتهابات المزمنة، كما تؤثر في إفرازات الهرمونات الحيوية في الجسم كالأنسولين الذي ينظم تركيز الجلوكوز في الدم، وتعرض الإنسان للإصابة بداء السكري.
ولذلك إذا أردنا فعلاً أن نحمي أنفسنا من شرور الوقوع في الأمراض المزمنة غير المعدية، فعلينا أن نعالج كل مصادرها وأسبابها، ومن أهمها وأشدها تنكيلاً بأمننا الصحي هو تلوث الهواء الجوي.
bncftpw@batelco.com.bh
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك