كان لصور عمليات الإبادة الجماعية، التي تمارسها قوّات الاحتلال الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في قطاع غزة منذ 7 أكتوبر، والتي صاحبها حصار خانق حُرم فيه القطاع من المياه والغذاء والوقود والدواء، وقصف متواصل ليل نهار على مدى الساعة جوًا وبرًا وبحرًا استخدمت فيه أطنان من المتفجّرات، ما جعل عدّاد الشهداء يصل بعد شهرٍ من بدء هذه العمليات إلى عشرة آلاف، والمصابون نحو 23 ألف، حوالي 50% منهم أطفال، وتدمير أكثر من 50% من المباني والبُنى التحتية؛ وهو القصف الذي طال المستشفيات والمدارس ومُخيمات اللاجئين والمساجد والكنائس، ومراكز «الأونروا» وموظفيها الأمنيين، كان لهذه الصور أن تُحرك الضمير الإنساني في شتّى دول العالم، وتجعله ينتفض ضد هذا العدوان، وهو ما نراه في الدبلوماسية الشعبية؛ من تفاعلات أعضاء المجالس النيابية، ومُنظمات المجتمع المدني من جمعيات أهلية ونقابات واتحادات عُمّالية ومهنية، سعت للضّغط على حكوماتها، وحشد الرأي العام داخل دولها لوقف العدوان، وإعطاء الفلسطينيين حقهم في تقرير مصيرهم وإقامة دولتهم المستقلة، حتى أخذت القضيّة الفلسطينية، تكتسب قوة دفع، حُرمت منها طوال السنوات الماضية.
ففي بريطانيا وقّع ما لا يقل عن 330 من أعضاء مجلس حزب العُمال البريطاني، على رسالة يُطالبون فيها رئيس الحزب «كير ستارمر» بإدانة العنف الإسرائيلي ضد المدنيين في غزة، وقالوا إن الكارثة الإنسانية المتزايدة في غزة تُؤثر فينا جميعًا، فيما يُشير ذلك إلى أن الانقسام في صفوف حزب العُمال البريطاني اتّسع مع أيام الحرب، وطالب عضو الحزب النائب في مجلس العموم «أندي مكدونالد»، بوقف الحرب، وشارك في تظاهرة مؤيدة للفلسطينيين، ما كان سببًا في إحالته للتّحقيق البرلماني، واتّهامه بمعاداة السامية، فيما أصدر اتحاد النقابات العمالية في إنجلترا، و«ويلز»، الذي يضم 5.5 ملايين عضو من 48 نقابة، قرارًا يُؤكد فيه التزامه بدعم النّضال الفلسطيني من أجل الحُرية، ومقاطعة إسرائيل، وسحب الاستثمارات منها، وفرض عقوبات عليها.
وفي 28 أكتوبر، شهدت لندن التظاهرة الوطنية الأسبوعية الثالثة للمطالبة بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، بمشاركة أكثر من 70 ألف مُتظاهر، ونظّمها تحالف واسع من المنظمات التضامنية الداعمة للحق الفلسطيني والرافضة للاحتلال الإسرائيلي، فيما توجّهت التظاهرة إلى البرلمان البريطاني، وشارك فيها برلمانيون، ومُمثلو نقابات عمالية، ورؤساء منظمات تضامنية، ووزراء حكومة الظل، والزعيم السابق لحزب العمال البريطاني، واعتبرت هذه المُظاهرات «بريطانيا» متواطئة في هذه الأعمال الإجرامية في حال استمرّت في تقديم الدعم العسكري والدبلوماسي والمالي لإسرائيل، أما زعيم الحزب الوطني الاسكتلندي «حمزة يوسف» فقد طالب بوقف إطلاق النار وإنشاء ممرّات آمنة إنسانية في غزة، وصرّح بأنه لا يمكن تبرير العقاب الجماعي للرجال والنساء والأطفال.
وفي 29 أكتوبر، اتّهم المرصد «الأورومتوسطي» لحقوق الإنسان في «جنيف»، زعماء ومسؤولي الاتحاد الأوروبي بالتواطؤ والانخراط في جرائم الحرب الإسرائيلية المستمرة ضد المدنيين في قطاع غزة للأسبوع الرابع على التوالي، وكان ذلك في رسالة وجّهها إلى رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي «أورسولا فون دير لاين»، طالب فيها بقيام الاتّحاد بإجبار إسرائيل على وقف إطلاق النار فورًا، وإنهاء حملة الإبادة الجماعية ضد سُكانها.
وكشف موقع مجلس «العموم» الكندي، في 3 نوفمبر، عن (عريضة) تُطالب رئيس الوزراء «جيستن ترودو» بالدعوة فورًا إلى وقف إطلاق النار، وتُطالب العريضة «كندا» تأييد العمل على رفع الحصار عن قطاع غزة، والسماح بإنشاء ممر إنساني، والتدخّل الإنساني الطارئ، ودعوة إسرائيل لاحترام التزاماتها بموجب اتفاقيات «جنيف» والقانون الدولي الإنساني، كما دعتها العريضة باحترام التزامها بحقوق الإنسان والدفاع عنها، واتّخاذ إجراءات تعكس هذا الاحترام لجهة حماية المدنيين الفلسطينيين.
وفي فرنسا خرجت أحزاب مهمة تُخالف موقف الحكومة الداعم لإسرائيل، في مقدمتها «حزب فرنسا الأبية» الذي رفض وصف عملية «حماس» بالإرهابية، وقالت رئيسة مجموعة «اليسار الراديكالي» بالجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي)، إن هجوم «حماس» يأتي في سياق تكثيف سياسة «الاستيطان» في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وبناءً على دعوات «حزب فرنسا الأبية»، والعديد من التنظيمات النقابية خرجت تظاهرات عديدة في باريس ومدن فرنسية أخرى مندّدة بالحرب الإسرائيلية على غزة، ومُطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار.
وفي مُظاهرة، 3 نوفمبر، قالت النائبة عن حزب فرنسا الأبية «أوريلي تروفيه»: ماذا ينتظر الرئيس الفرنسي «ماكرون» حتى يندّد بجرائم الحرب التي ترتكبها حكومة «بنيامين نتنياهو»؟
وفي أيرلندا، فيما شهدت العاصمة «دبلن» مُظاهرات حاشدة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، وعمليات الإبادة الجماعية التي يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي، كشفت النائبة الأيرلندية في البرلمان الأوروبي «كلير دالي»، عن منع الأصوات المؤيدة للقضية الفلسطينية في البرلمان الأوروبي مُقابل الدعاية المدفوعة لجيش الاحتلال الإسرائيلي في غزة، وقالت أمام البرلمان الأوروبي: «إن ما يحدث في غزة جريمة تاريخية، وأن الاتحاد الأوروبي غارق فيها، يجلس أعضاء البرلمان الأوروبي يُشاهدون المذبحة التي يقوم بها الإسرائيليون في غزة، ولا يستطيعون حتى إدانتها، نحن نتستّر على جرائم حرب تشمل تفجير مستشفى، وحتى الآن نحن عاجزون عن القول بحقوق للفلسطينيين»، فيما أكّد عضو البرلمان الأوروبي عن أيرلندا «مايك ولاس» دعمه للقضية الفلسطينية ووقوفه مع شعبها.
وبقدر أعداد الشهداء، وبقدر الدّمار الذي لحق المباني والمنشآت، أخذ «الرأي العام العالمي» يتغيّر من تأثّره بالرواية الإسرائيلية إلى «مساندته للقضية الفلسطينية»، فقد أصبحت الشوارع الأوروبية تعج بالمظاهرات المندّدة بالسياسات الإسرائيلية والداعمة للفلسطينيين، ولم يتوقف المتظاهرون عند ذلك فحسب، بل طالبوا حكوماتهم بالتخلي عن الانحياز الأعمى لتل أبيب، والمطالبة على الأقل بوقف إطلاق النار، وامتدت هذه المُظاهرات في عواصم ومدن رئيسية في قارات العالم الخمس، وفيما تُعد أمريكا اللاتينية هي الفناء الخلفي للولايات المتحدة الأمريكية، فقد قامت دول فيها بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل؛ وهي «بوليفيا، كولومبيا، شيلي، هندوراس»، وامتدّت المظاهرات في عديد من المُدن الأمريكية، لتتّسع رُقعة الغضب الشعبي ضد الدعم الأمريكي لإسرائيل.
وخرج الآلاف في مُظاهرات يرفعون لافتات، تُطالب بوقف الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وإنهاء الحصار الخانق على قطاع غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية، وامتدّت هذه المُظاهرات إلى واشنطن وأمام البيت الأبيض رافعة الأعلام الفلسطينية مُطالبة بالوقف الفوري لإطلاق النار، فيما تعهدوا بعدم تأييد مسعى «بايدن» لفترة رئاسية ثانية مندّدين بدعمه لإسرائيل قائلين: «يداك ملطّخة بالدماء»، فيما كانت الشرطة قد اعتقلت نحو 300 شخص محتجّون داخل «الكونجرس» في واشنطن، ينتمون إلى منظمة «الصوت اليهودي من أجل السلام» للمُطالبة بوقف إطلاق النار، من بينهم العديد من اليهود الأمريكيين الذين يشعرون بالقلق حِيال ما يحدث للفلسطينيين في غزة، وقالت الناطقة باسم المنظمة «سونيا بيرسون»: إن الحشد داخل «الكونجرس» ضمّ 400 يهودي أمريكي، و25 من الحاخامات المُعارضين للاحتلال الإسرائيلي، ويُطالبون «الكونجرس» بتمرير قرارٍ لوقف النار في غزة.
وفي «الكونجرس» الأمريكي قاطع مُحتجّون، في 1 نوفمبر، جلسة استماع لوزير الخارجية الأمريكية ووزير الدفاع لمُناقشة تقديم مساعدات لإسرائيل، ورفعَ بعضهم شعارات تُطالب بوقف إطلاق النار في غزة، ووقف الدعم الأمريكي للعملية الإسرائيلية، وقام آخرون برفع أكفّهم المُلونة بصباغ أحمر تعبيرًا عن إراقة الدماء في غزة، فيما رفع أكثر من 100 عضو في «الكونجرس» رسالة إلى الرئيس الأمريكي «بايدن»، طالبوا فيها بتحرك أمريكي فوري لمنع وقوع مزيد من الضحايا المدنيين، فيما أشارت صحيفة «واشنطن بوست» إلى أن وحدة الديمقراطيين خلف «بايدن» بدأت تتزعزع بسبب تزايد الأصوات المعارضة له في إدارته للحرب الإسرائيلية على غزة.
وفي سياق الدبلوماسية الشعبية، يعتزم برلمانيون عرب إعداد تقرير موسع بشأن الانتهاكات الإسرائيلية في قطاع غزة بهدف تقديمه إلى المحكمة الجنائية الدولية، ضِمن مساعي عدّة لمُلاحقة إسرائيل على جرائمها بحق الفلسطينيين، وقد توافق البرلمان المصري والبرلمان العربي، في 5 نوفمبر، على تشكيل لجنة مشتركة لإعداد هذا التقرير، والتّواصل مع برلمانات العالم كافّة؛ لكشف الحقائق وعرض ما يحدث من قبل سُلطات الاحتلال من جرائم حرب، واستهداف للمدنيين والنساء والأطفال، فيما كان البرلمان العربي قد سبق أن تقدّم بخطاب رسمي إلى مجلس حقوق الإنسان التّابع للأمم المتحدة، لتشكيل لجنة دُولية للتحقيق في جرائم الحرب التي ارتكبتها وترتكبها القوة القائمة بالاحتلال ضد المدنيين العزل من الأطفال والنساء والشيوخ بدعم ومساعدة دول كبرى.
أمّا مجلس «الأمة» الكويتي فقد أصدر، في أول نوفمبر، عدة توصيات أهمها مُلاحقة قادة إسرائيل العسكريين والسياسيين أمام المحكمة الجنائية الدولية وبرلمانات العالم، كما قرّر تأسيس «مدينة الكويت الإنسانية» في قطاع غزة، مع دعوة الحكومات والبرلمانات العربية والإسلامية لاتّخاذ خطوات مهمة في كسر الحصار ورفض التطبيع مع تل أبيب، ودعت أيضًا غرف التجارة ورجال الأعمال لتفعيل المقاطعة لإسرائيل، وشدّد البيان الكويتي على إغلاق الأجواء الكويتية وأراضيها أمام أي استخدام في أي عملية ضد الفلسطينيين، فيما استنكر نواب المجلس الصمت الأُممي الذي كشف عن تناقضات الدول الغربية وانقلابها على مبادئ حقوق الإنسان، وسقوط اتفاقيات الأُمم المتحدة بشأن تحقيق العدالة ونصرة المظلوم، فيما أكّد وزير الخارجية الكويتي «الشيخ سالم عبد الله جابر الصباح» أمام الجلسة أن الكويت مُتمسكة برفض التطبيع، مُشيرًا إلى أن ما تقوم به قوات الاحتلال يُمثل جريمة حرب.
وفي نفس اليوم وجّه البرلمان العربي نداءً إلى برلمانات واتّحادات وشعوب العالم الحر للالتفات إلى الكارثة الإنسانية التي خلقتها حرب الإبادة الجماعية، التي تشنّها القوة القائمة بالاحتلال (إسرائيل) على قطاع غزة، وتُمارس جرائم حرب وعقاب جماعي ضد شعب أعزل أمام مرآى ومسمع من العالم، في ظل فشل مؤسسات الأمم المتحدة، وازدواجية المعايير التي تنتهجها الدول الكبرى، والتي كان مأمول منها أن تلعب دورًا باسم الإنسانية لحماية أطفال ونساء وشيوخ فلسطين من القصف المتواصل ليلًا ونهارًا، وفي ظل التحدي السافر للقوة القائمة بالاحتلال لقرارات الشرعية الدولية، والقانون الدولي الإنساني.
وفي 2 نوفمبر، أعلن مجلس النواب البحريني إعادة السفير البحريني من إسرائيل إلى البلاد وقطع العلاقات الاقتصادية معها، وأن السفير الإسرائيلي قد غادر البحرين، ولذلك تكون البحرين أول دولة عربية تُعلق علاقتها مع إسرائيل، والأردن هي البلد الثانية، وذلك على خلفية القصف الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة مُنذ عدّة أسابيع.
من المُطالبة إذن بوقف إطلاق النار لحماية المدنيين ومحاكمة قادة إسرائيل على جرائم الحرب، اتّسعت تحرّكات الدبلوماسية الشعبية، وانتقلت هذه التحرّكات من الأروقة الضيقة إلى الشارع إلى المجالس النيابية، واستطاعت أن تحدث تغييرًا في موقف بعض الدول الغربية الفاعلة كفرنسا التي تدعو إلى مؤتمر دُولي للسلام، وقد تأتي هذه الدبلوماسية بنتائج قد لا تستطيعها الدبلوماسية الرسمية.
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك