لن يغفر التاريخ لأولئك الذين ظلوا صامتين، أو أظهروا أو عبروا عن مواقف «متوازنة» أو ما هو أسوأ من ذلك، دافعوا عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة المحاصر والفقير والمكتظ بالفعل.
وهذا ليس إعلاناً مبتذلاً، بل هو محاولة يائسة تهدف إلى هز العالم، وخاصة العالم الغربي، لإظهار درجة من الأخلاق في حين يموت الفلسطينيون بالآلاف، بينما تتناثر جثث الأطفال المسحوقة في كل حي في غزة.
كلا الأمر لا يتعلق بالتاريخ
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، أرادت واشنطن وحلفاؤها الغربيون فرض تاريخ جديد على الشرق الأوسط، بل على العالم الإسلامي، تاريخ يخوض فيه الغرب «حربًا حضارية ضد الإرهاب».
ومنذ ذلك الحين، ذُكر مرات عديدة، بشكل مباشر أو غير ذلك، أن الجناة، «الأشرار» في هذا السيناريو الأمريكي، هم المسلمون - دينهم، ولغاتهم، وثقافاتهم، وتركيبتهم المجتمعية ذاتها.
في الحقيقة، لم يكن هناك عدو جماعي. ولهذا السبب كان لا بد من اختراعه. ولم يكن المسلمون متحدين. وكانت لهم صراعاتهم الإقليمية والسياسية وحتى الطائفية. في الواقع، كانت معظم الحكومات الإسلامية تعتبر «حليفة للولايات المتحدة»، ومدينة بالفضل للأجندات الأمريكية، مهما كانت مدمرة وعنيفة.
في هذا العالم الوهمي، كان الشرق الأوسط يتكون من «الإسلاميين المتطرفين»، الذين وقعوا، بسبب «غيرتهم» المطلقة من التقدم والحضارة الغربية، عقدًا اجتماعيا لهزيمة الديمقراطية وتدمير التنوير.
وقفز الغرب، بما في ذلك إسرائيل والعديد من العملاء الآخرين، إلى متن الطائرة. لقد أرادوا جميعًا أن يكونوا جزءًا من هذه «الحرب على الإرهاب»، والفرص الاستراتيجية الوافرة التي تتيحها لهم.
لكن هذا التاريخ كان ولايزال ملفقا. لقد خاضت الولايات المتحدة الأمريكية، التي تتزعم العالم الغربي، حرباً لأسبابها الأنانية: النفط والغاز والمناورات الاستراتيجية والألعاب الجيوستراتيجية الكبرى.
وفي الوقت نفسه، كانت إسرائيل تقاتل ضد حركة التحرير الفلسطينية التي كانت موجودة قبل عقود من أحداث 11 سبتمبر 2001، وستظل موجودة حتى يتعافى الفلسطينيون ويعودون إلى وطنهم المستعمر.
هناك العديد من الشوفينيين والعنصريين في الغرب، الذين تجمعوا في نهاية المطاف في التشكيلات اليمينية المتطرفة التي نراها اليوم، استخدموا الإسلام والمسلمين ككبش فداء لتبرير عنصريتهم القائمة بشكل مستقل، وكراهيتهم للمهاجرين واللاجئين، وكعلف أو حطب في حربهم السياسية ضد أولئك الذين يسمون الليبراليين.
لا يعني ذلك أن أداء المجموعة الأخيرة، أي الليبيراليين الغربيين كان أفضل. إن التصريحات التي تبرر الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، والتي أدلى بها جو بايدن في واشنطن أو إيمانويل ماكرون في باريس، أو أولاف شولتز في برلين، لا يمكن تمييزها عن أي إيديولوجية فاشية في بلدانهم أو في أي مكان آخر.
هذه هي الحقيقة غير المريحة التي يتعين على الأمريكيين والغربيين عموماً أن يتعاملوا معها الآن. إن حربهم الأيديولوجية الداخلية ليست سوى مهزلة.
إن التيارات الليبرالية والمحافظة لا يمكن أن تعنيا شيئًا إلا عندما يتم اختبارهما. والمؤسسة الغربية برمتها، بألوانها الإيديولوجية المختلفة ـ مع استثناءات ضئيلة للغايةـ فشلت في الاختبار الأخلاقي بشأن فلسطين فشلاً ذريعاً.
ولكن من حسن حظ الفلسطينيين أن الغرب لا يملك كل الأوراق. على الاقل ليس المزيد. إن هذه ليست الفترة من عام 1990 إلى عام 1991، أو عام 2003، عندما شنت الولايات المتحدة الأمريكية حروباً كبرى ومدمرة في منطقة الشرق الأوسط، دون منازع إلى حد كبير، وسُمِح لها بإعادة تشكيل المنطقة بما يتناسب مع توقعاتها وتوقعات تل أبيب، وتوقعات بروكسل التي تحتضن مقر الاتحاد الأوروبي.
هناك شرق أوسط جديد ينشأ بالفعل، وهو يعد بأن يكون أسوأ كابوس لواشنطن، لأن أولئك الذين يتماسكون ويرصون صفوفهم خلف الفلسطينيين لم يعودوا مرتبطين بالعرق أو اللون أو العقيدة.
هناك عالم إسلامي جديد آخذ في الظهور، عالم لا يوجد فيه مساحة للإرهاب والعنف العشوائي ضد الناس الأبرياء.
إن هذا الشرق الأوسط الجديد المبدئي يتحد الآن حول قطاع غزة، تلك المنطقة الصغيرة من الأرض التي تبدو وكأنها أزمة إنسانية لا تنتهي أبداً، الأزمة التي خلقتها إسرائيل، وإسرائيل وحدها.
عندما قررت إسرائيل محاصرة قطاع غزة في أعقاب الانتخابات الفلسطينية الديمقراطية عام 2006، لم يتوقعوا قط أن الفلسطينيين هناك سيكونون قادرين على الصمود فترة طويلة، وسيكونون قادرين على القتال، وسيكونون قادرين على تأكيد أنفسهم كمركز للنضال من أجل الحرية الفلسطينية – في الواقع، النضال ضد الإمبريالية الأمريكية في المنطقة بأكملها.
هذا ما أظهرته أحداث غزة لنا ولأي شخص يرغب في تحرير نفسه من عقود من التلقين والإملاءات الأمريكية السافرة، سواء في منطقة الشرق الأوسط أو في خارجها.
أولا- لا يمكن تحقيق السلام أو الاستقرار أو الأمن أو الرخاء في منطقة الشرق الأوسط دون تحقيق العدالة لفلسطين وتكريس الحرية للشعب الفلسطيني، كسائر الشعوب الحرة الأخرى في العالم.
ثانياً - على الرغم من أن العرب قد خذلوا فلسطين إلى حد كبير، ومازالوا يفعلون ذلك، فإن الدول الإسلامية تجد أرضية مشتركة حول دعمها للشعب الفلسطيني. وإذا استمر هذا الزخم ــوينبغي له أن يستمرــ فسوف يغير قواعد اللعبة برمتها.
ثالثاً- إسرائيل ضعيفة عسكرياً، وعلى الرغم من كل التأكيدات التي قدمتها تل أبيب على مر السنين، فهي ليست سوى نظام تابع لواشنطن، ويرتبط بقاؤها بدعم الولايات المتحدة الأمريكية بكل الطرق الممكنة.
رابعاً- لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية تملك كل الأوراق. ومع وحدة المقاومة في جميع أنحاء الشرق الأوسط، والنفوذ المتزايد لإيران، ورفض الدول العربية لعب دور التابعين لواشنطن، والموقف القوي من الصين وروسيا وإيران وتركيا وغيرها، لم تعد المنطقة منطقة آمنة لواشنطن.
خامسا- إن المقاومة المسلحة ليست ضرباً من الخيال، كما اعتقد الكثيرون وكرروا على مر السنين. صحيح أنه في حين أن غزة لن تكون قادرة بمفردها على هزيمة إسرائيل، فإن قوة المقاومة المشتركة تظهر أن إسرائيل لم تعد الدولة القوية التي هزمت بمفردها -وبدعم أمريكي بالطبع- العديد من جيوش الدول العربية عام 1967.
سادسا- وربما الأهم من بين كل هذه النقاط الآنفة الذكر، هو أن غزة قللت من حدة الصراع الطائفي في الشرق الأوسط، وهو صراع دام عقودًا وأثارته أطراف عديدة، بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل وحكومات الشرق الأوسط والعديد من الجماعات الإرهابية.
عندما شنت الولايات المتحدة الأمريكية حربها على أفغانستان في عام 2001، أشعلت فتيل الحرب مرة أخرى على العراق في عام 2003، لم يكن من المتوقع أن يعيد الشرق الأوسط، بعد عقدين فقط من الزمن، صياغة نفسه بما يتجاوز التعريفات والتوقعات الأمريكية.
إن الاعتقاد بأن غزة الصغيرة هي الشرارة التي أعادت تركيز طاقات المنطقة برمتها هو معجزة سياسية سيجد العديد من علماء السياسة صعوبة في فهمها، ناهيك عن تفسيرها.
{ أكاديمي وكاتب صحفي
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك