في أعقاب التداعيات الإنسانية المتتالية للحرب في غزة، أشار «جدعون راشمان» في صحيفة «فايننشال تايمز»، إلى كيف ارتكز الخطاب الغربي بشكلٍ مباشرٍ على مسألة إلى أي جانب أنت -الإسرائيليون أم الفلسطينيون؟ في إشارةٍ واضحةٍ إلى مدى الاستقطاب الحاد الذي شهده هذا الخطاب، متجاهلًا المعاناة الإنسانية لسُكان القطاع، وهو ما اتّفق معه «جدعون ليفي» في صحيفة «هآرتس»، الذي أعرب عن أسفه لمعاناة المدنيين الأبرياء في غزة الذين لم يعرفوا يومًا واحدًا من الحُرية.
في مجلة «فورين أفيرز»، كتب «عامي أيالون» الرئيس الأسبق لجهاز الاستخبارات الداخلية الإسرائيلية «الشاباك»، إلى جانب «جلعاد شير» مُفاوض السلام السابق والزميل لدى معهد «بيكر» للسياسة العامة، و«أورني بتروشكا» رائد أعمال إسرائيلي في مجال التكنولوجيا؛ أن حلّ الدولتين يجب أن يكون هو الطريق إلى الأمام بمجرد توقّف القتال، ولتسهيل ذلك، يستوجب على «نتنياهو» الرحيل عن السلطة، لأنه لا يستطيع توفير مستقبل سِلمي لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين على حدٍ سواء.
في بداية الحرب، اعتَبر كل من «يوري بار جوزيف» أستاذ في قسم العلاقات الدولية بجامعة «حيفا»، و«أفنير كوهين» من معهد «ميدلبري» للدراسات الدولية؛ أن المخططين العسكريين الإسرائيليين لم يُفكّروا مُطلقًا في قدرة «حماس» على إطلاق عملية عسكرية بهذا الشكل، حتّى في أسوأ السيناريوهات، وهو ما يعكس نوعًا من الغطرسة الإسرائيلية، التي كانت محلا للانتقاد من جانب «جدعون ليفي» في «هآرتس» الذي هاجم شعور الحكومة الإسرائيلية ومُؤيديها، والذين ادعوا أنهم لا يمكن المساس بهم جراء إطلاقهم النار على الأبرياء، ومُهاجمتهم، وطرد الأشخاص من بيوتهم، ومصادرة ممتلكاتهم وسرقتهم، وتنفيذ التطهير العِرقي، والاستمرار في حصار أكثر من 2 مليون إنسان.
وتأكيد للتعليقات الصحفية الإسرائيلية التي تُهاجم سلوك الحكومة في تل أبيب، خاصةً بعد أن تجاوز عدد الشهداء المدنيين الفلسطينيين أكثر من 8000 شخص، واصل «ليفي» انتقاده، وقال: كيف أنه داخل المجتمع الإسرائيلي ممنوع من حتى التعاطف مع السُّكان الأبرياء؟ مُسجلًا كيف أن اليساريين الإسرائيليين ــ الذين قبل الحرب كانوا يعتبرون أنفسهم مستنيرين لنظام الفصل العنصري المفروض على سكان الأراضي المحتلة ـــ يدعمون الآن الإجماع على الهجمات العسكرية المُتواصلة ضد غزة؟
ومع تفاقُم المعاناة الإنسانية في غزة، وتراجع أمن إسرائيل في ظل أجواء من التوترات الإقليمية المتصاعدة، تزايدت الدعوات الموجّهة إلى الحكومة الإسرائيلية للوصول إلى حلٍ سلمي للحرب، وإحياء التحرّك نحو حل الدولتين، وفي مثل هذه الأوضاع، تمّ الإعراب عن الإيمان بالحاجة إلى العمل بشكلٍ أوثق مع السلطة الفلسطينية، وضرورة العمل على عدم استمرار «بنيامين نتنياهو» في قيادة إسرائيل سياسيًّا.
وقد وثّق «أرييل بيرنشتاين»، وهو جندي سابق في الجيش الإسرائيلي يعمل الآن في منظمة «كسر الصمت» المناهِضة للاحتلال؛ لصحيفة «غارديان»، تجاربه الخاصّة في القتال بغزة عام 2014 ليخلص إلى: أنه يجب علينا أن نضغط من أجل التوصّل إلى اتّفاق مع الفلسطينيين من شأنه أن يضع حدًا للاحتلال وحصار غزة، مُضيفًا أن القادة السياسيين الإسرائيليين كذبوا علينا بدعوى أننا قادرون على إدارة الصراع واحتوائه.
وأعادت «فورين أفيرز» التأكيد أنه يجب على الحكومة الإسرائيلية العمل على تحديد استراتيجيتها طويلة المدى، بما يعني رؤية سياسية، ليس فقط من أجل خفض التوترات مع دول الجوار، ولكن أيضًا لتأمين مستقبلها كدولة، ولتحقيق سلام طويل الأمد في الشرق الأوسط، وأكّدوا أن «نتنياهو» غير مُؤهّل لتوجيه أي جزء من عملية السلام، وأنه يجب عليه الاستقالة فورًا إذا أرادت إسرائيل أن تُتاح لها أي فرصة للتعافي من الدمار الذي ألحقه بأمنها واقتصادها ومجتمعها.
وسجّل «يائير روزنبرغ» من مجلة «ذي أتلانتيك»، كيف تظهر بيانات الاستطلاع الهُوّة بين «نتنياهو» والرأي العام، حيث وَجد أحد الاستطلاعات أن أكثر من نصف الناخبين يعتقدون أنه يجب أن يستقيل، وأن الحكومة الإسرائيلية يجب أن تُعيد تشكيل نهجها بالكامل تجاه الفلسطينيين، وأن تُقدّم لهم أُفقًا حقيقيًا للسلام، وهو ما أكّد عليه «مني ماوتر» بصحيفة «هآرتس»، الذي أكد أن إنهاء دوّامة سفك الدماء تتطلّب الاعتراف بالمواطنة الفلسطينية والحق في تقرير المصير.
وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق «إيهود أولمرت» دعمه لحل الدولتين، مُؤكّدًا لمجلة «بوليتيكو» الأمريكية أنه يظل الحل السياسي الوحيد، ولتحويل ذلك إلى حقيقة، فقد أشار إلى أن اللحظة الحالية تُمثّل فرصة سانحة للسلطة الفلسطينية للتدخّل، وبدء مفاوضات جادة، لكنه اعترف بأن هذا يتطلب أيضًا تعاونا من الجانب الإسرائيلي، وهو غير موجود في الوقت الراهن في ظل وجود «نتنياهو» على رأس الحكومة في تل أبيب.
وأوضح «ياريف أوبنهايمر» مدير سابق لحركة «السلام الآن»، بالإضافة إلى كونه مديرًا لائتلاف «دولتين»، هذا الشعور، حيث يدعو إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للضفّة الغربية والقدس الشرقية، ويعترف بأن حالة العداء في الرأي العام الإسرائيلي ستستغرق سنوات للتغّلب عليها، لكن الحرب الأخيرة تُمثّل فرصة لتغيير شركاء التفاوض من أجل التوصّل إلى السلام، وأنه مع تراجع قوة «حماس» وازدياد نفوذ السلطة الفلسطينية في غزة، فإن ذلك سيكون مؤشرًا إيجابيًا ومُشجّعًا للحكومة الإسرائيلية لرؤية اتفاق سلام مع الشعب الفلسطيني في يوم من الأيام.
في الوقت نفسه، أصدرت كل من «ليلى موران» و«أليكس سوبيل»، النائبان البريطانيان من أصول فلسطينية وإسرائيلية، دعوة مشتركة إلى السلام، وأشارا أن من مسؤولية إسرائيل والمجتمع الدولي منع وقوع كارثة إنسانية في غزة، وأنّ الغرب سيحتاج إلى المساعدة في إعادة إعمار القطاع، وخَلصا إلى أنه عندما تنتهي هذه الحرب، يجب على المجتمع الدولي أن يعمل من أجل حل طويل الأمد، وهو جُهد يتطلّب تسخير طاقات الولايات المتحدة والاتّحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والعالم العربي حتى يتمكّن الجميع من العيش في سلام وكرامة وأمن.
ومع ذلك، مازالت كثير من الأصوات داخل إسرائيل تتبنّى خطابًا مُناهضًا للفلسطينيين، وأشار «جدعون ليفي» إلى محرّري الشؤون الفلسطينية «نتالي شيم طوف» و«تسفي يحزقيلي»، في القناة 13 الإسرائيلية، الذين دعوا إلى تصعيد الحملات العسكرية في غزة، واصفًا مثل هذا الخطاب بـ«الشر» الذي يعكس انعدام الضمير وحسّ العقل في إسرائيل. وأنه في ضوء انتشار مثل هذه التصريحات في وسائل الإعلام الإسرائيلية، أفاد «بيرنشتاين» أن إسرائيل هذه الأيام، بات فيها النظر إلى البقاء مُتضامنًا مع الفلسطينيين، والتمسّك برؤية السلام والحياة المشتركة، على أنه أمر ساذج في أحسن الأحوال، وخيانة في أسوأها.
إن التصريحات العلنية لعديد من المعلقين والخبراء الإسرائيليين، مثلما تبيّن سلفًا، تُظهر أن هناك من داخل إسرائيل، من يُدرك المسار المُدمّر الذي سعت حكومة «نتنياهو» والجيش الإسرائيلي إلى تحقيقه، وأنه حتى إذا هُزمت «حماس» داخل غزة، فإن العواقب على الاستقرار الإقليمي، والمدنيين الفلسطينيين، ومستقبل الأمن الإسرائيلي على المدى الطويل، سوف يتأثّر بشكلٍ خطير، وأنه لا يُمكن تجاهل مخاطر حدوث المزيد من التصعيد المدمّر على الجميع في الشرق الأوسط.
في نهاية المطاف، وبعد 75 عامًا من الصراع، أعرب «ليفي» عن أسفه من أن دائرة العنف والانتقام والوحشية الأخيرة، من قِبل المتشددين الإسرائيليين والشخصيات الإعلامية التي تتبنّى ضرورة (تسوية غزة بالأرض)، تُظهر أننا لم نتعلم شيئًا، وأن إسرائيل تدفع ثمنًا باهظًا مرة أخرى لـ«غطرستها»، وأن استمرار الصراع في مساره الحالي بحسب «مني ماوتر»، سيحوّل إسرائيل إلى الدولة الأكثر إجرامًا في العالم، وسيُؤدي إلى أعمال عُنف واسعة النطاق وطويلة الأمد بين إسرائيل والعالم الإسلامي، وأنّ الرحمة والشفقة تجاه معاناة الأبرياء من جميع أطراف الصراع بحسب «راشمان»، لا تُمثّل موقفًا أخلاقيًا فحسب، بل إنها أيضًا (الطريقة العملية الوحيدة للمُضي قدمًا).
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك