إذا كانت الأزمات تمثل تحديًا للدول والمنظمات الدولية فإنها تعد تحديًا للباحثين في الوقت ذاته إذ تكون الفضائيات هي محل الاهتمام الأول للرأي العام العالمي لمتابعة تطورات الأزمة إلا أنه خلال الأزمات تثار أفكار تبدو محل اهتمام وتفكير استراتيجي ليس بالضرورة أن يكون ذا صلة بأزمة ما ولكن ضمن استراتيجيات الصراعات عموماً ومن بين تلك الأفكار حروب المدن، صحيح أن الحديث خلال السنوات الماضية قد تمحور بشكل أساسي حول تغير مفهوم الأمن والتهديدات الأمنية وخاصة في ظل التطور التكنولوجي الذي ألقى بظلاله على الاستراتيجيات الأمنية والدفاعية للدول ولكن دون الحديث بشكل كاف عن حروب المدن بالرغم من وجود خبرات إقليمية ودولية بشأن هذا النوع من المواجهات بل إن حلف شمال الأطلسي »الناتو« أعلن أن لديه استراتيجية غير معلنة بشأن حروب المدن ومن المعروف أن خطط واستراتيجيات الحلف تكون حكرا على دوله الأعضاء باعتباره تحالفا دفاعيا، ربما تكون هناك بعض الاستشارات التي يقدمها الحلف للشركاء ضمن شراكاته ولكن دون أن يطال ذلك الاستراتيجيات والخطط الخاصة بالحلف.
وبغض النظر عن المسميات فالبعض يطلق عليها حروب شوارع أو مواجهات جيوش نظامية مع جماعات مسلحة فإن المضمون هو أن تلك الحروب تجري في أماكن غير اعتيادية للحروب وأطراف متباينة في القدرات والتكتيكات، وتوجد عديد من الدراسات والتقارير التي تناولت تلك القضية بشكل تحليلي من خلال الإشارة إلى أمثلة محددة ومنها على سبيل المثال لا الحصر معركة مدينة ستالينجراد الروسية واستمرت زهاء ستة أشهر وكانت نتيجتها هزيمة القوات الألمانية أمام قوات الاتحاد السوفيتي آنذاك خلال الحرب العالمية الثانية والتي كانت معركة حاسمة في تلك المواجهات.
ولم تكن الحرب العالمية الثانية منشأة لمفهوم حروب المدن ولكنها تمتد إلى آلاف السنين والتاريخ يتضمن أمثلة ونماذج عديدة تعود إلى عصور سحيقة لا مجال لذكرها في مساحة هذا المقال المحدودة، ولكن على المستوى الدولي أثيرت تلك القضية خلال المواجهات بين القوات الروسية والأوكرانية وخاصة في مدينة باخموت التي استمرت فيها المواجهات أشهرا طويلة، وعلى المستوى العربي يوجد مثالان بارزان أولهما: الصراع الدائر في السودان وخاصة المواجهات في مدينة الخرطوم، وثانيها: معركة الموصل والفلوجة عام 2004 في العراق خلال المواجهات مع القوات الأمريكية، فضلاً عن المواجهات مع تنظيم داعش في العراق والتي استغرقت حوالي 9 أشهر من خلال التعاون بين القوات الأمريكية وقوات الأمن العراقية للقضاء على ذلك التنظيم ولم يكن العامل الحاسم هو نوع الأسلحة ولكن الحروب في المدن والتي أسفرت وفقاً لبعض التقديرات عن مصرع حوالي 11 ألفا من المدنيين.
وقد يكون ما سبق معروفا للبعض ولكن في تقديري أن حروب المدن تثير العديد من الإشكاليات وتتضمن دروساً مستفادة للدول التي تقوم بتصميم المدن ضمن خطط التوسع العمراني، وأولى تلك الإشكاليات كيفية حماية السكان المدنيين خلال تلك المواجهات، صحيح أن القانون الدولي الإنساني يتضمن سبل حماية هؤلاء المدنيين من خلال اتفاقيات جنيف وبروتوكولاتها الإضافية بيد أن ثمة فجوة بين النصوص القانونية والواقع خاصة في ظل احتدام بعض الصراعات وعدم قدرة ممثلي المنظمات الدولية المعنية من الوقوف على حقيقة الأوضاع من قرب، أما الإشكالية الثانية فهي كيفية إدارة المواجهات داخل تلك المدن، ربما تكون هناك فرص للمناورة في الأماكن والمساحات المفتوحة ولكن المدن وخاصة تلك المكتظة بالسكان لا تتيح قدراً كبيراً من المناورة ولا تترك الكثير من الخيارات ففي مايو من عام 2022 قال الجنرال مارك ميلي وهو ضابط أمريكي رفيع المستوى خلال كلمة له أمام الأكاديمية العسكرية الأمريكية موجهاً نصائحه إلى الخريجين الجدد من تلك الأكاديمية أنه «سيتعين عليهم التأقلم مع المدن» محذراً «من أن ذلك سيغير الجيوش مع وجود تداعيات هائلة على كل شيء ابتداءً بأنماط التمويه والأسلحة وصولاً إلى تصميم المركبات والخدمات اللوجستية» ، ولا شك أن ذلك الخطاب سواء من حيث المضمون أو التوقيت يعكس قناعة مهمة مؤداها أن الحروب في شكلها التقليدي أو بالأحرى المواجهات غير النظامية آخذة في التزايد ضمن مناطق صراعات مختلفة من العالم، أما الإشكالية الثالثة فهي تدمير البنية التحتية للمدن خلال المواجهات بما يعنيه ذلك من التأثير في عمل الخدمات الأساسية للمواطنين، فضلاً عن آثار الدمار الهائلة لاسيما الأماكن الأثرية على غرار ما قام به تنظيم داعش في العراق.
وفي تصوري أن قضية حروب المدن والتي لا توجد بشأنها الكثير من الدراسات التي تتناول جوانبها المختلفة سوى من خلال التحليلات العسكرية فإن هناك حاجة أيضاً إلى مناقشة الدروس المستفادة مستقبلاً للدول التي تقوم بإنشاء مدن ضمن خطط التوسع الحضري وأولها: ضرورة أن تكون هناك شبكات اتصالات مؤمنة لديها بدائل للعمل خلال الأزمات وكان لافتاً عندما تضررت بعض محطات الكهرباء في أوكرانيا كان لديها القدرة على العمل من خلال بدائل مؤمنة وهذا الأمر ينسحب على كل القطاعات الأخرى ومنها الاتصالات لأنه خلال الأزمات من الأهمية بمكان أن يكون هناك شبكة اتصالات مؤمنة تجنبا لحرب الشائعات، وثانيها: تصميم المدن بطريقة تسمح بوجود ملاجئ مؤمنة لحماية المدنيين خلال المواجهات العسكرية، وثالثها: وجود خطط طوارئ تتيح للمدنيين الحصول على احتياجاتهم الأساسية خلال المواجهات وهذا يثير مسألة التخطيط الاستراتيجي خلال الأزمات وخاصة المواجهات المسلحة، ورابعها: توظيف التكنولوجيا في حماية المدن وتأمينها وخاصة أجهزة الاستشعار والإنذار المبكر.
وربما تكون المقترحات مفيدة بشأن المدن الجديدة إلا أن المعضلة تتمثل في المدن القائمة بالفعل والتي ازداد عددها وكثافتها السكانية بما يضاعف من أعداد الضحايا المدنيين خلال الصراعات وفي هذا السياق يقول أنتوني كينج مؤلف كتاب «حرب المدن في القرن الحادي والعشرين» إنه قبل ثمانين عاماً قاتل ما يقرب من نصف مليون محارب للسيطرة على مدينة ستالينجراد، التي كان عدد سكانها قبل الحرب العالمية الثانية حوالي 400000 نسمة إلا أن اليوم فإن المدن تطوق القوات المسلحة، وهي كلمات ذات دلالة وتعكس التحدي الهائل الذي يواجه القوات المسلحة خلال المواجهات في المدن. ويعني ما سبق أن حروب المدن بالرغم من أبعادها العسكرية المهمة إلا أنها تتضمن جوانب إنسانية وقانونية تحتاج ربما إلى دراسات مستفيضة من جانب الباحثين لكونها أضحت إحدى ساحات المواجهات في عديد من الصراعات بما يتطلبه ذلك من إجراءات احترازية تتضمن حماية المدنيين والقدرة على تأمين احتياجاتهم الأساسية خلال تلك المواجهات وربما يكون مفيداً دراسة التجارب التاريخية في هذا الشأن.
{مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية
والدولية بمركز «دراسات»
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك