أدّت عملية طوفان الأقصى التي قامت بها «حماس» يوم 7 أكتوبر 2023 ردًا على الانتهاكات الإسرائيلية لباحات المسجد الأقصى المبارك واعتداءات المستوطنين الإسرائيليين على الفلسطينيين في القدس والضفة الغربية ولرفع الحصار عن القطاع المستمر منذ 16 عامًا، إلى شَن إسرائيل حربًا انتقامية عنيفة على قطاع غزة، قدّم خلالها القادة الغربيون دعمهم المُطلق لها؛ أودت حتى اليوم بحياة وإصابة الآلاف من المدنيين الفلسطينيين، وتهجير مئات الآلاف منهم، وارتكاب المجازر في المستشفيات والمدارس والمباني العامة، وهدم 200 ألف منزل وتخريب البُنى التحتية وتجريف الأراضي، وقد تجاهلت تصريحات هؤلاء القادة إدانة هذه الجرائم بحق المدنيين العزل، لا بل شاركوا إسرائيل في تزييف الحقائق وتبنيها، مع أن هجوم «حماس» لم يحدث من فراغ كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، فهذا الموقف الغربي منح إسرائيل الضوء الأخضر لتنفيذ إبادة جماعية ترتكبها كل يوم مُنذ شهر تقريبًا، دون أدنى مُساءلة أو حتى مطالبة بوقف العدوان واحترام القوانين والقرارات الدولية.
وبالمقارنة مع الحرب الأوكرانية، قدّمت «واشنطن»، ومعها العواصم الأوروبية؛ السلاح الوفير للأوكرانيين لتنظيم دفاعهم عن أرضهم، وأمدّتهم بالمساعدات المالية والاقتصادية، وفتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين، وأدانت روسيا بزعم استهداف المدنيين، بما في ذلك تبني قرارات الأمم المتحدة ضدها، ودعمت قرار «المحكمة الجنائية الدولية»، بإصدار مذكرة اعتقال، بحق «بوتين».
وهنا تتضح المعايير المزدوجة فيما يتعلق بحقوق الإنسان من خلال تصريحات القادة الغربيين المنحازة بشكل صارخ، أمثال «جو بايدن»، و«ريشي سوناك»، و«إيمانويل ماكرون»، و«أولاف شولتس»، ووزرائهم، و«أورسولا فون دير لاين» رئيسة المفوضية الأوروبية، بشأن حرب غزة؛ والتي تمحورت حول «حق إسرائيل في الدفاع عن النفس».
وفي حين أن «واشنطن»، و«لندن» -بعد ما يقرب من أربعة أسابيع من إراقة الدماء -قد أيّدتا فكرة «الهدنة الإنسانية» للإفراج عن الأسرى لدى «حماس» لوقف معاناة المدنيين، وللسماح بإرسال المساعدات الضرورية إلى غزة، فقد حالتا دون خروج قرارات من «مجلس الأمن»، تدعو إلى وقف إطلاق النار.
بالمقابل قدّمت الولايات المتحدة لإسرائيل أكبر حاملة طائرات «جيرالد فورد» وأتبعتها بحاملة أخرى «ايزنهاور»، ومستشارين أمنيين وعسكريين، وأرسلت لها بريطانيا سفينتين وطائرات تجسس، هذا إلى جانب دعم حكوماتهم، ووسائل إعلامهم لها، بل التقليل من حجم الكارثة الإنسانية، التي تتكشف بسبب الغارات الجوية والبحرية والبرية التي تشنها قوات الاحتلال على القطاع، راح ضحيتها قرابة عشرة آلاف شهيد من بينهم 4000 طفل، و2187 امرأة، و500 مُسن، إلى جانب 2000 مفقود منهم 1100 طفل ما زالوا تحت الأنقاض، ووصل عدد الجرحى إلى 21 ألفًا، هذا إلى جانب استهداف 57 مؤسسة صحية ومقتل 130 كادرًا صحيًا وتدمير 25 سيارة إسعاف، وهدم أحياء مدنية بالكامل ما أدى إلى نزوح نصف سكان القطاع، البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة، وطال الاستهداف الإسرائيلي العاملين في المنظمات الدولية في مجال الإغاثة الإنسانية، حيث قتل 66 منهم وفقًا لمصادر الأمم المتحدة، كما ارتفعت حصيلة القتلى من الصحفيين إلى أكثر من 35 صحفيًّا.
إن تصريحات القادة الغربيين تثبت أن دولهم مشاركة في العدوان على غزة، إذ إن إدانة «بايدن»، لـ«حماس» ووصفها بأنها (شر خالص)، وتعليق «ماكرون»؛ بأنه يجب قتال المسلحين (بلا رحمة)، واقترح تشكيل تحالف دولي مماثل للذي حارب تنظيم داعش لمحاربة «حماس»، وعندما يقترن ذلك بتصريحات مثل ما علّق به «سوناك»، من أن حكومته ستبذل أقصى جهدها لدعم إسرائيل في استعادة الأمن الذي تستحقه، وتصريحات مماثلة للرئيس الألماني ووزيرة الخارجية وكذلك الداخلية، اعتبرت قوات الاحتلال أنها قد حصلت على (تفويض مطلق)، لفعل ما يحلو لها من قتل وإبادة وتدمير، وهي مطمئنة على أنها لن تتعرض للمُساءلة القانونية.
وفي مؤتمر صحفي عُقد بالبيت الأبيض يوم 25 أكتوبر، زعم «بايدن»، أن «حماس» تختبئ وراء المدنيين، وبدلًا من التعبير عن ذعره، إزاء معاناة هؤلاء المدنيين وما حل بهم، تحدث عن تعاطفه لما يعنيه هذا الواقع من (عبء إضافي على إسرائيل)، ورغم علم المسؤولين الغربيين أن الحرب البرية على غزة التي بدأت يوم 28/10 تحصد المئات كل يوم من الشهداء إضافةً إلى سقوط الآلاف من الجرحى والمصابين مُنذ 7/10، فقد أيدوها ودعموها، وأكّد «بايدن»، أنه لم يطلب من «نتنياهو»، تأجيل أو إلغاء الغزو المخطط له، باعتبار أن (هذا هو قرارهم) وهذا يجافي الحقيقة، وفي حين تحدث «ماكرون»، عن أن مثل هذا الهجوم سيكون (خطأ)، كونه سيوقع خسائر كبيرة بين المدنيين، إلا أنه وصف ذلك بأنه (خيار لا مفر منه)، ويعتقد أن إسرائيل يحق لها اتخاذه.. ويُمثل دعمهم لهجوم عسكري واسع على قطاع غزة، (تعارضًا)، مع التزامهم المفترض بحماية المدنيين في جميع أنحاء العالم باعتبار أنهم أعضاء دائمون في مجلس الأمن، وعند مقارنته بإدانة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق «بوريس جونسون»، للجرائم التي ارتكبتها روسيا ضد المدنيين الأوكرانيين في 2022، يتجلّى بوضوح (المعايير الغربية المزدوجة)، تجاه حقوق الإنسان للفلسطينيين، ومع بدء قوات الاحتلال الغزو البري لغزة؛ فإن الخسائر البشرية في صفوف المدنيين ستمثل (فشلًا ذريعًا)، آخر للحكومات الغربية حول التمسك بشعاراتها كذبًا ونفاقًا المتعلقة بالدفاع عن السلام الدولي، والاستقرار وحقوق الإنسان، وحياة المدنيين.
وقد حذّرت «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (الأونروا)، من أنه من دون تقديم مساعدات إنسانية عاجلة لسكان غزة، فإن عملياتها ستتوقف، وسيكون كل النازحين من دون مساعدة، وبينما ادّعى «بايدن» كذبًا أنه (مفطور القلب) بسبب فقدان أرواح المدنيين الفلسطينيين؛ بدليل أنه شكك يوم 25 أكتوبر 2023 في عددهم، مُشيرًا إلى أنه (ليس لديه ثقة) في إحصائيات (الصحة الفلسطينية)، وأنه على الرغم من تأكده من وقوع ضحايا أبرياء، إلا أنه وصف ذلك، بأنه (ثمن شن الحرب)، وقبلها بخمسة أيام زعم بأنه لم ينس المقابر الجماعية، وآثار التعذيب، والآلاف من الأطفال الأوكرانيين الذين نُقلوا قسرًا إلى روسيا، وبوصفه هذه الانتهاكات بأنها (قاسية)؛ فقد فشل في مساواة الضحايا المدنيين في غزة والضفة، من حيث المأساة والجرم.
وبدلًا من إدانة الغزو البري الذي تقوم به إسرائيل ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة وتسعى إلى وقفه؛ أصدر القادة الغربيون، دعوات لها بالالتزام بالقوانين الدولية، مع علمهم بتاريخها الطويل في تجاهل وانتهاك القرارات الدولية والمواثيق والاتفاقات، وبينما تحدّث وزير الخارجية الأمريكي «بلينكن»، في الأمم المتحدة، عن الكيفية التي يجب بها على إسرائيل اتّخاذ جميع الاحتياطات لتجنّب إلحاق الأذى بالمدنيين، وبالمثل حثّها نظيره البريطاني «جيمس كليفرلي»، على إظهار الانضباط والكفاءة المهنية وضبط النفس؛ فإن «قوات الاحتلال»، تمضي قدمًا وتفعل ما تريد وهي تعلم أن الغرب لن ينتقد أفعالها، أو يحاسبها على جرائمها.
علاوةً على ذلك، كانت هناك حالة من اللامبالاة تجاه الإجراءات الدبلوماسية لإنهاء الحرب، أو توصيل المساعدات الإنسانية للمدنيين، وعندما التقى «سوناك»، بعدد من قادة المنطقة أواخر أكتوبر، تحدث عن مخاطر (عدوى الصراع) في الشرق الأوسط، والحاجة إلى بذل جهود مكثفة لوقف انتشار العنف المسلح في المنطقة، لكنه بدلًا من تأييد دعوات الوقف الفوري لوقف الحرب وبدء التفاوض، كان من بين المسؤولين الذين اقترحوا (هُدنة) إنسانية لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وهو ما يردّده «بايدن» والعديد من الزعماء الآخرين وهذا هو همهم الأول والأخير. وعلى الرغم من أن «الولايات المتحدة» والدول الغربية بشكلٍ عام، دائمًا ما تحاول تقديم نفسها، بوصفها الداعم الرئيسي للحريات وحقوق الإنسان في العالم، والمُحكم لحل النزاعات الدولية، فقد فشلت في تهدئة الصراع الحالي، ففي 15 أكتوبر، علق «بايدن»، بأن القضاء على كل من «حماس»، و«حزب الله»، كان دائمًا مطلبًا ضروريًا لكل من إسرائيل وأمريكا، وردًا على تصعيد هجمات المستوطنين الإسرائيليين ضد الفلسطينيين، والتي أدّت إلى استشهاد أكثر من 149 حتى كتابة هذه السطور، علّق بأن مثل هذا العنف (يجب أن يتوقف)، وأن من ينفذون مثل هذه الاعتداءات يجب أن يخضعوا للمُساءلة، مع أن بايدن يعلم أن واشنطن هي القوة القادرة على مُساءلتها حيال الانتهاكات والجرائم التي ترتكب، وهو ما لم ولن يحدث.
وفي أفعالها أيضًا، أظهرت الدول الغربية تقصيرًا واضحًا، في واجبها الدولي المتمثل في منع الصراعات وتخفيف المعاناة عن المدنيين، وفي منتصف أكتوبر، استخدمت أمريكا حق النقض (الفيتو)، ضد مشروع قرار في مجلس الأمن، يدعو إلى (هُدنة إنسانية)، وإنشاء منطقة آمنة لتوصيل المساعدات، وتم ذلك بالتزامن مع رفضها إدانة انتهاكات إسرائيل، وعدم الدعوة إلى وقف إطلاق النار، وأصرّت مُمثلتها في الأمم المتحدة «ليندا غرينفيلد»، على أنه بما أن القرار الأُممي لم يُشِر إلى حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، فإن «إدارة بايدن» لن تدعمه، وبالمثل، امتنع المُمثل البريطاني عن التصويت، لعدم إدانة القرار لـ«حماس».
بالمقابل، نرى بصيص أمل في تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريش»، التي أدان فيها حركة «حماس» بقتل وخطف مدنيين ولكنه أشار إلى أن هجماتها (لم تحدث من فراغ)، لأن الفلسطينيين تحت احتلال إسرائيلي (خانق) منذ 56 عامًا، وأضاف أن هجمات 7 أكتوبر لا تُبرر العقاب الجماعي الذي تشهده غزة باعتباره انتهاكا واضحا للقانون الإنساني الدولي، ووصف «غوتيريش» الأحوال البائسة التي يعيشها الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة مُنذ 1967، بالتهام أراضيهم وخنق اقتصادهم وتدمير منازلهم، وحالة من اليأس أصابتهم بسبب عدم التوصّل إلى حل سياسي لقضيتهم، وهناك تصريحات أخرى من الأمين العام السابق للحلف الأطلسي ووزير خارجية إسبانيا الأسبق «خافيير سولانا»، فقد اعتبر أن إسرائيل ترتكب جرائم حرب ضد الإنسانية في قطاع غزة، واتهمها بأن إنشاء حل الدولتين لم يكن في يوم من الأيام هدفًا لها، وطالب بوقف إطلاق النار وإنشاء ممرات إنسانية، ووجّه نقدا قويا إلى رئيسة المفوضية الأوروبية «أورسولا فون دير لاين»، متهمًا إياها بأنه بينما كان الاتحاد الأوروبي في مجمله يقوم بدور جيد، تميزت هي بنفاق شديد وبغياب الحس الإنساني، وذلك في إشارة إلى موقفها ضد الفلسطينيين ورفضها المطالبة بوقف النار.
وبشكلٍ عام، فإن أقوال وأفعال المسؤولين الغربيين تشير إلى انحيازهم الصارخ لإسرائيل فادّعاء «بايدن» بأنه يبحث عن (طريق للسلام الدائم)؛ لا أساس له من الصحة، نظرًا إلى تصاعد العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين خلال فترة رئاسته بأكملها، وفي حين اعترف «ماكرون»، بحقيقة أن هذا الصراع من المقرّر أن يكون (حربًا طويلة)، فقد صوّرها على أنها حالة اختبار للحضارة ضد الهمجية، وقال «بلينكن»، لمجلس الأمن الدولي، إن حياة كل مدني، سواء كانت إسرائيلية أو فلسطينية، ذات قيمة متساوية، لكن دعم الإدارة الأمريكية لإسرائيل بالمساعدات المالية والعسكرية، يُثبت أن هذا الادّعاء هو كلام غير جدّي.
على العموم، مع غياب القيادة الغربية عن عملية صنع السلام في الشرق الأوسط، وإخفاقها في التعامل مع ما يحدث من جرائم في غزة، وبدلًا من توجيه سؤال كيف ستنتهي دائرة الدماء، تضاءلت الثقة الدولية في «الولايات المتحدة»، وغيرها من الدول الأوروبية إلى الحد الذي باتت معه (مُنعدمة).
وهنا أختم بمقال للكاتب جدعون ليفي في صحيفة «هاآرتس» يوم 26/10/2023؛ من أن «الإسرائيليين يسألون: في أي دولة نريد العيش بعد 20 أو 30 سنة؟ هل في دولة ما زالت تستند إلى القوة العسكرية فتحوّلها إلى الدولة الأكثر إجرامًا في العالم، وسيؤدي ذلك إلى عنف مع العالم الإسلامي، واستمرار النزاع فيها سيؤدي إلى مواجهات عنيفة بين اليهود والعرب؟ أم في دولة تطبّق التعايش مع الفلسطينيين وتُقيم علاقات متشعبة مع دول الشرق الأوسط؟ ففي نهاية المطاف، سنتوصل إلى السلام مع الفلسطينيين، وإذا كان الأمر هكذا، فلماذا لا نبدأ في هذه الجهود الآن؟».
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك