في دورة من الدورات المتعلقة بالذكاء الإداري في المؤسسات، تركز حديثنا ذات مرة حول القيادة وصناعة القائد، فوجدت أنه من الطبيعي ونحن نتحدث عن القيادة أن نخصص يومًا تدريبيًا للتحدث حول المرأة القائدة، والكيفية التي يمكننا من خلالها أن نمنح المرأة الفرصة الكافية حتى تصبح قائدة مثلها مثل الرجل. فوجدت وأنا أبحث في المراجع حول هذا الموضوع العديد من النماذج المبهرة للمرأة القائدة، ودعوني أحدثكم اليوم عن واحدة من تلك النماذج الذكية جدًا، وهي الملكة بلقيس ملكة سبأ.
تحدثنا في مقال سابق عن سيدنا سليمان عليه السلام، وكيف أنه كان يتمتع بقدرة قيادية مذهلة، مكنته – بفضل من الله وتمكينه – من أمور كثيرة، ولا نريد أن نتحدث عنها ويمكن الرجوع إليها في مقال (نموذج إداري.. أصدقت أم كنت من الكاذبين؟) واليوم سنتحدث عن الطرف الآخر من الحكاية.
نفتح الستارة على خطاب سيدنا سليمان عليه السلام وهو بين يدي ملكة سبأ، يقول تعالى في سورة النمل (قَالَتْ يَا أيُّهَا الْمَلَأُ إنِّي ألْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) ألَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أيُّهَا الْمَلَأُ أفْتُونِي فِي أمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أولُو قُوَّةٍ وَأولُو بَأسٍ شَدِيدٍ وَالْأمْرُ إلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأمُرِينَ (33) قَالَتْ إنَّ الْمُلُوكَ إذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أعِزَّةَ أهْلِهَا أذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإنِّي مُرْسِلَةٌ إلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)) ثم يواصل، ويقول:
(فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأنَّهُ هُوَ وأوتينا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ اللَّهِ إنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رأتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قال إنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44))
ومن خلال هذه الآيات الكريمة يمكن أن نلخص بعضًا من صفاتها القيادية، مثل:
1. حسن التعامل مع الموضوعات والأمور، وإنزالها منازل الاهتمام وموقعها الذي يجب أن يكون؛ يقول الدكتور بكر بن محمد بن بكر عابد، في بحثه (الدور القيادي للمرأة وأثره في تعزيز مفهوم الحكمة والوسطية في ضوء القرآن الكريم)، إن من مظاهر القيادة التي أشار إليها القرآنُ في ملكة سبأ؛ حُسْنُ تعاملها مع الأمور، وإنزالُ كل شيء منزلتَه المستحقة. حيث نراها قد عظَّمت كتابَ سليمان عليه السلام، ووصفته بالكريم، والكَرَمُ – كما يقول البحث – اسم جامع لكلِّ ما يُحمَدُ ويُستَحسَنُ، ووصفُها الكتاب بالكريم فيه ثلاثة أوجه:
{ أحدُها: إنه كريم من جِهَة حُسْنِ مضمونه وما فيه.
{ وثانيها: إنه كريم لأنه من عند ملك كريم.
{ وثالثها: إنه كريم لأنه كان مختومًا.
كذلك أكَّدت الكلامَ بتَكرار حرفِ التأكُيد (إنَّ) مرتين، مُا يدل على اهتمامها بالأمر، قال ابنُ عاشور في كتابه (التحرير والتنوير – تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد): «والتأكُيد بـ(إنَّ) في الموضعين يُتَرْجِم عمَّا في كلامهما باللغة السَّبَئِيَّةِ مِن عباراتٍ دالَّةٍ على اهتمامها بمرسِل الكتاب، وبما تَضَمَّنهُ الكتابُ اهتمامًا يُؤَدَّى مِثْلُه في العربية الفصحى بحرف التأكُيدِ الذي يدُلُّ على الاهتمام في مقامٍ لا شَكَّ فيه».
2. حصافة وعلم ومعرفة بالناس والملوك والأحداث؛ ولم تصف هذا الكتاب بالكريم إلا لأنها كانت ذات علم وفراسة بالناس والبشر والملوك الذين كانوا يعيشون من حولها في تلك الفترة، وهذه صفة أخرى من صفات القائد المحنك.
3. البلاغة؛ ولم تصف الكتاب بالكريم، ولم تكرر (إنه) مرتين إلا لأنها كانت حصيفة وذات قدرة بلاغية كبيرة جدًا لتوضح لقومها ورعيتها أهمية هذا الكتاب الذي بين يديها، وذلك لتلفت نظرهم إلى الموضوع بهدف تركيز الاهتمام به.
4. الحرص على الرعية (أو فريق العمل) والعمل على مصالحها؛ يمكن أن نلاحظ من سياق الآيات أن الملكة لأنها ذات قدرة تحليلية على قراءة الواقع المحيط، خافت على رعيتها ومملكتها من سيدنا سليمان عليه السلام، فاجتمعت مع فريق العمل ومستشاريها، وقامت بمشاورتهم وأخذ رأيهم في موضوع هذا الخطاب.
5. الشورى؛ ومشورتهم هذا يعني أنها لم تستبد برأيها، ولم تتخذ القرار وحدها، وموضوع الشورى من الأمور والقضايا المهمة جدًا لدى القائد، وقد تحدثنا فيه كثيرًا جدًا.
6. معرفة الرعية (أو فريق العمل)، وهل هي ذات كفاءة لمواجهة نبي الله سليمان عليه السلام أم لا؟؛ من الواضح من خطابها واجتماعها مع الرعية والمستشارين أنها كانت على علم بقدراتها وإمكانيات جيشها ومملكتها، إلا أنها كانت ترغب في أن تسمع ذلك من قادة الجيش ومن الوزراء وغيرهم، بأنهم على استعداد تام، وذلك لأنها لم تكن حتى تلك اللحظة واثقة من ماهية سليمان؛ فهل هو ملك أم نبي؟
7. فريق عمل (المستشارين)؛ عندما يستشير القائد أفراد فريق العمل، فإن هذا يعني أنه فريق عمل متكامل يستحق أن يتم استشارته، وهو يعرف تمامًا أن هذا الفريق لن يخذله في المشورة والرأي، وكذلك المساهمة في التنفيذ. وإلا فكيف يعمل القائد من غير فريق عمل؟
8. أقامت جيشا منظما ودولة منظمة؛ عندما استشارت الملكة بلقيس المستشارين أوضحوا لها – على الرغم من أنها كانت تعرف – أنهم يملكون ذلك الجيش القوي الذي يصعب هزيمته، وهذا يعني أنها قامت ببناء هذا الجيش القوي، ومن المعروف أن الجيوش القوية لا تُبنى إلا في دول قوية ومنظمة، وهذا يعني أن الملكة قامت ببناء دولة منظمة وقوية وكذلك جيش قوي ومنظم، وهذا يعني أنها كانت ذات قدرة قيادية عالية المستوى وذات عقل منظم ومتحكم في الأمور.
9. الثقة في تفكيرها؛ وعلى الرغم من أن الملكة جمعت مستشاريها وقادة الجيش وكل فريق العمل، وربما بعد مباحثات طويلة وعرض كل الآراء، منحوها الثقة التامة لاتخاذ القرار، وهذا يعني أنهم كانوا على ثقة تامة بقدرتها على اتخاذ القرار المناسب لوطنها ورعيتها ولنفسها، وهذا يعني أيضًا أنهم كانوا على ثقة كبيرة في قدراتها العقلية والذهنية، فهي تستطيع أن توازن الأمور وأن تختار من بينها الأنسب.
10. قراءة الواقع، والمحيط؛ قامت بعد أن تم توكيل المهمة لها بقراءة الواقع والمحيط، ثم حاولت أن تتعرف على سيدنا سليمان عليه السلام، وهذا يعني أنها كانت على معرفة بأحوال الناس والملوك، وربما بقية البشر، وهذا يعني أيضًا أنها ذات عقلية وذات تفكير تحليلي، فأصبح بينها وبين سيدنا سليمان عليه السلام صراع عقول، فهي تريد أن تتعرف على ما هيه هذا الرجل الذي بعث لها خطاب يدعوها إلى الإسلام.
11. التفكير في (الهدية) للكشف عن نيات الرجل، هل هو نبي أم ملك ؟؛ ويأتي هذا الأمر من أجل أمرين:
{ تحليل شخصية نبي الله سيدنا سليمان عليه السلام، فهل هو ملك أم نبي، فبعض الملوك تهمهم الهدايا والأموال والذهب وما إلى ذلك، فإن كان ملكًا فإنه سوف يقبل الهدايا، ولكن إن كان نبيًّا فإنه سوف يرفض كل هذه الهدايا ويصر على طلبه.
{ الأمر الثاني: إنها كانت تريد أن تجنب رعيتها ومُلكها الحرب، فدخول الحرب أمر سهل، ولكن الانتصار فيه والخروج منه أمر صعب.
12. رسلها الذين حملوا الهدايا جواسيس من أجل دراسة شخصية سليمان عليه السلام؛ وهذا يعني أنهم كانوا مدربين، على كثير من الأمور منها دراسة أحوال البشر.
13. الذكاء؛ عندما قام صاحب العلم بإحضار العرش من اليمن إلى فلسطين في لحظة، أمر سيدنا سليمان عليه السلام أن يغيروا الشكل الخارجي للعرش، وبعدما دخلت في مكان اللقاء، وتم اللقاء بينها وبين نبي الله سليمان عليه السلام، قام باختبارها لدراستها وتحليل شخصيتها، فعرض عليها العرش، وسألها إن كان هذا هو عرشها أم لا، نحسب أنها سكتت لحظات لتحاول أن تستوعب الموقف والموضوع في عقلها، لأن وجود العرش هنا يعد خارج حدود المنطق والتحليل العلمي، فربما هذا يعني أنها لم تكن تؤمن بالسحر والخرافات والخزعبلات، ولا قدرات الجن وما إلى ذلك، لذلك نعتقد أنها سكتت لحظات ولم تطلق الحكم مباشرة، فصمتها ذكاء، وردها بعد أن استوعبت الموضوع وقامت بتحليله في عقلها أذكى من ذلك، لأنها لم تقل هو أو لا، فقالت (كأنه هو)، ثم سكتت.
14. ردود فعل سريعة وذكية؛ ومن الطبيعي أن قصر سيدنا سليمان كان من أجمل القصور آنذاك، وربما هو الأجمل على مدار التاريخ، وعلى الرغم من ذلك فإنها لم تحاول أن تنبهر، وذلك خوفًا من أن يسيطر عليها سيدنا سليمان عليه السلام، فحتى تلك اللحظة كان عقلها يحاول أن يحلل شخصية هذا الرجل، ولكن – كما قلنا – كان هناك صراع عقلي ما بينها وبين نبي الله عليه سلام، فكانت المفاجأة الأخيرة هو دخول الصرح، فانبهرت بصورة فطرية، واعتقدت أن الأرض التي سوف تسير عليها مصنوعة من الماء أو أنها ستدخل بركة ماء، فرفعت ملابسها محاولة لتجنب البلل، وهنا كشف لها سيدنا سليمان أن الأرض مصنوعة من الزجاج النقي جدًا.
15. الاعتراف بالخطأ؛ وحينئذ عرفت أنها تتعامل مع نبي مرسل من قبل الله سبحانه وتعالى، فآمنت، واعترفت أنها كانت على خطأ، والاعتراف بالخطأ أحد أهم سمات القادة.
هذه بعض الأمور التي وجدناها في شخصية هذه المرأة القائد، والتي يمكن أن تستفيد منها أي امرأة أن كانت تريد أن تصبح قائدة.
Zkhunji@hotmail.com
هل ترغب بالتعليق على الموضوع؟
لا تتردد في إعطاء تعليقك ومشاركة رأيك